من وحي الأحداث على وقع التعثرات التي يعيشها الربيع العربي في مجموعة من الأقطار العربية، مشرقا و مغربا، يبدو أن التوجه واضح لتصفية الحساب مع مقومات الهوية العربية الإسلامية، لغة و دينا و ثقافة، بدعوى أن هذه المقومات الهوياتية هي التي ساهمت في وصول الإسلاميين إلى الحكم. و إذا كان التفكير و التخطيط، اليوم، موجه لإفشال التجربة السياسية، فإن ذلك يمر عبر إعادة النظر في مقومات الهوية العربية الإسلامية. إن هذا التوجه السياسوي الفج لا يقتصر على قطر عربي دون الآخر، بل هو تخطيط ينطلق من تصور استراتيجي، بعيد المدى، يهدف إلى استئصال المواطن العربي من تربته الحضارية، عقابا له على اختياره الثقافي الذي ترجمه سياسيا، في تناقض تام مع مخططات النخبة السياسية و الثقافية المستلبة في جزر الاستشراق. و لذلك، فإن تغيير الخارطة السياسية يمر، بالضرورة، عبر تنفيذ أجندة الاستعمار الجديد، هذا الاستعمار الذي يتخذ القوة الناعمةsoft power كآلية جديدة لاختراق ثقافات الشعوب و التحكم في توجيه أنظمتها السياسية و الاقتصادية، خدمة لأهداف إستراتيجية، ترتبط بالقوى الرأسمالية الكبرى. و لعل تغيير المشهد السياسي عبر استثمار المقومات الثقافية ليس أمرا جديدا في الثقافة العربية، بل تعود جذوره إلى خمسينيات القرن العشرين، حين وظفت الديكتاتوريات العسكرية، الرأسمال الرمزي بهدف إحداث تغيير جذري في الواقع السياسي خدمة لأجندتها الفئوية الضيقة، و ذلك على حساب الامتداد الحضاري المشترك بين الشعوب العربية، و الذي قوامه اللغة و الثقافة و الدين، و هي مقومات أساسية لتشكيل رؤية العالم vision du Monde لدى المجموعة العربية الإسلامية. 1- اللهجات العامية بديلا للغة العربية الفصحى .. الأجندة الدينية و السياسية في سياق التحديث المعاق الذي قادته نخبة فكرية و سياسية مؤدلجة، أواسط القرن العشرين، تعرضت اللغة العربية لهجمة شرسة كانت صريحة في دعوتها إلى توطين اللهجات العامية كبديل للغة العربية الفصحى. و قد كانت الرغبة صريحة في خدمة أجندة معادية للمنظومة الحضارية العربية الإسلامية. فمن جهة، كانت الدعوة إلى اعتماد اللهجات العامية بدلا للغة العربية الفصحى موجهة لخدمة توجه المسيحيين العرب، الذين كانوا ينظرون إلى العربية الفصحى باعتبارها حاملا دينيا، و لذلك لابد من محاربة الدين الإسلامي عبر محاربة حامله اللغوي. و من جهة أخرى، كانت هذه الدعوة مدعومة بالأبحاث الاستشراقية الموجهة استعماريا، و التي كانت تسعى إلى ضرب وحدة الشعوب العربية، من خلال ضرب وحدتها اللغوية، تطبيقا لخطة (فرق تسد) التي وظفتها القوى الاستعمارية بهدف تفكيك الصف النضالي العربي الموحد . ضمن هذا السياق الإيديولوجي، يمكن أن نفهم النقاش الدائر حول إصلاح منظومة التعليم، في العالم العربي، و ذلك في علاقة بالإشكالية اللغوية، التي طرحت باعتبارها المدخل الرئيسي لصناعة أجيال المستقبل. و من غريب الأمور أن اللغة العربية حضرت دائما من منظور المتهم المطلوب منه إثبات براءته، فكلما أثير إشكال البحث العلمى إلا و تم تجاوز جميع المعيقات المتراكمة، ليتم التركيز على ضعف اللغة العربية في التفاعل مع العلوم الحديثة، و كذلك بخصوص آفة التطرف الديني، التي تعيش على وقعها المجتمعات العربية و تهدد السلم الاجتماعي، فاللغة العربية تتهم دائما باعتبارها الحامل لهذه الأفكار و القيم. و لعل الغريب في الأمر، هو أن هذا التقييم الغارق في الادلجة و الذاتية الضيقة، وليد البيئة الثقافية العربية، حيث تمارس النخبة العربية جلدا عنيفا للذات يصل إلى حدود المازوشية. و لعل فحصا دقيقا لهذه الحالة الثقافية الغريبة، ليعود بنا إلى الرؤية الفكرية الاستشراقية، التي شكلت صورة مقزمة عن ثقافة الشرق، و اللغة العربية تعتبر مكونا أساسيا من هذا الكل الثقافي. لقد تمكن الاستشراق من صناعة الشرق كمتخيل imaginaire بتعبير الراحل إدوارد سعيد، و نجح، بعد ذلك، في تسويق هذا المتخيل في السوق الثقافية العربية حتى ! و هذا ما يجعل الكثير من نخبة الفكر و السياسية، في العالم العربي، تستهلك هذا المنتوج من دون وعي مسبق بظروف إنتاجه و بمكوناته الثقافية، لتجد نفسها، في الأخير، تجتر، من دون وعي، أساطير الاستشراق المؤسسة لمتخيل عن الذات الثقافية العربية، في منأى عن معطيات التاريخ و الواقع. 2- الحالة المغربية و إعادة إحياء الميراث الإيديولوجي المشرقي نعيش في المغرب، اليوم، حالة غريبة من النوستالجيا إلى ميراث إيديولوجي، مر عليه ما يفوق النصف قرن في المشرق العربي، حيث أبان عن فشله الذريع و استسلم أخيرا لتوازنات الواقع العملي. فنحن نعلم جميعا المصير المأساوي لتلك الدعوات الإيديولوجية الفجة، لاعتماد اللهجات العامية بديلا للغة العربية الفصحى، سواء في لبنان حيث قوة حضور العامل الديني المسيحي، أو في مصر، في علاقة بالأبحاث الاستشراقية حول خصوصية اللهجة المصرية المتأثرة بالتراث اللغوي و الثقافي المصري القديم . إن الواقع اللغوي الراهن، في العالم العربي، يؤكد عبر الإحصاءات الدقيقة، أن اللغة العربية عرفت خلال النصف قرن الأخير تتويجا إقليميا و دوليا لم تحض بمثله في الماضي. فهي تعتبر لغة رسمية في الأممالمتحدة، إلى جانب الإنجليزية و الصينية و الإسبانية و الفرنسية و الروسية؛ كما تعتبر من بين أقوى لغات التواصل الإعلامي، على المستوى الدولي، الشيء الذي دفع كبريات القنوات العالمية إلى إحداث أقسام تحرير خاصة باللغة العربية، أما على مستوى حضور اللغة العربية في الانترنت، فقد تراوحت رتبتها عالميا بين الرتبة السابعة، عند صعود المؤشر؛ و عند الرتبة الثامنة، عند هبوطه؛ لكنها مع ذلك حافظت على مكانتها ضمن اللغات العشر الأوائل في العالم. و ذلك طبقا للإحصائيات الدورية التي تقدمها مجموعة Mini watts marketing group . طبقا لهذه التوازنات اللغوية الجديدة، يمكن أن ندرك قوة الحضور اللغوي للعربية، و هذا ما يتناقض، بالتمام، مع الهستيريا المرضية التي توجه بعض الفاعلين الإيديولوجيين، من مفلسين عرقيين و فرانكفونيين و تنصيريين، و جميع هؤلاء ليسوا، في الأساس، علماء لسانيات أو خبراء لغويين يدركون جوهر الإشكالية اللغوية و يسعون إلى حلها، من منظور علمي، بل هم، بالأحرى، تجار حروب لا يهمهم سوى تحقيق الأرباح على حساب هوية الأمة و أرثها الحضاري. و لذلك، لابد للباحث في المسالة اللغوية من التسلح بآليات التفكيك، لمواجهة هذا التزييف الإيديولوجي المؤسس و المدعوم بقوة الرأسمال الاقتصادي و الإخطبوط الإعلامي، في إطار لوبيات متشابكة المصالح تستغل أذرعها الاقتصادية و الإعلامية لتهديد المقومات الحضارية للأمة. في علاقة بهذه المعطيات الفكرية و السياسية يثار، اليوم في المغرب، السؤال اللغوي من منظور إيديولوجي فج، حيث يتم تهميش الأبحاث الفكرية و اللسانية الرصينة، و في المقابل يتم فتح باب العبث أمام من هب و دب، لتقديم (المقترحات) و ( التوصيات) ... و هلم تهافتا ! و لا يمكن فهم و استيعاب هذه الوضعية المثيرة للإشفاق، إلا من منظور الهيمنة الثقافية التي تمارسها القوى الفرانكفونية، في زواجها الكاثوليكي مع قوى عرقية، و ذلك في استمرارية مقيتة للعهد الاستعماري البائد. فاللغة العربية متهمة، بشكل صريح، بأنها المسؤول الأساسي عن تخلف البحث العلمي في الجامعات و المعاهد، و يذهب بعض أقطاب التطرف الفرانكفوني بعيدا، حينما يعتبرون أن التعريب الذي مورس في التعليم المغربي، بعد الاستقلال، كان السبب المباشر المؤدي إلى تراجع جودة المنتوج التعليمي، بينما يتجرأ آخرون باتهام اللغة العربية بتوطين الفكر المتطرف. و في كل هذه الاتهامات المجانية، التي تصل حد الغوغائية، لا نجد أي أثر للتحليل العلمي، الذي يقوم على أساس الانطلاق من فرضية يتم تحليلها لاستخلاص النتائج، مما يحكم على هذه الاتهامات و على مروجيها بالانحطاط الفكري و الأخلاقي، الذي يجعل المرء عاجزا عن الفرز بين الحابل و النابل. و يبدو هذا التهافت الفكري جليا من خلال الدعوات المتوالية لتهميش اللغة العربية و تعويضها باللغة الفرنسية، بل و بالعامية حتى ! إذا لم ينجح مشروع فرنسة التعليم و الثقافة و المجتمع، المهم في الأمر هو إقصاء اللغة العربية و توطين اللغة الفرنسية، ليس كلغة و حسب و لكن، أكثر من ذلك، كمشروع استعماري جديد تسوقه منظمة الفرانكفونية. لكن، لا نجد هؤلاء يتساءلون عن نسبة المساهمة التي تقدمها اللغة الفرنسية في عالم اليوم، فيما يخص البحث العلمي، أليست الجامعات و المعاهد العليا الفرنسية نفسها مخترقة من طرف اللغة الإنجليزية؟ أما بخصوص اعتماد الدارجة في التعليم و البحث العلمي، فهو يعتبر الطريق المختصر نحو توطين اللغة الفرنسية، فيما بعد، بادعاء أن الدارجة غير صالحة لمسايرة الركب العلمي، و لكونها لا تتوفر على رصيد يؤهلها لمنافسة اللغات العالمية الحية. إن الذين يدعون إلى اعتماد الدارجة في التدريس و في البحث العلمي ينطلقون من خطة محبوكة، تقوم على أساس التدرج في التطبيع مع لغة و ثقافة المستعمر عبر المرور من تفكيك المنظومة اللغوية و الثقافية الوطنية، و كل ذلك في أفق تحويل المغرب إلى مقاطعة تابعة للمتربول الاستعماري. لكن، تبقى هذه الخطة، رغم طابعها المؤامراتي، تعبيرا عن سذاجة موظفي المشروع الاستعماري في المغرب. فكيف يمكن توظيف العامية الشفوية و غير المكتوبة و الغير خاضعة لقواعد ثابتة، في التعليم و في البحث العلمي؟ إن كل لغات العالم، فيها ما هو عامي صالح للتواصل المباشر في الحياة العملية، و فيها ما هو فصيح وظيفته تحقيق التداول الفكري و العلمي باعتماد آلية الكتابة. فالفرنسيون أنفسهم لا يعتمدون نفس المفردات و نفس التراكيب اللغوية في السوق و في مدرجات جامعة السوربون، و يمكن قول الشيء نفسه عن كل شعوب العالم. لكن، هذا ممكن بل و واجب في نموذجنا التعليمي و الثقافي المستلب، لمواجهة اللغة العربية، التي يتوجها الدستور المغربي، كما هو الشأن في جميع الأقطار العربية، لغة رسمية أولى. 3- اللوبي الفرانكفوني و الانتهاكات الجسيمة لمنطق الدستور ما يبدو واضحا و جليا، اليوم، هو أن اللوبي الفرانكفوني أصبح يصول و يجول، بلا رقيب و لا حسيب، يخطط لحاضر المغرب و مستقبله، باعتماد مرجعية كولونيالية من دون اعتبار للمصالح العليا للوطن، و من دون احترام لهويته و خصوصيته الحضارية. بل نعيش، اليوم، على وقع أحداث متوالية تؤكد بالدليل الملموس أن موظفي هذا اللوبي أصبحوا يتجرأون على حرمة مؤسسات الدولة و يتطاولون على الدستور الذي صوت عليه الشعب المغربي. و يمكن لكل مواطن مغربي غيور، أن يستغرب كيف تصل الجرأة ببعض الفاعلين إلى رفع توصية، تدعو إلى اعتماد العامية في التعليم المغربي، إلى المؤسسات الرسمية للدولة من مؤسسة ملكية و رئاسة حكومة و وزارة تعليم، مع أن التوصية مناقضة لمنطوق الدستور، و كأن هؤلاء الفاعلون يضعون أنفسهم في مرتبة أعلى من الدستور نفسه، و هذا إن دل على شيء فهو يؤكد فرضية المؤامرة الفرانكفونية على اللغة العربية. فبعد أن فشل مخطط فرنسة التعليم و المجتمع في المغرب، نجد هؤلاء المفلسين يجربون وصفة أخرى توصل، في الأخير، إلى مشهد قريب إلى الفرنسة، بادعاء أن العامية خليط لغوي يجمع، إلى جانب المفردات العربية، مفردات أجنبية، توجد على قائمتها، طبعا، المفردات الفرنسية. إن دستور 2011 واضح في إقراره للغة العربية كلغة رسمية أولى، و هذا ما أجمع عليه المغاربة و صوتوا له. فقد جاء في الفصل الخامس من الدستور: " تظل العربية اللغة الرسمية للدولة" و يؤكد نفس الفصل: " تعمل الدولة على حمايتها و تطويرها، و تنمية استعمالها" . و نحن نتساءل: كيف يمكن تنزيل الطابع الرسمي للغة العربية على ارض الواقع خارج منظومة التعليم، التي يدعو موظفو الفرانكفونية إلى تدريجها ؟ و في نفس السياق فإن هذا الفصل من الدستور يحمل الدولة مسؤولية مباشرة في حماية اللغة العربية و تطويرها و تنمية استعمالها. لكن، في المقابل، نجد اللوبي الفرانكفوني يخطط لمؤامرة محبوكة مدعومة من طرف قوى خارجية، لتهميش اللغة العربية و إلغاء دورها الدستوري، في علاقة بمنظومة التعليم، التي تعتبر المشتل الحقيقي لتنشئة أجيال المستقبل تنشئة متوازنة تحترم خصوصية الهوية المغربية. من حق حزب فرنسا في المغرب أن يحصل على الوصل القانوني من وزارة الداخلية للعمل، بشكل واضح، في الساحة السياسية المغربية، و من حقه أن يحمل مشروعا مجتمعيا يقترحه على المغاربة، لكن ذلك يجب أن يمر عبر مسار قانوني و مؤسساتي واضح، و من منظور ديمقراطي، يجب عليه أن يقنع المغاربة بمشروعه و يدعوهم إلى التصويت لهذا المشروع، و إذا قبل المغاربة بتحويل المغرب إلى مقاطعة فرنسية، بشكل ديمقراطي، فمن واجب الدولة أن تعاقب أي مساس بالمنهجية الديمقراطية . أما أن يختفي موظفو الفرانكفونية من وراء الستار و يحركوا العرائس من الخلف، فهذه اللعبة قد أضحت مكشوفة و مفضوحة أمام الشعب المغربي، الذي يلتزم بمقومات هويته الوطنية و يدافع عنها بقوة و وضوح . و لذلك، من حق المغاربة أن يدافعوا عن حرمة دستورهم، الذي يحمي، بمنطق قانوني واضح، مقومات الهوية الوطنية.