يحدث، في الجزائر فقط أن تسيل بأعناق أغلب المواطنين كل شوارع المدن، مشرئبة إلى نتائجَ ما – حتميةٍ حتى – لكل هذه الشهور التي ثنى فيها الناس صلاة الجمعة: الشرعية الدينية في المساجد، والشرعية الثورية في الشوارع. مع احتساب الهَبَّات الطلابية الأسبوعية، منذ شهور، التي تحتكم أكثر إلى شرعية المستقبل الجزائري. ويحدث في الجزائر فقط أن يكون المخاطَب الوحيد للشرعيات الثلاث هو جنرال ثمانيني تؤكد كل خطبه وقراراته، أنه أبعد ما يكون عن حنكة رجل الدولة القادر على العبور بالجزائر إلى مرافئ الاستقرار المؤسساتي، والعدالة والنماء: فهو يفتقر إلى الكاريزما الضرورية؛ لانتفاء شروط تشكلها، عبر كل مساره المهني كتابع لنظام بوتفليقة؛ فُضْلة فيه وغير عُمدة. لم يكن الجنرال أبدا من صُناع الرؤساء أو مُسقطهم أو قاتِلهم؛ على غرار العربي بلخير، خالد نزار، توفيق والعماري، وغيرهم. هل في هذا شرف له أم مَعَرَّة؟ لا أدري بالإجابة من الجزائريين. وهو فاشل تواصليا، ويكاد لا يمر له خطاب إلا عبر الثكنات العسكرية، التي عاف منها الشعب تسلطَ قادتها المطلق، على كل دواليب الدولة ومقدراتها الاقتصادية. التواصل مع الساسة، مع الشباب، مع المثقفين، مع التنظيمات المدنية؛ ليس من تكوين عسكري، لم يُرَ أبدا خارج زيه العسكري. أما افتقارُه الى البعد المغاربي في تدبير الوضع الجزائري الداخلي المأزوم، فيعمِّق أزمته. تتبعت كل خطبه العسكرية فألفيتها خرابا يبابا صفْصفا، من هذه الناحية؛ فالجار لا يحضر في لُمَحٍ من خُطبه إلا مَصدرا لخطر محتمل يتهدد البلاد؛ بل ذهب في إحداها إلى العين الحمراء المحرضة على الاستعداد التام للمواجهة. وفي فهمه التسطيحي، يعتقد أنه يكفي أن يقول للشعب الثائر إن الخارج، الأوروبي أو المغاربي، هو السبب لتنكفئ الجموع عائدة إلى حكم العصابة، على حد توصيفه. أيسكن في خرائط العصر الرقمية، السريعة التحول، من يتوهم التدليس على الشعب الثائر بمثل هذا الكلام؟ لقد بينت في مقالي: "المغرب.. مرشح الغرب الجزائري" ما يمكن للتوجه المغاربي – لو حصل جزائريا – أن يُحدثه من انفراج اقتصادي واجتماعي، في الدول المغاربية كلها –وهي بدورها مأزومة – وليس في الجزائر فقط. رسكلة النظام: هذا هو العنوان الكبير لنصوص الجنرال العسكرية، ولتعليماته التي يضطرد تضييقُها الخناقَ على الشعب الجزائري الحراكي. إنه يجرب الحِرفة الجزائرية التي أتقنها الجنرالات المذكورون: صناعة رئيس جزائري بطاقية إخفاء عسكرية. وهل يرتدي اليوم الرئيس الانتقالي "ابن صالح" غير هذه الطاقية؟ رئيس ينتمي شكلا إلى الحراك الذي أسقط نظام بوتفليقة، وجوهرا وروحا إلى الحديقة الرمادية للجيش، المسيجة بدبابات الاستبداد. يحدث في الجزائر فقط أن يُستنسخ الرئيس؛ لكن هذه المرة اقتضت الظروف القاهرة أن تُطعم الخلية الأم بكروموسومات جديدة، حتى تتشكل جنينا، يفترض فيه الانتماء حتى إلى الحراك المدني. ظِلالٌ ما من ثنائية اللاهوت والناسوت المسيحية. من ضمن المترشحين "الخمسة الكبار" لا يوجد أحد من خارج النظام المنهار؛ وهم في هذا أشبه بالكبار الموجودين في سجن الحراش، والذين وزعت عليهم محكمةُ سيدي امحمد، البارحة، عشرات السنين من السجن؛ على غرار كبار المربع الأول: سعيد بوتفليقة، توفيق، طرطاق. هذا في ما يخص بعض النتف من القضايا الخطيرة التي تثقل كاهلهم، وحتى كاهل الجنرال الذي خدمهم متفانيا؛ ولو تهمة عدم التبليغ فقط. وفي الجزائر فقط يستقيم أن يحاكِم بعضُ العصابة بعضَها الآخر، لتكون الرَّسْكلة ناجحة، لا شِيَّة فيها. وليتم الاستنساخ وفق القواعد البيولوجية التي ترتضيها المؤسسة العسكرية. وستشتغل الكيمياء العسكرية الانتخابية على هواها لتصل إلى النتيجة المرسومة سلفا: دولة الواحد الأحد +1. دولة الرئيس العسكري الذي يختفي في ظل الرئيس المدني. الجنرال لا يمكن أن يغامر بمعادلة تدبير دولة الجزائر المزمنة؛ كأن يتقدم للانتخابات سادس الخمسة الكبار. ربما لو حصل هذا لانقض عليه المصوتون من كل حدب وصوب ليُردوه صريعا، وليزكوا أهون الشر- من الخمسة - إلى أن تنجلي الأمور في رئاسيات أخرى، مدنية بكيفية تامة. وهل يُسلِّم الجنرال الدبابة لغيره؟ هنا يكمن كل الداء العضال. وقد سبق أن قلت في عنوان مقال سابق، من جزائرياتي: "ليس للجنرال من يُؤَمنه". لو تيقن من سلامة العقبى لرحل إلى تقاعده؛ وقد شجعه الحراك غير ما مرة على هذا الانسحاب الهادئ. وماذا بعد؟ ماذا بعد رفض أغلب المواطنين للانتخابات الرئاسية، ورفضهم لمرشحي النظام ومعلقاتهم؛ ورفض الجنرال لرفضهم كله؛ جملة وتفصيلا؟ ستنجح الرسكلة، طبعا، مهما تكن نسبة المشاركة. وسيتسلم الرئيس المستنسخ مقاليد الأمور البروتوكولية بقصر المرادية؛ ولن يتسلم الحكم طبعا. سيحتد الحراك حد العصيان المدني، وستصل الأمور إلى ربيع الغضب الشعبي العارم. وقتها سيعرف الشعب الجزائري، حق المعرفة، لماذا كان الجنرال يصر على مخاطبتهم من قلب الثكنات، وعلى رأس ضباط يستمعون وجمين. ووقتها ستُطبِق الشرعيةُ العسكرية على الشرعية الرئاسية المصنوعة صنعا، لتسحق كل الشرعيات الأخرى. وستندلع فوضى عارمة، خلاقة في نظر البعض. هكذا سيجيب التاريخ الجزائري على السؤال الشهير للمرحوم بوضياف: "إلى أين تمضي الجزائر؟". تمنيت لو قلت غير هذا، لكن في الجزائر 1+1 يساوي 1 فقط؛ منتصبا للعراك فقط. "له الصدر دون العالمين أو القبر"