تتكالب، دون هوادة، لعبة تفجير الزوابع العدوانية داخل مسكن العربية الفصحى، بما لا يتسع معه المجال لإدارة أي نقاش عقلاني ومسؤول حول ما قل ودل من إشكالياتها، علما بأن عدوانية تفجير الدوامات ذات الطابع التضليلي تقليد قديم، درجت على توظيفه ثلة من المحترفين، المتخصصين في إتلاف المسالك المؤدية إلى صلب القضايا الجوهرية، مهما تعددت مجالاتها واهتماماتها. إنها إستراتيجية التعمية الخلط، التي من شأنها إثارة نقاشات مغلوطة. تفرغ الأسئلة المركزية من ديناميتها، تحشر الحوار في زوايا ضيقة ومعتمة، تنعدم معها إمكانية الرؤية أو القول. ففي ظل هذه الوضعية الملتبسة المريبة، سيكون على الملاحظ أن يتخلص مؤقتا من تداعيات ما تفرزه من زوابع/ مغالطات، كي تتوفر له إمكانية تسليط الضوء على خلفية النوايا المساهمة في تخريب المشهد اللغوي، استنزاف ما تبقى من حركيته، باسم الإصلاح. هذا المفهوم الانتهازي، المجرد من أية قناعة معرفية أو حضارية، والذي يمتلك من القوة ''الإجرائية!'' الزجرية، ما لا تمتلكه شرائع السماء. وليس المقصود هنا بمبادرة تسليط الضوء سوى التذكير ببعض المسلمات التي يلح مفجرو الزوابع بمختلف مرجعياتهم التحريفية على تصنيفها ضمن خانة المتلاشيات. وهي بالمناسبة الخانة أو بالأحرى المقبرة التي تتسع يوميا للمزيد من القيم القناعات، بضغط من حداثات هجينة، مهووسة بمتعة "خفة" تنوء بثقلها الجبال. ولعل أولى المسلمات التي تحضرنا في هذا الإطار استمرارية تداعيات الإرث الاستعماري الكريه، الذي كان يرى في حربه على اللغة العربية جزءا لا يتجزأ من حربه الاستيطانية الاقتصادية الشاملة على الشعوب الناطقة بها، باعتبارها السند المرجعي للهوية العربية الإسلامية. وبالنظر إلى الدلالات الضمنية التي يحيل إليها مفهوم الاحتلال، بوصفه اجتثاثا فعليا لكل ما له صلة من قريب أو بعيد بهذه الهوية، فلقد كان من الطبيعي أن يستهدفها بالهدم والتخريب، باعتماد كل السبل الكفيلة بذلك، خاصة أن الأمر يتعلق بلغة متوجة بقداستها الدينية المستمدة من النص القرآني، حيث تفضي منهجية تفكيك اللغة إلى إمكانية تفكيك سلطة العقيدة، كخطوة مرحلية، أساسية، باتجاه تعطيل أسباب المقاومة. في هذا السياق، تحتفظ ذاكرة كل نقطة من جغرافية العالم العربي الإسلامي بغير قليل من المحكيات التي تتعدد وتتنوع بتعدد تنوع المخططات الغرائبية الموظفة من قبل المحتل، في أفق ممارسته لهيمنته اللغوية على حساب تدجينه تحجيمه للسان العربي. هذه المسلمة، التي لن تفلح الكثير من الشعارات والتخريجات الحداثية في طمسها، تظل محتفظة بقوة حضورها في خلفية أية سياسة لغوية تستهدف اللغة العربية بالمحو؛ ذلك أن الخبث الاستعماري يمتلك أكثر من شكل للانبعاث التمظهر، انسجاما مع المقتضيات التي تستدعيها اللحظة. لعل شعار العولمة، المهيمن على الساحة الدولية منذ عقود، هو الإطار الأكثر "أناقة!" نجاعة في كبحه لجموح أي قطب حضاري ثقافي قد يؤثر سلبا على مركزية شمولية القطب الواحد الأحد، خاصة منه القطب العربي الإسلامي. كما هو معلوم، فإن استراتيجية الكبح تتحقق عبر شبكة محكمة من القوانين والمعايير، التي تتخذ من مفهوم العقل، من مفهوم الضرورة، والتجربة الوظيفية، سندا تقنيا درائعيا، لا يتسرب إليه غبار الشك. ومن الواضح أن الضحية الأولى في هذه الوضعية الهشة هي شعوب اللغة، التي تعاني من خيانة الشروط الحضارية والتاريخية لها. أما المسلمة الثانية، فتتمثل في مقولة عزوف الأجيال الشابة عن التفاعل مع الفصحى في مختلف المجالات، مقابل تعصب فئة أخرى مغرقة في أصوليتها تطرفها؛ وهي مفارقة جد طبيعية، إذا تعاملنا معها أولا من منطلق الانهيار الشامل لمنظومة التعليم بكل أسلاكه، ثانيا بفعل فقدان الأمل لدى هذه الأجيال في إمكانية تحقق أية مكتسبات سياسية أو مجتمعية من شأنها زرع بذور الثقة في قيمها الثقافية والأخلاقية التي تنبني بها خصوصيتها. بمعنى أن سؤال الجدوى يلقي بظلاله الكثيفة على واقع مترد يفتقر إلى كل مقومات النهوض السياسي الاقتصادي، حيث تستأثر بخيراته ثلة قليلة من المرابين والمضاربين ومحترفي النهب والتسلق السريع لسلالم التراتبية الإدارية والمدنية؛ ذلك أن وطنا يرفض أن يتعاطف معك وأن يعترف بك ويلح على إذلالك أينما حللت وارتحلت لا يستحق أن يحظى بقرابتك، أو بأي شكل من أشكال انتمائك الهوياتي له، بما في ذلك الانتماء اللغوي، حيث لن يكون ممكنا الاستمرار في التعلق بقيم، قد تهدد معتنقيها بالمزيد من الإفلاس الشللية. مقابل هذا العزوف الناتج عن تصاعد الوعي بحالة الإحباط واللاجدوى، يتشكل في سراديب دهاليز الواقع الغارق في ظلاميته وعي لغوي هوياتي مضاد، يتجاوز حدود القيم المجتمعية المطعون في شرعيتها إلى مسالك متعالية "معنبرة" برائحة الدم و"مسك"القتل! تفضي بسالكيها ومريديها إلى "فراديس وجنائن" لا يأتيها الباطل من بين يديها لا من خلفها، حيث تأخذ اللغة العربية شكل "روح مقدسة" تصل الكائن بخالقه، إلى جانب كونها اللسان الرسمي الذي "تتواصل" به المخلوقات في رحاب العالم الآخر. وهو، في نهاية المطاف، وعي يسيء إلى اللغة بالحدة نفسها التي تطالها من قبل الفئة الأولى؛ وهو ما يفقدها في الحالتين معا حضورها الطبيعي الذي يؤهلها لأداء مهامها التواصلية، إن على المستوى المجتمعي أو الأكاديمي، بالسلاسة والمرونة المطلوبة. إن الحرب الدائرة رحاها حاليا هي امتداد للحرب القديمة المشتعلة منذ ميلاد ما يطلق عليه "الحركة الوطنية" في العقود الأولى من القرن الماضي . هي حرب جد معقدة، تتعدد فيها الأقطاب تتشابك. كما تختلط فيها المرجعيات اختلاط الحابل بالنابل، حيث يصعب أحيانا وضع خطوط فاصلة بين الشرذمة الاستعمارية وبين قوى المخزن، ثم بين هؤلاء أولئك، كما بين غير قليل من التيارات المحسوبة على القوى الوطنية، بصرف النظر عن تموقعاتها في اليسار أو في اليمين. إنها حرب قائمة بين أقلية تحتكر كافة أنواع السلط، من أجل بسط هيمنتها على مختبرات تصنيع الكعكة الوطنية الكبرى، التي يحتاج إعدادها إلى مجموع ما يتوفر عليه المغرب من خيرات مادية رمزية. إنه المجال الذي يصاب فيه علم الاجتماع المغربي بالشللية التامة، إلى جانب علوم أخرى، خاصة منها التاريخ والسياسة، حيث يستبد جبن مريع بحنجرة الباحث قلمه، فلا يقوى على الإشارة لو عن بعد إلى مكمن الخلل، مكتفيا بالاندماج اللامشروط في صخب الجوقة بأطيافها المتنوعة والمتناقضة، ملزما بترديد مقولات ثانوية لا علاقة لها بجوهر الإشكال. كما هو الشأن حاليا، بالنسبة إلى الزوابع المفتعلة حول قصور اللغة العربية في ممارستها لأدوارها التعليمية. والحال أن الأمر لا دخل له بموضوع القصور أو التأهيل بقدر ما له علاقة بإستراتيجية تجزئة الضيعة المغربية، الفوز بأوفر قطعها حظا على مستوى المردودية والقابلية للاستغلال، حيث تقترن تراتبية المواطنة بتراتبية اللسان الناطقة به؛ وهو المعطى الذي يرمي باللغة العربية ساكنتها-التي يستمد من مكابداتها هذا البلد هويته- إلى أسفل سافلين. ما يوحي بأن ثمة من يتعامل مع الوطن نكاية في هويته، بوصفه فضاء يتنافر يتنابذ فيه شتات تجمعات، تقتطع فيه الأقلية المحظوظة ''بالمفهوم القدحي للكلمة" حصة الضبع؛ غير أن الحيز الأكثر مأساوية في هذا المشهد هو اصطفاف بعض المناضلين من إخواننا الأمازيغ جهة دعاة الفرنسة، دون أن ينتبهوا إلى أنهم بموقفهم هذا يسلمون بواجب اشتغالهم الحتمي على اللغة الأمازيغية، شعوبا وقبائل، من المحيط إلى الخليج، لعشرين قرنا ستأتي- على الأقل - بحثا تفكيرا تدوينا، كي يجبروا في نهاية المطاف، من قبل الدوائر المختصة، على الاقتناع بعدم صلاحيتها التامة، لا للفكر لا للعلم، ولا للأدب، لربما حتى للتواصل الشكلي في الفضاءات العامة.