يشعر العقل المركزي المغربي، ومعه العقل الاقتصادي، بأنه مازال منذ ما يقارب القرن من الزمن تحت رحمة مقولة المقيم العام الفرنسي تيودور ستيغ (وليس المقيم العام ليوطي، كما يعتقد كثيرون) التي مفادها أن التساقطات هي التي تحكم بالمغرب-تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية والبطالة والفساد والريع، كانت دليلا على أن الفائض الذي يحققه تدبير الشأن الاقتصادي غير قادر على مساعدة المغرب على اجتياز التحديات الآنية والمستقبلية. ورغم أن غالبية الدول التي لها عاصمات بحرية (براغ-فيينا-أمستردام-لندن) أفلحت في جذب البضائع والأفكار والأشخاص ونجحت كذلك في الانتقال من دول الريع إلى دول المقاولين، واحتلت بالتالي مكانتها في الاقتصاد العالمي، من خلال الانفتاح على الأفكار الجديدة وعلى التجارة وركوب المخاطر وعلى التجار (مقولة جاك أطالي)، لكن المغرب ورغم توفره على عاصمة بحرية وبحرين وقربه من أوروبا إلا أنه عجز عن النجاح باللحاق بركب الدول المتقدمة. قال رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية السابق ودرود ويلسون: "في مجتمع معقد سؤال الديمقراطية لا يتمثل فقط في كتابة الدستور وتحديد شكل إنتاج القوانين وتنظيم الانتخابات، بل يتطلب الأمر الذهاب إلى عمق الأشياء من أجل تنفيذ المصلحة العامة". العقل المركزي المغربي وأمام التطور السلبي للأوضاع الماكرو-اقتصادية والاجتماعية، تيقن أنه يجب الانتقال في بناء المشروعية من التركيز على شكل وطريقة اختيار المؤسسات، أو ما يطلق عليه بديمقراطية المساطر التي تعتمد على التركيز على المشروعية الشعبية (نظرية العقد الاجتماعي لجون جاك روسو)، إلى التركيز على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلب من السلطات العمومية تأسيس مشروعيتها على ما تقدمه هذه المؤسسات من خدمات للمجتمع (ليون ديغت) مما يعني التركيز على المصلحة العامة. إن جنوح العقل المركزي المغربي إلى مراجعة حقيبة الأفكار الاقتصادية بمحاولته التركيز في هذه الظرفية السياسية على المصلحة العامة، وليس على المشروعية الشعبية، يثبت أن العقل المركزي للدولة يتقن اللعب على حبل ثنائية "المشروعية الشعبية-المصلحة العامة"، ومن خلال ذلك يحاول العقل المركزي للدولة إحياء الصراع القديم بين الرأي والعقل والجموع والنخب، وكذلك الصراع القائم بين الممثلين القادمين من صناديق الاقتراع من خلال الانتخابات، والممثلين المعينين والمرتبطين بالعلم والذكاء والقدرة والخبرة والمعرفة، كما أن العقل المركزي للدولة كان يثبت أنه الوحيد القادر على اختيار الأصلح للمجتمع (هل النخب المنتخبة أم نخب الخبرة، وبالتالي هل سلطة الانتخاب أم سلطة الخبراء؟) انطلاقا من الظرفية السياسية والاقتصادية والمجتمعية التي يعيشها البلد. يقول بيير بورديو إن إحدى رهانات الصراع داخل حقل السلطة في لحظة معينة يتعلق بتغيير معدل سعر صرف نوع معين من الرأسمال، سواء من خلال فرض هذا الرأسمال لنفسه كقوة داخل بنية السلطة أو من خلال إعادة تجديد قيمة وسعر صرف هذا الرأسمال داخل هذه البنية، ويمكن الجزم بأن هذه المرحلة تتميز بارتفاع أسهم الرأسمال الاقتصادي داخل بنية السلطة. الاهتمام بالرأسمال الاقتصادي وتجديد قيمته وسعر صرف هذا الرأسمال كان يتمثل في دفع العقل الاقتصادي المغربي (العقل الاقتصادي التاريخي والعقل الاقتصادي المنبثق من صناديق الاقتراع-المركزي أو الجهوي-والعقل الاقتصادي المحايد والعقل الاقتصادي الخاص) إلى تجديد حقيبة أفكاره عبر البحث عن استراتيجية جديدة، وبالتالي لا يتعلق الأمر كما يظن كثيرون بلجنة النموذج التنموي فقط، فالأمر أكبر وأشمل من ذلك. البحث عن استراتيجية جديدة تعتمد على الانتقال من الحكامة المعتمدة على ثنائية الدولة-السوق، إلى الحكامة المعتمدة على ثلاثية الدولة-السوق-المجتمع المدني، يتطلب العمل على توسيع مجتمع الفاعلين المؤثرين في الحقول المختصة في إنتاج الخطاب حول الشأن الاقتصادي، كما أن هذه الاستراتيجية ركزت كذلك على الانتقال من الضمني (لم يكن المغرب يتوفر على نموذج تنموي واضح المعالم) إلى الواضح (المطالبة بنموذج مكتوب وواضح ومعلن-مع فتح الصراع النظري حول ما يجب فعله). اللجنة المكلفة بالنموذج التنموي تتشكل من المثقف والخبير والتقني، ولكن غالبيتهم ليس لهم جذور ولا ارتباطات سياسية (نظرية الباحث كارل منهيم التي واجه بها نظرية المثقف العضوي لغرامشي)، هذا الخيار كان يحمل في طياته الاعتماد على الحقول المختصة المطلوب منها إنتاج بناءات للعالم الاقتصادي والاجتماعي من طرف من يملكون قوة الشرح والتوضيح، حتى يقتنع الكل بصحة التقرير، لأنه تقرير صادر عن الخبراء أولا وثانيا لأنه قول السلطة، وهو ما أكد عليه جون بول سارتر من خلال عبارة: "القول الأكيد". "القول الأكيد" يمنح قوة للعقل المركزي من أجل مواجهة صعوبة الشأن الاقتصادي التي تتطلب الانتقال بسلاسة من مجموعة من الحقول الملغومة (الحقل السياسي-الحقل المالي-الحقل القانوني-الحقل العام-الحقل الخاص)، كما أكد على ذلك بيير بورديو. كما أن ضرورة مراجعة حقيبة أفكار العقل الاقتصادي والبحث عن حقيبة أفكار جديدة، كانت تستهدف إثبات قدرة العقل المركزي للدولة على أخذ المبادرة من المؤسسات الدولية المالية، مما حتم عليه النزول بكامل بثقله من أجل تجنب طريق سياسة التقويم الهيكلي من جديد، من خلال اقتراح بديل يستند إلى ابتكارات العقل الاقتصادي الجمعي الوطني، بكل ما يعنيه ذلك من سلك طريق الحل الوطني الداخلي الطوعي بدل الخيار الدولي القصري. 1. العقل الاقتصادي المغربي هو عقل بدون أساس إيديولوجي العقل الاقتصادي المغربي هو عقل تابع للعقل السياسي المركزي، وحيث إن العقل السياسي المركزي يبحث عن تثبيت التوازنات والتحالفات السياسية والمجتمعية والاقتصادية، فهو عقل يريد أن يتمتع بمرونة معينة في الخيارات الاقتصادية تجعله يدمج بين عقل كينز تارة وعقل شامبيتر وفريدمان تارة أخرى. التجارب الدولية الناجحة تعتمد في الغالب على التداول بين العقل الكينزي وعقل شامبيتر وفريدمان، مارغريت تاتشر، وبعد نجاحها في الانتخابات البريطانية، ولجت البرلمان وهي تحمل كتاب (la route de la servitude) للاقتصادي الكبير فريدريك حايك، وخاطبت البرلمانيين قائلة: "أنا مقتنعة بأفكار هذا الاقتصادي وسأطبقها"، مما يثبت أن غالبية الزعماء تتبنى أفكارا اقتصادية لمدرسة من المدارس، ولكن العقل السياسي المركزي والعقل الاقتصادي المغربي له ميزة وخاصية أنه عقل بدون أساس أيديولوجي. الاستراتيجية المعتمدة على الوجهين والمشي على الرجلين اليسرى واليمنى كانت تمنح للعقل المركزي المغربي أريحية تدبيرية تمكنه من مرونة في التعامل مع مطالب المجتمع المتنوعة والمتناقضة في بعض الأحيان، لأن خاصية السياسة ذات الوجهين أنها سياسية مكلفة تجعل صاحبها دائما يمشي على حافة الهاوية، وأقصى ما تمنحه هو تدبير من خلال ثنائية "الأزمة-الانفراج". العقل السياسي المغربي عندما كان يفتح الطريق أمام البحث عن نموذج اقتصادي جديد كان يعلن عن براغماتيه تجاه السياسات والنماذج الاقتصادية ومرونة في الاختيار، وبالتالي يعبر عن خياره في استعمال الرجل اليمنى والرجل اليسرى، كل هذا يؤكد أن العقل الاقتصادي المغربي هو مصلح بدون أساس اقتصادي، غياب مرتكزات أيديولوجية عن العقل الاقتصادي المغربي تجعله يتمتع بمرونة كبيرة في التعامل مع الأحداث والوقائع الاقتصادية، مما يجعله متحررا من عقدة الوفاء لإيديولوجية واحدة كباقي التيارات السياسية. ولكن رغم هذه المرونة، فان العقل الاقتصادي المغربي لم يستخدمها بشكل جيد من أجل خدمة الاقتصاد الوطني. غياب الحكامة الجيدة وغياب الابتكار والإبداع من داخل السياسة الاقتصادية ذات الوجهين أنتج مديونية كبيرة، وارتفاع الاحتجاجات الشعبية والمطالب الاجتماعية، وكذلك شبح الخضوع من جديد لتوصيات المؤسسات المالية الدولية، مما يهدد وجود واستمرارية هوية هذا العقل الذي لا يحمل أية هوية أيديولوجية. وبالتالي، وجد العقل المركزي للدولة نفسه مضطرا للقيام بمراجعة حقيبة أفكاره من أجل الحفاظ على هويته التي لا لون أيديولوجي لها، والتي مكنته في السابق من التأقلم والتكيف مع الوضعيات التدبيرية المختلفة والمتناقضة. 2. العقل الاقتصادي للدولة وبداية الانتقال من الخط الاقتصادي الضمني إلى الخط الاقتصادي الواضح العقل الاقتصادي المغربي يعي كذلك أن المسؤولية الملقاة على عاتقه ليست سهلة ولا هينة؛ فالتأثير على الحياة الاقتصادية مسألة جد معقدة، خصوصا وأن الفاعلين في السياسة الاقتصادية هم جد متنوعين ومن الصعب حصرهم، مما يجعلهم غير محددين وغير معروفين كما هو الشأن بالنسبة للفاعلين السياسيين، مما يبرز صعوبة المهام المطروحة على العقل الاقتصادي المغربي في المرحلة الراهنة. الإشارة الأولى من العقل المركزي للدولة في الانتقال من الخط الاقتصادي الضمني إلى الخط الاقتصادي الواضح، دشنته المؤسسة الملكية إبان ترؤسها للمجلس الوزاري عشية تقديم القانون المالي لسنة 2019 للبرلمان من أجل المصادقة عليه، حيث دعت إلى الحفاظ على التوازنات الماكرو-اقتصادية من خلال الاستمرار في تخفيض مستوى العجز المالي وتدبير يقضي على المديونية. المجلس الوزاري المنعقد في أكتوبر 2018 كان ضوءا أخضر لخروج مؤسسات الحكامة المالية إلى التوجه إلى الرأي العام الوطني بتصريحات وتقارير تحذر من المستوى الكبير للمديونية، سواء تعلق الأمر بالمجلس الأعلى للحسابات أو بنك المغرب، مما كان يعني ارتفاع أسهم رأسمال مؤسسات الحياد والحكامة والرقابة داخل بنية السلطة بشكل عام وداخل العقل الاقتصادي المغربي بشكل خاص. وقد كان التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات الخاص بسنة 2018، الذي أكد على ضرورة وضع أسس حكامة جيدة بالنسبة لكل مهام الدولة، سواء تعلق الأمر بالتخطيط أو البرمجة، أو التنفيذ أو الرقابة أو التقييم، التي يجب أن تهم كل مؤسسات الدولة المتنوعة. الإشارة الثانية المهمة تمثلت في دعوة المؤسسة الملكية إلى البحث عن نموذج تنموي جديد. 3. العقل الاقتصادي للدولة والبحث عن عقلنة الفعل الاقتصادي من أجل مواجهة النتائج السلبية لغياب التخطيط العقل المركزي للدولة كان يشعر بأن دور الدولة كمؤسس للاجتماعي من خلال التصرف كقوة قادرة على التنسيق بين مختلف المصالح العمومية الوظيفية، من أجل منح وجه فعلي وحقيقي لمفهوم الصالح العام، تراجع بشكل كبير، مما يتطلب القيام بشكل فوري بعملية الترميم وإعادة البناء. العقل المركزي للدولة كان يشعر كذلك بأنه في حاجة إلى الأخذ بعين الاعتبار المصالح البنيوية للدولة (التي تتجاوز المدى القصير المفضل لدى الطبقة السياسية)، مما يتطلب البحث عن كهنة المدى الطويل (كما سماهم التكنوقراطي الفرنسي سيمون نورا)، الذين وحدهم يملكون القدرة على الإجابة على أسئلة العمق التي تهم قيادة الدولة. وبالتالي، برزت الحقيقة الكبرى المتمثلة في أن النمو المتناسق والنمو المستمر والمتصاعد هو في حاجة إلى ما سماه الباحثان جون فريدمان وبيير هيردزوك تفعيل العقل داخل التاريخ، أو عقلنة الفعل من خلال الاعتماد على الأفكار الجامعة والفعل الاستراتيجي لمواجهة استراتيجية العشوائية واستراتيجية الحظ. في التجارب السابقة كانت تتم مواجهة استراتيجية العشوائية واستراتيجية الحظ من خلال الاعتماد على استراتيجية التخطيط، ولكن التخطيط غاب عن أجندة العقل الاقتصادي للدولة منذ حكومة التناوب. لم يكن غياب التخطيط فعلا اعتباطيا وغير مدروس، بل كان نتيجة لإيمان راسخ لدى العقل المركزي للدولة وجزء من العقل الاقتصادي بالنظرية النيولبيرالية التي لا تعطي اهتماما كبيرا للتخطيط وتستبدله بسياسة التحفيز الميكرو-اقتصادية، لأن النيولبيرالية تعتمد على فن للحكم تحفيزي متعدد المراكز يحل محل السلطة المعتمدة على التخطيط والمركزية المفرطة. التخطيط هو في حقيقة الأمر عقلنة منهجية لكل أو لجزء من النظام الاجتماعي، خصوصا وأن التطور الاجتماعي جعل مفهوم التضامن الميكانيكي يترك مكانه للتضامن العضوي، مما يقتضي الاعتراف بأن المجتمع يتطلب درجة مرتفعة من التنظيم الاجتماعي (الباحث ليسيان نيزار)، مجهود الدولة من أجل قيادة وتوجيه التطور الاقتصادي والاجتماعي يدفعها إلى تجريب شكل من التدخل يهم مجموع المجتمع. التراجع عن التخطيط هو في نظر التكنقراطي الفرنسي (بيير ماسي) اعتماد كلي على الحظ، استراتيجية الحظ غيبت العقلنة التي يتطلبها برنامج الفعل الذي يخص أساسا المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كما أن استراتيجية الحظ لم تمكن من تجاوز التناقض الحاصل ما بين مؤسسات التمثيلية السياسية التقليدية والتمثيلية الاقتصادية والاجتماعية. فكرة إنشاء لجنة النموذج التنموي كانت في الحقيقة نوعا من البحث عن العقلنة المطلوبة، وكانت كذلك رسالة بأن عقل الدولة في المرحلة الحالية غير متحمس للعودة للتخطيط. 4. العقل الاقتصادي للدولة والانتقال من ثنائية رئيس الحكومة وزير المالية من الحزب نفسه إلى ثنائية جديدة تعتمد على والي بنك المغرب وزير المالية اقتناع العقل المركزي للدولة بالمغرب بثنائية "وزير المالية-والي بنك المغرب" ليس اقتناعا من فراغ، بل اقتناع بتجربة ألمانية اقتنعت منذ البداية بالدور المركزي الذي تلعبه القاعدة الدستورية. اعتبر الساسة الألمان أن جزء من الشأن المالي والاقتصادي من المفروض دسترته. دسترة الشأن المالي كانت تمثل قناعة راسخة لدى الساسة الألمان، اعتقادا منهم بأن التضخم واستقرار الأسعار ليس شأنا تقنيا وماليا فقط، بل يمثل في واقع الأمر استمرارا للعقد الاجتماعي، ويعمل كذلك على ترسيخ النظام العادل، ويمثل بذلك حجما ديمقراطيا يؤسس لوحدة واستقرار البلد، ويعمل على ضمان استقرار الأسعار في الزمن من الأغلبيات السياسية المتعاقبة على الحكم، ومن أجل ذلك عمل الساسة الألمان على خلق البنك المركزي وتم منح هذا البنك استقلالية يستمد منها مشروعيته. منح الاستقلالية للبنك المركزي الألماني كانت تستهدف كذلك ترسيخ تحجيم السلطة السياسية الشعبية لصالح سلطة الخبراء، مما يعمل على منح البنك المركزي سلطة تجسيد المبادئ السياسية الأساسية، من خلال علاقة مباشرة بين المؤسسة المالية والشعب، في أفق منح معنى ومغزى لأسس بناء العقد الاجتماعي. في المغرب لم يتم التأسيس دستوريا للمبادئ الاقتصادية، ولكن العقل المركزي للدولة منذ استقلال المغرب اعتمد على الثنائيتين "رئيس المجلس أو وزير أول أو رئيس حكومة-وزير الاقتصاد والمالية"، و"العقل المركزي والعقل الاقتصادي للدولة -وزير الاقتصاد والمالية"، ولكن مراجعة حقيبة الأفكار المتعلقة بالعقل الاقتصادي تجنح حاضرا ومستقبلا إلى الاعتماد على ثنائية جديدة "والي بنك المغرب-وزير الاقتصاد والمالية". ترسيخ هذه الثنائية بالمغرب لا يمكن أن يتم دون منح قوة فعلية في الواقع لبنك المغرب ووالي بنك المغرب في رسم الخريطة المالية والاقتصادية الأساسية، ومنحه دورا وفيتو فعليا على الشأن المالي والاقتصادي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمس بالعقد الاجتماعي. الاعتماد على هذه الثنائية كان نتيجة من جهة لكون البرنامج الاقتصادي للحكومة لم يستطع أن يتجاوز ذلك الحضور اللحظي الدستوري (ديمقراطية المسطرة الدستورية) من أجل منح الشرعية للحكومات الجديدة. وبالتالي، لم يتم تجسيد هذه البرامج كسياسات عمومية فعلية تمنح التناسق والاندماج للفعل العمومي للدولة. وإذا كانت ثنائية "رئيس الحكومة -وزير المالية" من الحزب نفسه تمنح نوعا من التحالف بين ثنائية "السياسة –الاقتصاد"، إلا أن الثنائية الجديدة المعتمدة "وزير الاقتصاد والمالية-والي بنك المغرب" من طرف العقل المركزي للدولة تستهدف ترسيخ الخيارات الاقتصادية الاستراتيجية المحايدة، أو في أقصى الحالات الخيارات الاقتصادية الثنائية المتوافق عليها من طرف العقل الاقتصادي المحايد والمعين والعقل الاقتصادي الحكومي المنتخب. 5. العقل المركزي للدولة وتعزيز العقل المالي الحكومي بناء وترسيخ ثنائية "وزير المالية-والي بنك المغرب" كان يتطلب ليس فقط تقوية دور بنك المغرب في المساهمة في رسم الخريطة المالية والاقتصادية، بل كذلك تقوية دور وزارة الاقتصاد والمالية من خلال توسيع نفوذها وسلطتها. التعديل الحكومي للتاسع من أكتوبر 2019، شكل لحظة مهمة في مسلسل مراجعة حقيبة أفكار العقل الاقتصادي المغربي، هذه المراجعة تجسدت من خلال التغيير الذي شهده قطاع الاقتصاد والمالية، والذي استهدف العقل السياسي من ورائه تهييئ الظروف القبلية التي تمنح القوة اللازمة لجزء من العقل الاقتصادي المغربي المتمثل في وزارة المالية. التعديل الحكومي استهدف منح المالية قطاع الشؤون العامة والحكامة وكذلك قطاعا إداريا تقليديا يرمز إلى مرحلة من تاريخ المغرب تميزت بقوة الموظفين، سواء كتكنوقراط أو منخرطين في هياكل إدارية تمثل خطا أحمر بالنسبة للنقابات، أو كقوة نقابية، لقد شكلت وزارة الوظيفة العمومية حجرة عثرة أمام ترسيخ مغرب الرأسمال ومغرب العقد ومغرب المتعاقد، من خلال مساندة مغرب الموظفين ومغرب الأنظمة الأساسية ومغرب القرار الإداري ومغرب الدولة الإدارية، مما يحتم على المتتبع عدم المرور مرور الكرام على اختفاء الوزارة المنتدبة المكلفة بالوظيفة العمومية من جهة، ومن جهة أخرى دمج هذه الوزارة المنتدبة مع وزارة الاقتصاد والمالية، بكل ما يعنيه ذلك من رسائل سياسية للداخل والخارج، أهمها أن النموذج التنموي المقبل سيتم صياغته بعيدا عن عقلية الأنظمة والهياكل وثقافة الوظيفة العمومية وفي إطار نوع من المساواة بين العاملين بالقطاع العام والعاملين بالقطاع الخاص من جهة، ومن جهة أخرى رفع أسهم الرأسمال الاقتصادي لفاعل مهم داخل الحقل الاقتصادي المغربي، يساعد هذا الحقل على القيام بالمهام التي ستطلب منه في المستقبل. 6. العقل الأكاديمي للدولة وفتح الطريق نحو التجارب الأسيوية مسلسل مراجعة حقيبة الأفكار المتعلقة بالعقل الاقتصادي يدفعنا كذلك إلى عدم إغفال موضوع الدورة العادية السادسة والأربعين التي عقدتها أكاديمية المملكة تحت عنوان "آسيا أفقا للتفكير". هذه الدورة خصصت لدراسة ومعالجة التجارب الحداثية والتنموية في الصين، وخصوصا الدور الذي يمكن أن يلعبه طريق الحرير في التعاون الأسيوي الإفريقي. هذه الدورة كان العقل المركزي للدولة يوظف فيها العقل الأكاديمي للمملكة لتوجيه رسالة للشركاء الاقتصاديين، مفادها أن المملكة لا تستثني من تفكيرها إمكانية التوجه نحو القارة الأسيوية، كما أن العقل الأكاديمي للمملكة كان يفتح الآفاق أمام لجنة النموذج التنموي المغربي للتفكير في نماذج وتجارب دولية لا تستثني النموذج الأسيوي. وهكذا تم توجيه رسائل في اتجاهات متعددة، منها رسالة إلى جزء من العقل الاقتصادي المغربي الذي ما زال متيما منذ الاستقلال بالتجربة الفرنسية، مفادها أن لحظة القطع مع نقل تجارب العقل الاقتصادي الفرنسي قد تحدث وإن بشكل تدريجي (رغم أن هذه الرسالة لم تمر دون رد من فرنسا التي طالبت بعودة استثماراتها في صناعة السيارات). وبالتالي، كان العقل الأكاديمي المغربي يفتح الطريق أمام إمكانية تنويع الخيارات ويفتح الطريق في اتجاهات وتجارب تنموية جديدة وناجحة، وإن لم تتحول هذه الخيارات من مرحلة الرسائل إلى مرحلة الأفعال. المراجعة مست كذلك فتح النقاش من طرف جزء من العقل الاقتصادي المغربي للجدوى الاقتصادية لاتفاقيات التبادل الحر، خصوصا وأن هذه الأخيرة لم تقدم القيمة المضافة للمغرب. العقل المركزي للدولة كان يوجه من خلال ذلك رسالة مبطنة إلى شركائه في اتفاقيات التبادل الحر من أجل الأخذ بعين الاعتبار وضعيته الصعبة وبحثه عن نموذج تنموي ويدفعهم للعمل على تحسين الشروط الاقتصادية في هذه الاتفاقات بما يضمن ويجسد وضعية "رابح-رابح". 7. المادة التاسعة من القانون المالي وترسيخ العقلنة البيروقراطية ضدا على العقلنة القضائية لا يمكن تعزيز ديمقراطية الرأي والخبراء والأفكار دون تعزيز سلطة التكنوقراط من خلال تعزيز سلطتهم على مستوى العقلنة البيروقراطية. تجسيد هذه العقلنة تم من خلال مشروع قانون المالية، وخصوصا المادة التاسعة منه التي أحدثت نقاشات صاخبة. من خلال المادة التاسعة من القانون المالي أراد العقل الاقتصادي المغربي بعث رسالة واضحة للسلطة والعقل القضائي للمملكة مفادها أن القرار المالي، وخصوصا فيما يتعلق بالالتزام، هو قرار يخضع لسلطة العقل المالي ولتقديراته التدبيرية، وأن هذه السلطة غير قابلة للاقتسام مع السلطة القضائية إلا في الحدود التي يرسمها المشرع المالي (الاعتمادات) وليس المشرع القانوني. الفلسفة العامة للمادة التاسعة لا يمكن فهمها كذلك إلا في إطار الرغبة السياسية للعقل المركزي للدولة في تقليم أظافر العقلنة القضائية لصالح العقلنة البيروقراطية، فالعقل السياسي المغربي كان يؤكد في هذا السياق تشبثه بالنهج الكينزي المعتمد على العقلنة البيروقراطية والتضخم التنظيمي الإداري، بينما تركز النيولبرالية على العقلنة من خلال الاحتكام للقضاء (ميشيل فوكو). لم تخل هاته الرسالة من تأكيد كون العقل الاقتصادي المغربي هو عقل دون هوية أيديولوجية اقتصادية، وأنه عقل يتقن اللعب على الحبلين حسب ما تتطلبه الظروف والوقائع. 8. العقل الاقتصادي المغربي وبعث الروح في تمثيلية المعرفة قال السياسي الفرنسي شاطوبريون إن "السلطات المنتخبة هي في الغالب سلطات بدون أفكار، كما أن السلطات المنتخبة ليست أفضل من باقي المؤسسات، بل قد تكون الأسوأ". أما بيير روزنفلون فيؤكد أن السلطات المنبثقة من صناديق الاقتراع لا تمتلك المشروعية في نظر المواطن، بل إن المشروعية الديمقراطية في العصر الحاضر صارت تستند إلى ما يطلق عليه بمشروعية الحياد، من خلال خلق المؤسسات الإدارية المستقلة أو مؤسسات الحكامة (المجلس الاقتصادي والاجتماعي-بنك المغرب-مؤسسة الوسيط....)، وكذلك مشروعية التفكير (المجلس الدستوري...)، وهي المؤسسات التي تمكن من منح الكلمة والحقوق للأقليات وتبحث عن الحلول الواسعة والمعقلنة للمصلحة العامة وتحد من النتائج السلبية لديكتاتورية الفعل الأغلبي السياسي، من خلال العمل على حماية حقوق الأفراد والمبادئ الأساسية. كما تم الاعتماد كذلك على ما يطلق عليه مشروعية القرب، وهي المشروعية التي تعتمد على خلق مساحات للحوار المتعدد والمختلف وغير الممركز ما بين الحاكمين والمحكومين، مشروعية القرب تستهدف خلق وتعزيز أجواء الثقة والشفافية والمصداقية، وتعتمد كذلك على ديمقراطية الحجج. غياب المدى المتوسط وغياب التخطيط، غيب فعليا التنسيق المطلوب والضروري بين المحيط المكون من النظام السياسي (وهو النظام الذي يسهر على التضامن الاجتماعي)، والنظام الاقتصادي (وهو النظام الذي ينتج الأشياء)، وكذلك النظام الاجتماعي (وهو النظام الذي ينتج الإنسان). غياب التنسيق كان نتيجة طبيعية لعجز النظام السياسي عن صياغة برنامج يحقق التوازن المطلوب ما بين الطلبات التي يعبر عنها النظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي. العقل المركزي للدولة عمل على بعث الروح في المؤسسات والهيئات واللجان التي أطلق عليها بيير روزنفلون عملية بعث الروح في المؤسسات المواجهة لمؤسسات الأغلبية؛ بعث الروح في هذا النوع من المؤسسات واللجان والهيئات هو عمليا تجاوز أو تكملة للديمقراطية المعتمدة على الأرقام والفعل الأغلبي بديمقراطية التحليل والرأي والعلم ونتائج صراع الرأي والرأي المضاد وديمقراطية الخبراء والمختصين. قوة هذا النوع من الديمقراطية تتمثل في قدرتها على الوصول إلى تحقيق الأهداف التي لم تستطع ديمقراطية العدد والأغلبية تحقيقها من خلال مشاهد النقاش العمومي السياسي. إذا كان الاقتصادي "james bouchanan"، صاحب جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 1986، قد طالب بدسترة الاقتصاد مؤكدا أن الدسترة الاقتصادية تعني المزيد من الديمقراطية، فإن الفائزين بجائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2004 "kydland-prescot"، قد أكدا كذلك أنه من المفروض من أجل حسن التدبير تقليص مجال تحرك الحاكمين القادمين من صناديق الاقتراع حتى لا يتخذوا قرارات ظرفية مرتبطة بالأجندة الانتخابية أو قرارات تحت تأثير سلطة اللوبيات، خصوصا في ميدان السياسة النقدية والسياسة الضريبية. وبالتالي، طالبا بحكومة تشتغل انطلاقا من قواعد واضحة ومحددة، وليس حكومة تشتغل انطلاقا من سلطات تقديرية. في المغرب ارتفعت أصوات من المجتمع المدني تشكك في مدى حيادية ومدى ارتباط الإجراءات الاقتصادية للعقل الاقتصادي المغربي، الشيء الذي دفع العقل المركزي للدولة وإن لم يذهب في اتجاه الدسترة الاقتصادية، إلا أنه عبَّد الطريق أمام الأجهزة الإدارية المحايدة لتعزيز دورها في مسلسل اتخاذ القرار الاقتصادي. 10. عقل القطاع الخاص وعقل رجال الأعمال في مواجهة المشروع الجديد للعقل الاقتصادي عقل القطاع الخاص المتشبع بنظرية آدم سميت المعتمدة على مفهوم اليد الخفية للسوق له قناعة راسخة بأن نظام السوق هو الوحيد القادر على تأسيس فعلي للحكومة. السوق بالنسبة لعقل القطاع الخاص هو النظام الخفي القادر لوحده على تحقيق التوازن. وبالتالي، يرفض هذا العقل أي تدخل للدولة في الاقتصاد. بالنسبة للاقتصادي النيولبيرالي "حايك"، فإن المجتمع غير موجود، وهكذا يرى هذا الاقتصادي أن المجتمع ليس شخصا قادرا على الفعل والتصرف وهو فقط بنية منظمة لمجموعة من الأنشطة يمكن ملاحظتها (كتاب الاقتصادي حايك: الحق والتشريع والحرية)، تشبث عقل السوق بنظرية اليد الخفية وإنكاره لوجود المجتمع هو استراتيجية ذكية من هذا العقل الذي يحاول من خلال ذلك إنكار أي دور للمجتمع السياسي وأي دور للمجتمع المدني، وحتى بالنسبة للمجتمع الاقتصادي، فعقل السوق يطالب فقط بترك اليد الخفية تفعل فعلها من أجل تحقيق التوازن العام. مسلحا بقناعة راسخة بأن اليد الخفية تتمتع بقدرات ربانية في إعادة التوازن وبغياب المجتمع، فتح عقل السوق وعقل القطاع الخاص نيران مدفعيته باتجاه الإجراءات والمشاريع التي أعلن العقل المركزي للدولة عن القيام بها من أجل التدخل وتصحيح الأوضاع، من خلال مراجعة حقيبة الأفكار. مواجهة حقيبة الأفكار الجديدة لعقل الدولة المركزي وعقلها الاقتصادي من طرف عقل السوق، لم يعتمد فيها هذا الأخير على استراتيجية ترك اليد الخفية للسوق تقوم بعملها الميكانيكي بكل حرية، بل واجه هذه الأفكار من خلال التسلح بثنائية المنافسة والمصلحة العامة، وضمنيا كانت قوى السوق تلوح بتحالف جديد يشمل الرأسمال المنظم والطبقة المتوسطة والموظفين. تجليات هذا الصراع تمثلت من خلال الرد القوي على من يرفعون شعار مراجعة أو إلغاء الاتفاقات التجارية، بكونها قوى تريد العودة بنا إلى عصر الحماية وإلى القرن الثامن عشر، وهي قوى تريد الحماية وإلغاء المنافسة من أجل أن تحدد بشكل أحادي الأثمان وتعمل من خلال ذلك على الاسترزاق بشكل مستمر من جيوب المواطنين البسطاء (عقل السوق يستعمل المصلحة العامة)، بدل الاستعداد لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين والاستعداد الفعلي للمنافسة (عقل السوق يدافع عن اليد الخفية). وحتى عندما تدخل والي بنك المغرب (مؤسسات الحكامة ومؤسسات الحياد) من أجل مساندة الرأي الداعي لمراجعة اتفاقيات التبادل الحر، تلقى ضربات قوية من عقل السوق مفادها أنه المسؤول الأول عن نظرية الدرهم القوي وهو يعلم بالتالي أن الدرهم القوي هو الذي يفتح الطريق السيَّار على مصراعيه أمام الصادرات التركية وباقي الصادرات من أجل ولوج السوق المغربي (افتتاحية جريدة "ليكونوميست" المعبرة إلى حد ما عن آراء جزء من الباطرونا المغربية)، مما دفع أصحاب مراجعة الاتفاقات التجارية إلى ابتلاع لسانهم، والاكتفاء برفع رسم الاستيراد أمام بعض الصادرات التركية ابتداء من فاتح يناير 2020. عقل القطاع الخاص وعقل رجال الأعمال فتح النار كذلك على عجز العقل المركزي للدولة عن اتخاذ الإجراءات المطلوبة في مواجهة القطاع غير المهيكل. وفي هذا السياق، اعتبر عقل السوق أن المجتمع السياسي يوفر الحماية للقطاع غير المهيكل. هذه الحماية لا تروق لجزء من قوى السوق التي ترى أن الدولة عليها أن تتبنى سياسة محاربة القطاع غير المهيكل، وليس سياسة الدمج الجزئي له، خصوصا وأنه في نظر الباطرونا، فان ما يقارب تسعة ملايين شخص يشتغلون في القطاع غير المهيكل، وبالتالي لا يستفيدون من التغطية الصحية، مما يدفع غالبيتهم إلى التحول إلى نظام "الراميد". عقل القطاع الخاص وعقل رجال الأعمال وجه نيران مدفعيته كذلك إلى بطء العقل الاقتصادي المغربي في التحرك (افتتاحية جريدة "لوكونميست")، متهمة هذا العقل بأنه ينتظر دون أن يعرف ماذا ينتظر، وهكذا وضح هذا العقل أن الكل يعرف فشل نظام راميد، الذي أفشل معه كذلك المنظومة الصحية، وذلك منذ بداية الألفية الثالثة، ولكن مازال الكل ينتظر تحرك هذا العقل من أجل الاعتراف بذلك والقيام بالإصلاح والمراجعة. عقل القطاع الخاص وعقل رجال الأعمال وجه سهامه كذلك لطريقة تعامل العقل المركزي للدولة والعقل الاقتصادي مع ملف لاسمير؛ فمن فشل كيفية الخوصصة إلى التلوث الذي يحدثه هذا المعمل والخسائر التي يراكمها، إلى ولوج الملف للمسطرة القضائية، إلى انتظار أحكام القضاء، كما لو أن البلد لا تملك حكومة، أو أن الحكومة لا تستطيع اتخاذ القرار أو أنها لا تمتلك الأساس وهو حس المصلحة العامة. واصل عقل الباطرونا المغربية انتقاداته للعقل المركزي للدولة والعقل الاقتصادي، منتقدا بشدة البطء في التعامل مع ملف الاستيلاء على العقارات العامة والخاصة، خصوصا وأن عقل رجال الأعمال وعقل القطاع الخاص يعتبر قضية حماية الملكية الخاصة قضية مقدسة، وعند المس بها من المفروض على عقل الدولة أن يتحرك بقوة وبسرعة للضرب بيد من حديد على من يستهدفون حرمة الملكية الخاصة، لهذا لم يستسغ عقل الباطرونا عجز القضاء عن الحسم بسرعة في هذا الملف. دخول عقل السوق في مواجهة مباشرة مع عقل الدولة كان رسائل تحذير واضحة من أن عقل السوق غير قادر على تحمل سياسة غرفة الانتظار، لأن عقل السوق مقتنع بأن كلفة سياسة غرفة الانتظار على مستوى الشأن الاقتصادي أكبر بكثير من كلفتها على مستوى الشأن السياسي، كما أن عقل السوق كان يعبر عن رفضه المطلق المس باليد الخفية التي تعيد التوازن بشكل آلي للسوق، ومن خلال توجيه نيران مدفعيته لممثل مؤسسات الحياد ووالي بنك المغرب، كان عقل السوق يثبت كذلك رفضه لثنائية "بنك المغرب-وزارة الاقتصاد والمالية"، لأن عقل السوق يرى أن مؤسسات الحياد قد يصعب احتواؤها وقد ترفض مجموعة من المكاسب الإيجابية التي تحققها اللقاءات والمفاوضات التي تسبق تقديم مشروع القانون المالي، حيث يضطر العقل الاقتصادي الحكومي لتلبية مجموعة من مطالب لوبي السوق، كما أن عقل السوق يعتقد أن الوجه لوجه بين عقل السوق والعقل الاقتصادي للحكومة هو أهون وأسهل من الوجه لوجه بين عقل السوق والعقل الاقتصادي المحايد. 11. العقل الاقتصادي المغربي والبحث عن عقد اقتصادي جديد فلسفة العقد الاجتماعي الذي تم تبنيه في المغرب منذ الاستقلال كانت مستمدة من نهج البرنامج الوطني للمقاومة الفرنسية، الذي استهدف وضع الاقتصاد تحت سلطة الدولة وتطوير الحماية الاجتماعية من خلال قانون، وخلق نقابات قوية ومستقلة، هذه الاستراتيجية كانت تستهدف ترسيخ أولوية العمل على الرأسمال، وتفرض من خلال القانون هذه القوة، وهكذا وضعت هذه الاستراتيجية الرأسمال في موقع المدافع، وجعلت الحوار الاجتماعي يحمل دائما أجندة مرتبطة بالأساس بخدمة العمل. فن الحوار الاجتماعي استخدم لخدمة العمل والسلم الاجتماعي، وكان مرادفا للثمن الذي سيدفعه الرأسمال للعمل (وفي هذا السياق نستحضر مقولة جاك دولور عند دفاعه عن مشروع التكوين المهني سنة 1971، عندما قال صراحة إن "الحوار الاجتماعي هو الوسيلة الأساسية من أجل تطوير وتحسين شروط عيش الموظفين"). هذا التوجه سيتقوى أكثر من خلال حضور الأيديولوجية الماركسية لدى العديد من قادة النقابات، خصوصا وأن الراتب بالنسبة للنظرية الماركسية لا يعكس الندرة النسبية، ولكن يمكن تحديده في أي مستوى لأنه نتاج صراع القوى. وبالتالي، يرفض أصحاب هذه الأيديولوجية أي ربط بين قيمة العمل والشغل، ويعتبرون ذلك غير أخلاقي، مما عمل على التحليق بالعمل خارج الدورة الاقتصادية من خلال وضعه في ميزان القوى بين الدولة والنقابات. وقد كان الموظفون يلعبون دورا أساسيا في التفاوض وحماية أنظمتهم ووظائفهم، ولكن تراجع العقل الحزبي والعقل النقابي ساهم في تراجع العقل المرتبط بالوظيفة العمومية داخل الأحزاب والنقابات، كما أن دمج الوظيفة العمومية داخل وزارة الاقتصاد والمالية سيساهم في تعزيز هذا التوجه، من خلال الانتقال من دولة الموظفين "تحالف عقل الدولة مع عقل الموظفين" إلى دولة القطاع غير المهيكل وتحالف "عقل الدولة مع عقل القطاع غير مهيكل". لم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل امتد إلى دفع جيش القطاع غير المنظم إلى تخريب النظام الصحي الاجتماعي واستكمل العقل الفئوي للدولة العملية من خلال ضرب النظام التعليمي المجاني، وهنا وجب التأكيد أن النظام الصحي الاجتماعي والنظام التعليمي المجاني يمثلان فخر منجزات دولة الموظفين والطبقة المتوسطة. مراجعة حقيبة الأفكار المعتمدة من طرف العقل الاقتصادي والعقل المركزي للدولة في المغرب ينضاف إليها واقع التشرذم النقابي وضعف الأحزاب، سيساهم في فتح الآفاق أمام حوار اجتماعي يركز على حضور المصالح السوسيو-اقتصادية وعلى الحوار مع مجموعة من الأسواق السياسية. وبالتالي، حوار اجتماعي يركز على الرأسمال على حساب العمل (وفي هذا السياق يندرج مشروع القانون التنظيمي للإضراب والإجراءات المرتبطة بتسريع أداء ديون المؤسسات الخاصة والمتعاملين مع الدولة والاعفاءات الضريبية الضخمة). وبالنتيجة، فإن أقصى ما يمكن أن يمنح للتمثيلية الاجتماعية في المغرب، التي مازالت لم تستوعب ما يجري، هو عقد إضافي ملحق بالعقد الاجتماعي الأساسي مع الرأسمال. العقل المركزي للدولة اختار طريقا مغايرا لمراجعة حقيبة أفكاره في أفق البحث عن نموذج تنموي جديد، من خلال الاعتماد على حكامة مشتركة ما بين الدولة والسوق والمجتمع المدني، وهكذا يعطي العقل المركزي للدولة إشارات قوية مفادها أنه مستعد للتراجع عن حكامته السابقة المعتمدة على الأبوية والإكراه، من أجل شراكة جديدة يستهدف من ورائها العقل المركزي للدولة البحث عن نموذج للحكامة والشراكة قادر على حشد وتعبئة ليس قوى الدولة والسوق، بل وكذلك قوى المجتمع المدني من خلال الضغط على بعض قوى السوق المنغلقة التي لها شهية غير محدودة نحو الحماية والإعانة والإعفاء الضريبي دون أية قيمة مضافة مجتمعية. وضع قوى السوق في مواجهة قوى المجتمع المدني كان يستهدف كذلك تأجيج الصراع بين اليد الخفية والعقد الاجتماعي والمصلحة العامة، وهكذا طبق العقل المركزي للدولة استراتيجية الحائط في مواجهة الحائط، هذه المواجهة تختتم في الغالب بالتحكيم، ومن خلال التحكيم يعود الكل إلى البحث عن الإجماع أو الحكامة المشتركة. في التجارب الديمقراطية، يتم بناء الحكامة المشتركة التي لا تستهدف فقط إضافة المجتمع المدني، بل تتطلب التأسيس لإعادة صياغة دور كل طرف في عملية البناء السياسي والاقتصادي، من خلال تجاوز الحكامة العمودية وبناء أسس حكامة أفقية. الخلاصة الباحث آن فليب (في كتابه سياسة الحضور اوكسفورد 1995)، كان قد نظر لما أطلق عليه تناقض "سياسة الحضور"، الحضور يوم التصويت الحضور في الاحتجاجات الحضور للضغط على البرلمان والحكومة (مما يجعل من أصحاب سياسة الحضور هم المستفيدون من السلطة السياسية والاقتصادية)، سياسة الحضور تلغي الغائبين والسلبيين والمتفرجين وتلغي كذلك المستقبل من خلال إلغاء الأجيال القادمة (ارتفاع المديونية وتحملها من طرف الأجيال القادمة، الضغط على الموارد الطبيعية والموارد البيئية). هذا الغياب يحتم على العقل المركزي للدولة التوفر على ما أطلق عليه الأكاديميان "ديديروت والمبير" "العين المستقبلية". التوفر على العين المستقبلية يتطلب حتميا الاعتماد ليس فقط على ديمقراطية الأغلبية، بل وكذلك ديمقراطية الخبراء والعلميين والمختصين والتكنوقراط، أي ديمقراطية الرأي والرأي المضاد وديمقراطية الحجج، مما يعني الاعتماد كذلك على "سياسة الأفكار". العقل المركزي للدولة كان يعي أنه في مجتمع سياسي جد مقسم، فان الحكمة تقتضي الاعتماد على ديمقراطية صراع الأفكار ووجهات النظر من أجل الحسم في القضايا الخلافية الصعبة (وإذا كان ماكس ويبير سبق له أن أكد أن الاعتماد على الخبراء والتكنوقراط والأفكار يستهدف البحث عن العقلنة والفعالية، إلا أن كارل ماركس وفي إطار رده على مقولة هيغل، صنف التكنوقراط تحت شعار غياب العقل عند الدولة، وصنفهم كذلك في إطار الشلل والتطفل، أو في إطار الاختباء وراء العقلانية والخبرة وامتلاك الرأي من أجل شرعنة خدمة مشروع الطبقات المسيطرة). العقل الاقتصادي للدولة من خلال الاعتماد على سياسة الأفكار المقترحة من طرف بعض نخب ديمقراطية العدد (بعض أعضاء الحكومة، وخصوصا العقل المالي والعقل الأمني)، وبعض نخب ديمقراطية الحياد (بنك المغرب-المجلس الاقتصادي والاجتماعي)، وبعض نخب ديمقراطية الأفكار (لجنة النموذج التنموي)، يحاول من جهة العمل على ترسيخ الثلاثية التنموية الذهبية المعتمدة على "الرأسمال البشري-الرأسمال المادي-الرأسمال المتعلق بجلب العملة الصعبة"، ومن جهة أخرى يعمل على تدوير الزوايا (من أجل مواجهة أي تحالف مرتقب بين الرأسمال المنظم والموظفين والطبقة المتوسطة) ومواجهة شياطين التفاصيل، الناتج عن الصراع المفتوح بين نخب الدولة والفاعلين في السوق ونخب المجتمع المدني. طريق الحل يتطلب الاعتماد على حكامة متطورة لثلاثية "العقد الاجتماعي-اليد الخفية للسوق-المصلحة العامة" التي لا يمكن ترسيخها في غياب عقد اجتماعي جديد يفتح الطريق نحو حكامة أفقية مقسمة بين "الدولة-السوق-المجتمع". غياب العقد الاجتماعي يعبد الطريق أمام الفاعل المنظم والقوي والمتمثل في قوى "السوق-الدولة" لكي يفرض شروطه على المجتمع (مزيدا من التفاوتات بين عائدات الرأسمال وعائدات العمل، ومزيدا من الاقتصاد المتوحش، ومزيدا من الاحتجاجات والحلول الأمنية)، مما سيفتح باب المستقبل على كل الاحتمالات الممكنة، وهذا ما يرفضه جيش العقلاء. *باحث في العلوم السياسية والقانون العام