تتميز اللغة بكونها ظاهرة متعددة الأبعاد، لكونها مجالا يلتقي فيه التاريخي والثقافي والسياسي، فالبحث في قضية اللغة عموما وعلاقة الفصحى بالعامية على وجه الخصوص، يحيلنا مباشرة إلى علاقة الإنسان بالظاهرة اللغوية وتجلياتها على الفرد والمجتمع، ولكونها أيضا أحد الجوانب الأساسية في الهوية السياسية لأية أمة، من هذا المنطلق يرى عبد الله العروي أن اللغة المكتوبة واللغة المحكية ظاهرتان إجتماعيتان مختلفتان، لكل واحد منها تعريفات وأصول وآثار خصوصية، وتفاديا لأي خلط يبادر العروي إلى تحديد مفهوم اللهجة باعتبارها تركيبا كلاميا ينتمي إلى أصل معين ويتميز عن غيره في النطق وبعض التراكيب، فيما الكلم هو أداء صوتي خاص بلهجة معينة1، فالإشكالية المطروحة حول الفصحى والعامية ليست وليدة اليوم ضمن النطاق العربي، فلكل قطر عربي عاميته، وداخل هذه العاميات توجد لكنات تؤثث الهوية الثقافية واللغوية للأقطار العربية جمعاء، ولعلنا نحن المغاربة لنا تجربة الاحتكاك بالعامية المصرية والمشرقية على الخصوص، وما لهذا التأثير من فعل مباشر على وجدان ووعي المغاربة، مما يجعل التفاعل مع هذه اللهجات أكثر على غرار اللغة العربية الفصحى، إذا فأين يتحدد الإشكال؟ إذا ما افترضنا أن اللغة هي وعاء الفكر فهل يمكن القول أن العامية قاصرة عن مطابقة الفكر باللغة؟ بالمقابل أليست العامية هي إثراء للغة وتحيين لها؟ وما موقع العامية أو اللهجة المغربية من هذا النقاش؟ تعد اللغة العربية من اللغات السامية، وهي على نوعان، لغة الشمال ولغة الجنوب، وهما مختلفتان اختلافا ملموسا، حيث كانت لغة الجنوب أكثر اتصالا باللغة الحبشية والإكدية، ولغة الحجاز أكثر اتصال باللغة العبرية والنبطية2، بيد أن هذا التأصيل التاريخي للغة العربية لا يمنع من وجود لهجات قبلية مختلفة الفروع ومتحدة الأصول، فمن ذلك ما كان بالإبدال كقولهم في [الخباع] [الخباء]، ومنها ما كان بتقديم بعض أحرف الكلمة كقولهم [صاعقة] [صاقعة] ومنها ما كان متصلا بالهنوات، كغمغمة قضاعة، وهي متصلة بعدم تمييز الحروف والكلمات وظهورها أثناء الكلام، ومن ذلك ما كان في أوجه الإعراب كنصب الخبر عند الحجازيين، ورفعه عند تميم، من هذا المنطلق نجد أن القبائل العربية كانت تتكلم وتدون لهجاتها طبقا لمواقعها الجغرافية، ورغم أن هذه اللهجات كانت ذات جذر واحد، إلا أنها توحدت في لهجة قريش بظهور الإسلام في قبيلة بني هاشم، وبحلول الدين الإسلامي أصبحت لغة القرآن هي الإطار المرجعي للغة العربية، ومن هنا أصبغ على اللغة العربية صفة القداسة، بيد أن لغة القرآن الكريم لغة خاصة لنص خاص جدا، لكن اللغة العربية شأنها شأن كل لغة أخرى، تتطور، تكتسب خصائص جديدة تماشيا مع تطور المجتمعات العربية. في المغرب نجد أن العامية أكثر تداولا من حيث النطاق، ومن حيث النجاعة التواصلية، من هنا فلغة القول أو المنطوق هي لغة الإحساس والتفاعل، بيد أن المطابقة بين المنطوق والمكتوب يتخذ شكلا آخر يؤثر لا محالة على مكانة اللغة، ضمن الإطار العملي لتكييف الكتابة، إذ الفصحى تطور طبيعي للغة أو اللغات، بمعنى أنها هي التي تخضع للمقاييس النحوية والصرفية و الإعرابية، إذا فهي تطور للغات على مستوى الكتابة، لكن على مستوى المنطوق، فالأمر مختلف تماما بالنسبة للعامية أمام عفوية التعبير ومطابقة الفكر للغة، فالكتابة هنا تعد صورة الصوت،وما دام الصوت هو التعبير الخارجي، فالكتابة بالفصحى ما هي إلا نتاج التفكير بالعامية، فنحن إذا أمام وظيفة التكامل ما بين المنطوق والمكتوب، إذ نحن نعيش باللغة العامية ونفكر بها، ونعرض أفكارنا باللغة العربية الفصحى ونقرأ بها، فنحن أمام بنية ذهنية ثنائية، يمكن ربطها في بالعمق بالبنية الذهنية المغربية المباشرة التفاعلية، بحيث نفكر في كثير من الحالات إما بالفصحى أو العامية والتي تطابق في اعتقادي ثنائية الحداثة مقابل التراث، هذه الذهنية أحد الأسباب الرئيسة لوجود الازدواجية اللغوية، بالمقابل فهناك الكثير من البنيات المشتركة بين الفصحى والعامية، ولكننا دائما نتكلم عن التفاوت، تبعا لمعيار المنطلقات،السياسية،الفكرية، الثقافية، وتحولات التنافس السياسي، والتدافع بين القوى الاجتماعية والثقافية المختلفة التبييئ والمرجعيات، من هنا فالإشكالية اللغوية عامية أم فصحى تتسم بالتنوع والتعقيد حسب طبيعة اللسان، بحيث لا تنتسب ضمن إطار مجالي محدد، فلو أخدنا على سبيل الحصر إسم [ الجزر] وتعدد مسمياته ضمن النسق اللغوي المغربي، لوجدنا إختلافا إسميا حسب طبيعة الإنتماء المجالي، وبالتالي فلا يهمنا هنا المدلول الإشتقاقي للفظ الجزر مثلا[ أو خيزو أو الجعدة...] أو غيرها من المسميات، إذ كلها أعطت بعدا تنوعيا على المستوى اللغوي، بحيث ليس ما يمنع هنا بأن تكون الفصحى منطوقة أو أن تكون العامية مكتوبة، فنحن هنا نتكلم عن الفصحى وامتلاكها لقواعد صارمة، وعن العامية باعتبارها الكلام العفوي المعبر عن الصورة الذهنية المباشرة، فالإشكالية تنحصر في اعتقادي في طاقة اللغتين، ومدى استيعابهما لشساعة المعرفة، بالعودة إلى التاريخ العربي نجد أن اللغة العربية الفصحى كانت ولا زالت لها طاقة كبرى، إذ في العصر العباسي مثلا استطاعت أن تستوعب الكثير من الترجمات والمؤلفات عن طريق الترجمة، فحينما تقهقرت اللغة العربية فيما سمي بعصر الانحطاط، أنتجت لنا إبداعا هجينا، لكن بالمقابل فقد أترث المشهد الأدبي على وجه الخصوص بإبداعات راقية، كالموشحات مثلا إبان العصر الأندلسي، فالعامية في عصرنا هذا وإن كانت وسيلة التواصل الأولى، إلا أنها توظف بشكل سلبي كطاقة، مما يحد من عفويتها الصرفة إلى ما يمكن أن يصطلح عليه بسلطة اللغة، من هنا تطرح إشكالية خريطة الوضع اللساني المغربي ومدى تشعبه وتنوعه، ولذلك فهناك من الباحثين3 من يعتبر أن السوق اللغوية يمارس فيها نوع من الصراع الرمزي بين اللغات في إطار علائق مبنية على تراتبية يحددها التفاعل فيما بينها، وتوجد هذه العلائق في حالة متغيرة حسب التوازنات بين المجتمعات في الحقل الإجتماعي، كما أنها تنطوي على رهانات رمزية لها تجليات مادية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غير أن هذا التمثل يمكن توصيفه من خلال إمكانية الفهم المتبادل بين اللهجات، ومن خلال حجم الفجوة اللغوية بين مستويات التركيب الذهني بين اللغة العربية كدعامة رئيسة في الثمتل المفاهيمي للأشياء، ومدى التأثير السلبي للسمات اللغوية للهجات في تعلم الفصحى، ولعل هذا الأمر كفيل بتحديد ظاهرة الصراع اللغوي إلى ما يسمى حسب بعض الباحثين4 بالكفاءة اللغوية الذهنية، وما يرافق ذلك من تجليات على مستوى الترجمة الذهنية، وهذا راجع إلى حقيقة مفادها إلى أن النمط اللغوي الذي ينشأ عليه الفرد ما هو في واقع الأمر إلا اللهجة المحلية وليست اللغة الفصحى، فالنظام اللغوي الذي يتم إتقانه من خلال الاكتساب الطبيعي منذ الطفولة هو الأكثر رسوخا، وهو المهيمن على أية أنظمة لغوية أخرى، فبعض النظريات تشدد على قدرة اللغة على تصنيف الأذهان، وتهتم أولا بالدلالة الذهنية للغة، في حين تعتبر تصنيف الأحداث والأوضاع مشتقة، لذلك فالإكراه اللغوي هنا مرتبط بالضرورة الاجتماعية، وما لهذه الأخيرة من سلطة رمزية في إقرار مبدأ التأثير المزدوج ضمن ما تستعمله الدولة من سيادة لغوية، بحيث أن كل لغة تعكس تصورا خاصا للحياة، وقيمة اجتماعية ذات حمولة مبيئة، وما العامية هنا إلا تصور مجالي إبستيمي محصور في الزمان والمكان،وإذا تجاوزنا المقاربة الدلالية في تصنيف اللغة إلى المقاربة القانونية نجد المشرع الدستوري المغربي أقر ضمن المبادئ الكبرى الموجهة لسياسية اللغوية بأن تظل اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة إلى جانب الأمازيغية باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة،و صيانة الحسانية بكونها جزأ لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة، وحماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة5. من هنا أخلص إلى أن إشكالية الفصحى والعامية أو جدلية المنطوق والمقروء وإن إتخذت منحى جدليا قوامه الدفاع عن المصالح الضيقة، فإني أعتبر أن اللغة العربية الفصحى هي اللغة الجميلة لكتاباتنا، بينما العامية أو اللهجة هي (اللغة) الجميلة لحياتنا، وليس بين اللغتين أي صراع أو تناحر خلافا لما يدعيه البعض، إذ يشهد الواقع اليومي بأنهما لغتان متجاورتان ومتحابتان. الهوامش: 1: عبد الله العروي: ثقافتنا على ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي الطبعة السادسة 2002 الصفحة 10 الدارالبيضاء المغرب - عبد الله العروي: من ديوان السياسة المركز الثقافي العربي الدارالبيضاء، المغرب الطبعة الاولى2009 2: حنا الفاخوري: تاريخ الأدب العربي الصفحة 20و23 بدون طبعة. 3: أحمد بوكوس: السوق اللغوية والسلطة الرمزية، مجلة المناهل عدد62 و 63 ماي 2001 وزارة الثقافة والاتصال الرباط ص 96 4: عبد القادر الفاسي الفهري: اللسانيات واللغة العربية، دار الشؤون الثقافية العامة الكتاب الثاني ص 212 بغدادالعراق 5: الدستور المغربي لسنة 2011 * باحث بسلك الدكتوراه القاضي عياض , مراكش