قال يوسف شهاب، مدير أبحاث بالمعهد الفرنسي للدّراسات الاستخباراتية، إنّ "التّعديل الحكومي الأخير لم يكنْ الورقة الوحيدة في يدِ الملك محمد السّادس، إذ يخوّل له الدّستور سلك خيارٍ جذري يتمثّل في حلّ البرلمان والذّهاب إلى انتخابات مبكّرة"، مضيفاً: "الملك أدركَ أنّ العدّ العكسي بدأ، وأنّ حكومة العثماني أصبحت حكومة تصريف في انتظار أفق 2021". وفي حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية حول التّعديل الحكومي والخطاب الملكي الأخير، يوضّح أستاذ العلوم الجيوسياسية والتنمية الدولية في جامعة باريس 13 أنّ "تعديل الحكومة قبل الدّخول البرلماني وتركيز عملها على إعادة النظر في نموذج الحكامة وإقحام القطاع البنكي في تسريع عجلة التنمية هو الخيار الأكثر واقعية، والذي يحافظ على الاستقرار السّياسي في المغرب". وأشار شهاب إلى أنّ "عودة الملكية التنفيذية في هذه الظرفية السّياسية مرده إلى تصحيح مدار الدّولة والتقليل من التّضخم الحكومي الذي بلقن السياسات العمومية، وزاد من حدّة الاحتقان الشعبي؛ ففي كبريات الديمقراطيات يلجأ هرم السلطة إلى إقحام التكنوقراط داخل المعادلة السياسية لتصحيح ضعف بعض القطاعات الوزارية". هنا نصّ الحوار كاملاً: غداة التّعديل الحكومي الجديد، كان هناك موقف يؤكّد أننا أمام إعادة بلورة السّلطة التنفيذية في المغرب، ما هي قراءتك لهذا التّوجه؟ لقد جاء هذا التعديل الحكومي تطبيقا لتعليمات الملك المعلنة في خطاب العرش، وبالفعل جاء ليُعيد الحكومة والدّولة إلى مدارهما الطبيعي برفع الإنتاجية؛ فقد كانت الحكومة مكونة من 6 أحزاب (حتى ترضي جميع أحزاب الائتلاف)، وأصبحت اليوم تضمُّ 23 حقيبة، لكي تخرج من الشّلل ولتعطي إشاراتٍ واضحة إلى الأوساط الاقتصادية والفئات الاجتماعية التي عبّرت عن سخطها من العطاء الحكومي. ولكن من حيث العمق فهذا التّعديل هو مقاربة برغماتية لتصريف أمور الدّولة، في انتظار الاستحقاقات التشريعية لسنة 2021؛ فحكومة العثماني الثانية حافظتْ على التّوازنات والتّمثيلية السّابقة في حكومة كان هاجسها هو الحفاظ على المعادلة بين توزيع الحقائب الوزارية وعدد المقاعد في البرلمان. وإعادة النظر في النّموذج التنموي للمغرب تتطلب ولاية بكاملها، باسْتثناء الفكرة الجديدة التي وضعها الملك في أولويات الحكومة؛ وأعني بذلك إدماجُ حاملي المشاريع الاقتصادية، والمقاولات الصّغرى والتشغيل الذّاتي الذي قد يدخل حيّز التطبيق خلال الشهور القادمة. وبالتالي فالإشارة السّياسية هي بناء شراكة إستراتيجية بين القطاع العام والأبناك لتنزيلِ مفهوم إعادة النّظر في النّموذج التنموي بالمغرب على المدى القصير. هل كان من الضّروري أن تعدّل الحكومة ونحن على أبواب انتخابات تشريعية؟ أعتقد أنه كان من الضّروري إعطاء إشارة قوية دون إحداث زلزال سياسي قد يُدخل المغرب في أزمة سياسية؛ فكان بيد الملك اختياران، إما تعديلٌ حكوميٌّ بمفهوم إقحام وجوه جديدة بإمكانها تنزيل خريطة الطريق الاستعجالية، وأعني بذلك إقحام القطاع البنكي في تمويل المقاولات الصغرى والتّشغيل الذاتي والشباب الحاملين للمشاريع، أو الخيار الجذري، الذي يقضي بتنزيل مقتضيات الدستور، والتي تعطي الملك حلَّ الحكومة والبرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. ولكن الخيار الأول، والقاضي بتعديل الحكومة قبل الدّخول البرلماني، وتركيز عملها على إعادة النظر في نموذج الحكامة وإقحام القطاع البنكي في تسريع عجلة التنمية، هو الخيار الأكثر واقعية، والذي يحافظ على الاستقرار السّياسي في المغرب قياسًا بما يحدث في المحيط الإقليمي، خاصة دولة الجوار التي تعيشُ على حافة الانهيار. لقد أدْركَ الملك أنّ العدّ العكسي بدأ، وأنّ حكومة العثماني أصبحت حكومة تصريف في انتظار أفق 2021. أبان هذا التعديل عن عودة قوية للملكية التنفيذية في المغرب، مع زيادة عدد الوزراء التكنوقراط، أليس كذلك؟ إن الطبيعة لا تقبل الفراغ، كذلك هو الشّأن في السياسة، والملك يحدّد أفق السياسات العمومية طبقا للدستور، ولكن الحكومة هي المسؤولة عن تنزيل وتطبيق الأهداف التي يسطرها. من جهة أخرى اتّضح للجميع أن حكومة العثماني لا تتوفّر على الكفاءات والحنكة السياسية اللازمة لذلك، عموما باستثناء وزارات السيادة (الخارجية، الدفاع، الداخلية، الأوقاف) ووزارة الفلاحة والمالية، فباقي الوزارات لم تعط عطاءً في مستوى مطالب الشعب، فكان من الضروري على الأقل ظرفياً عودة الملكية التنفيذية وزيادة وزراء ثمنوا خبرتهم في التكنوقراطية، والتي لا تخضع للزمن السياسي بقدر ما تحركها خارطة طريق وبعيدة نسبياً عن صراعات الأحزاب والحكامة السياسوية. ثم لا ننسى ظهور وجوه جديدة وشابة، قد تؤدّي بشكل مميز على الأقل في ما تبقى من الزّمن لحكومة العثماني، التي وصلت إلى عنق الزجاجة من حيث هامش التّحرك. وبالتالي عودة الملكية التنفيذية في هذه الظرفية السّياسية مردها إلى تصحيح مدار الدّولة والتقليل من التّضخم الحكومي الذي بلقن السياسات العمومية، وزاد من حدّة الاحتقان الشعبي؛ ففي كبريات الديمقراطيات يلجأ هرم السلطة إلى إقحام التكنوقراط داخل المعادلة السياسية لتصحيح ضعف بعض القطاعات الوزارية. هل سبب تعطّل التنمية في المغرب يرجع إلى افتقار الحكومة للكفاءات؟ هناك أسباب متعددة لتعطل التنمية في المغرب وخروج مصالح الدولة من المسار الطبيعي الذي رسمه الملك مع الدستور الجديد، أولا، على المستوى الدستوري لازالت هناك أوراش لم تخرج للوجود منذ توثيقها دستوريا، وأعني بذلك الجهوية المتقدمة التي هي عماد التنمية، فلازالت فرامل المركزية والتمركز تطبع ديناميكية التنمية في البلاد. من ناحية أخرى، لازالت هناك ازدواجية في الحكامة في ما يتعلق بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، إذ من الصعب تحديد الصلاحيات والمسؤوليات بين الدولة والجماعات المحلية. كان من المفروض نهج سياسة الشّباك الوحيد وانصهار وكالات التنمية المتعددة في جهاز مندمج ترابيا وماليا ومن حيث الريادة. كما أن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لازال شعاراً فضفاضاً، فرغم كل التقارير الرسمية التي نشرها المجلس الأعلى للحسابات وبنك المغرب، ورغم حديث الملك عن الاختلالات وعن ضعف الحكامة وسوء التسيير، غاب أو تمّ تغييب القضاء لزجر كل تلك الاختلالات التي أدّت إلى حراك الريف واحتقان الشارع المغربي بشكل مستمر. أما على المستوى الإستراتيجي، فالمشاريع والأوراش الكبرى كانت تصبّ في اتجاه النمو الاقتصادي وليس في التنمية البشرية والترابية، فكانت الحصيلة متفاوتة التداعيات، إذ حقق المغرب قفزة نوعية كبيرة في البنيات التحتية والمشاريع القطبية، ولكن القيمة المُضافة على المستوى الاجتماعي كانت ضعيفة (الصحة، التعليم، السكن، تفقير الطبقة المتوسطة، كثرة البطالة، انتشار الاقتصاد غير المهيكل، واقتصاد الريع). أما في ما يتعلق بالكفاءات، فهي موجودة في داخل المغرب، وخاصة خارجه، وأبانت عن قدرتها على ولوج مناصب كبيرة في أوروبا. ولكن المشكل يكمن في أن الكفاءات العالية تعيشُ نوعا من الإقصاء الممنهج من طرف الأحزاب وليس من طرف الدولة؛ فالأحزاب ليست لها ثقافة الاستقطاب وتجديد النخب، ولازالت خاضعة لقانون العقيدة والعشيرة والمال. فكيف يعقل أن تفتح فرنسا، بلجيكا، هولندا، مناصب سياسية عالية للكفاءات المغربية، وحتى ولوج مناصب وزراية بمنطق الاستقطاب على أساس الكفاءة، ولا نرى في المغرب مكانا للجامعيين والخبراء داخل الأحزاب؛ ناهيك عن البرلمان الذي يعج بأشباه الأميين. لقد كانت دائما الأحزاب لا ترى بعين الرضا ولوج الكفاءات العالية إلى المناصب العليا في الدولة.. المشكل ليس في غياب الكفاءات بقدر ما هو إقصاء الكفاءات التي لا تريد الاستقطاب الإيديولوجي ولكن تريد الدفع بالبلاد إلى التنمية. الملك أصبح في صُلبِ العمل السّياسي المغربي بتوجيهاته ودعواتهِ الأخيرة إلى تطعيم الحكومة بكفاءات جديدة وانتقاداته للأحزاب، هل نحن أمام توجّه عام تسلكه الملكية يفرضُه سياق المرحلة؟ إن الملك يسيّر البلاد طبقا للدستور، لأنه من جيل جديد ما فتئ يؤكّد على تجديد النخب السياسية وكوادر الدولة، وكان ولازال ينتقد الأحزاب التي تدور في فلك الحسابات الصغرى، وهاجسها هو الأجندات الانتخابية كانت تشريعية أو محلية.. فدخول المؤسسة الملكية صلب العمل السياسي هو التأكيد على أسبقية الصّالح العام.. وفي كثير من خطابته دعا الأحزاب إلى الابتعاد عن الرّيع السياسي إلى ضرورة إقحام الكفاءات العالية لخدمة الصالح العام. وبصفته فوق الرهانات السياسية الحزبية وضامن التماسك الوطني فإن الملك يواكب الأحزاب التي لازالت في بحث عن نضجها الفكري؛ ولكنه أيضا يسمع مطالب الشّعب، يقرأ الصحافة وتصله التقارير والمطالب من الجهات التي تعيشُ كسرًا اجتماعيا وترابيا، وبالتالي فإنه غير راضٍ عن المشهد السياسي بالمغرب، كان داخل حكومات الائتلاف أو في المعارضة. ..مضي عشرين سنة على تربّعه على العرش كانت مناسبة لقراءة شاملة للحصيلة السياسية والمكتسبات المحقّقة.. وأعتقد أنه أدرك أين يكمن الخلل في هذه الدّيمقراطية الناشئة، والتي عمادُها الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني في زمن العولمة وقنوات التواصل. وأعتقد أنه أيضا يعرفُ تصاعد التيارات الشعبوية المتطرفة والتغيرات والمطالب المجتماعتية؛ وبالتالي فإنه يحثُّ الأحزاب على تحمّل مسؤوليتها للحفاظ على أمن واسْتقرار المغرب وتماسكه الاجتماعي. ما هي قراءتك للمرحلة السّياسية المقبلة في ظلّ تراجع دور الأحزاب؟ إن تراجع دور الأحزاب في حكامة المغرب وتخبطها في الصراعات الداخلية وهلوستها بالاستحقاقات الانتخابية القادمة، وإقصاءها للكفاءات العليا يعرّضها لأخطار كبيرة، أولها العزوف السياسي وعدم شرعيتها في تمثيل المؤسسات الديمقراطية، ثانيها عودة التكنوقراط بقوة لتسيير أمور الدولة والشأن العام، ثالثها إخراج الورقة الحمراء وتطبيق فصول الدستور التي تقضي بحل الحكومة وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها؛ فطبيعة النظام في المغرب تعطي للأحزاب الفرصة في تقوية الانتقال الديمقراطي وتوازن السلط التنفيذية إذا قامت بثورة فكرية لتجديد نخبها، أما إذا استمرت في تطاحناتها وثقافتها الانتخابوية فقد يتغير المشهد السياسي إما بظهور أحزاب جديدة تتناغم مع الملك والشعب، وإما بانقراض بعضها لكونها قد تفقد مشروعيتها وقدرتها على البقاء في المشهد السياسي. هذا ما حدث في كبريات الديمقراطيات التي انفجرت فيها أحزاب من الداخل كحزب اليمين الجمهوري والحزب الاشتراكي الفرنسي، اللذين مهدا لوصول رئيس بدون حزب، والتصاعد الخطير لليمين المتطرف في معقل الديمقراطية ودولة الحق والقانون.