على بُعد أيام قليلة ستفتح المدارس والمعاهد والجامعات أبوابها لاستقبال أبنائنا وفلذات أكبادنا وشبابنا لتلقي العلم والمعرفة والتكوين التربوي مستجيبين للنداء الرباني:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الانسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[ القلم:1-5] وفي هذه الآيات إشارة واضحة إلى أن منهج حياة أمة الإسلام ومفتاح تقدمها وازدهارها هو القراءة، فكلمات القرآن أكثر من سبعة وسبعين ألف كلمة، ومن بين كل هذه الكلمات الهائلة كانت كلمة اقرأ هي الأولى في النزول. القرآن فيه آلاف الأوامر: ((أَقِمِ الصَّلاةَ))، ((وَآتُوا الزَّكَاةَ))، ((وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ))، ((أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ))، ((تُوبُوا إِلَى اللَّهِ))؛ لأن القراءة والكتابة ضرورتان أساسيتان لأي أمة تريد التقدم والازدهار، ولم يكن غرس حب القراءة في قلوب المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقط أو في عهد الصحابة الكرام بل في مراحل التاريخ الإسلامي كله، فالمكتبات الإسلامية في التاريخ الإسلامي كانت من أعظم مكتبات العالم، وليس هذا لمدة سنين قليلة بل لمدة قرون طويلة، فعلى سبيل المثال: مكتبة بغداد وقرطبة وإشبيلية وغرناطة وفاس والقيروان والقاهرة ودمشق وصنعاء وطرابلس والمدينة ومكة والقدس وغيرها، فهذا تاريخ طويل من الثقافة والحضارة والعلم. هذه هي قيمة القراءة في الميزان الإسلامي والتاريخ الإسلامي. ومع هذه القيمة وكل هذا التاريخ إلا أنه للأسف الشديد فإن أمة الإسلام الآن تعاني من أمية شديدة! وانتكاسة حقيقية في الأمة التي أول كلمة من دستورها: اقرأ. فإن نسبة الأمية التامة في العالم الإسلامي 37% لا يعرفون القراءة أصلاً، فضلاً أن يقرءوا أشياء ويتركوا أشياء، فالعالم الإسلامي يُنفق على التعليم أقل من 4% من الناتج القومي الإجمالي، وهذه نسبة قليلة جداً بالقياسات العالمية، فالموضوع ليس في بؤرة الاهتمام عند المسلمين، وهذه مشكلة خطيرة تحتاج إلى وقفة. لقد أصبح من المعلوم بداهة أن مكانة الأمة وعلو منزلتها تتوقف على شيوع العلم فيها وقد بلغت أمة الإسلام في عهودها الزاهرة ذروة المجد وتربعت على عرش السيادة وقادت العالم قروناً طويلة وأنارت ببصائر علمائها ومفكريها ظلام الجهل الدامس في أوروبا وقد شهد بذلك المنصفون من الغربيين مثل غوستاف لوبون وجوزيف ماك كيب في كتابه:(مدنية المسلمين في إسبانبا) ترجمه تقي الدين الهلالي، وبنى رجال أوروبا بما تعلموه في مدارس الأندلس وبما نقلوه من علوم أسسَ النهضة الحديثة التي ظهرت بوادرها في القرن الثامن عشر وازدهرت في القرن العشرين، ويذكر لنا التاريخ المآت من العلماء في كل فن، ويحق لأمة الإسلام أن تفاخر العالم قاطبة وذلك لتكافل أفرادها جميعاً في القيام بواجب العلم وإزالة آثار الجهل وهذا التكافل العلمي في الإسلام ينبعث من عقيدة راسخة ترفض الجهل وتأباه مهما كانت صوره وأشكاله. يقول الدكتور عبد الفتاح عاشور: "ومثل هذا اللون من التكافل يحتم على أمة الإسلام تيسير سبل العلم لكل طالب، وتشجيع أهل العلم وحث الجهلة على التعلم، وإتاحة الفرصة لكل متفوق، وتكاتف أفراد المجتمع فيما بينهم على إزالة آثار الأمية والجهل" فإذا كان من حق أي مجتمع أن يسمي نفسه بالمجتمع المثقف، فمجتمع الإسلام هو أول من يُطلق عليه هذا الوصف. ومن هذه المجتمعات المجتمع المغربي الذي عرف حركة ثقافية متنوعة، تحدثنا المصادر التاريخية عن ملامح وجود المكتبات والخزانات في المغرب منذ العصر الإدريسي [ 172- 375ه]بسبب توافد العلماء من الأندلس والقيروان والشرق إلى مدينة فاس وتأسيس مسجد القرويين ثم ازدهرت في عهد يوسف بن عبد المومن الموحدي (ت 580ه) الذي كان شغوفا بالفلسفة متصفا بالذكاء فقد استوزر أبا بكر بن الطفيل الطبيب والفيلسوف المشهور وقرب أبا الوليد بن رشد وأمره بترجمة أعمال أرسطو إلى العربية وتمكن من جمع مكتبة في حجم مكتبة قرطبة، ثم عرفت نموا أكبر في عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي السعدي (ت 1012ه) الذي لم يدخر وسعا في إغنائها بكل ما ظهر في عصره من مؤلفات، ثم اعتنى بهذه الخزانات والمكتبات السلاطين العلويون بدءا بالمولى الرشيد (ت 1082ه) إلى الملك الحالي محمد السادس نصره الله، حيث زودها الرشيد بما بقي من مكتبات السعديين وبما أخذه من مكتبة زاوية الدلائيين الغنية ثم نماها وطورها أخوه إسماعيل (ت 1139ه) ومن بعده حفيدُه محمد بن عبد الله (ت 1204ه) الذي عين قيمين لتسييرها وتنظيمها والسهر عليها ثم تميزت في عهد سليمان الذي كان شغوفا بعلم التاريخ، وفي عهد الحسن الأول الذي كان مولعا بعلم الكيمياء، وتدخل الخزانة عالم النسيان عند دخول المستعمِر ولم تسترد نشاطها إلا في عهد الحسن الثاني الذي أعاد بناءها وفهرسها وفتح أبوابها للباحثين. فهذه ومضة خاطفة من تاريخ هذا التراث المغربي العظيم مما بذله أسلافنا في ميادين العلم والمعرفة من أجل إسعاد الإنسانية ورقيها ، وهذه الصُّبابة – الشيء الباقي من الكأس بعد أن كان مملوء – الباقية تهيب بالباحثين وتناديهم أن ينقذوها من الضياع وقد أتاح الله لهم الآن ما لم يتح لأسلافهم من وسائل الحفظ والعناية والطبع والنشر والتحقيق ، ولا يحتاج هذا إلا إلى تضافر الجهود وإثارة العزائم بالتوعية الصحيحة والتعليم المثمر المفيد ، فإذا تم هذا على الوجه المطلوب بردت عظام الأسلاف بين أطباق الثرى وقرَّتْ عيونهم في العالم الآخر ببرور الأبناء بآثارهم التي أفنوا فيها أعمارهم طيب الله ذكرهم ورفع عنده قدرهم. غير أن ما تتألم له القرائح العلمية هو تراجع مستوى التعليم والإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي،تتفق آراء التنمويين على أن أسباب تراجع مستوى التعليم في الدول العربية عائد إلى اعتماد استراتيجية تذكُّر المعرفة وليس إنتاجها ، وعدم تخصيص ميزانية مستقلة ومشجعة للبحوث العلمية والافتقار للوقت والتمويل اللازمين للوصول إلى النتائج المرجوة من الأبحاث ، وتدني مستوى الوعي بالأبحاث العلمية ومردودها الإيجابي ، وهجرة الأدمغة. فالدول المتقدمة ترصد ميزانية ضخمة للبحوث العلمية ، حيث تنفق الولاياتالمتحدةالأمريكية على الأبحاث فيها ما يعادل 35% من الإنفاق العالمي الإجمالي، بينما لا يشكل الإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي أكثر من واحد من مائة جزء في المائة (0.01%) من مجمل الدخل القومي في حين أنه يصل إلى 4.7% في اسرائيل مثلا، ينفق العرب مجتمعين خمسة وثلاثين وخمسمائة(535) مليون دولار سنويا على البحث العلمي ، أما اسرائيل فأنفقت نحو تسعة مليارات دولار سنة 2008، لذا لا تتعدى نسبة مساهمة الجامعات العربية عالميا في التنمية الشاملة والبحث العلمي 1% في حين تخصص أمريكا 35% واليابان 24% واسرائيل 6% وأوروبا 3% . تبلغ نسبة الباحثين في الدول العربية ثمانية عشر وثلاثمائة (318) لكل مليون نسمة ، بينما قد تصل النسبة في بعض الدول المتقدمة إلى خمسة آلاف (5000) لكل مليون نسمة ،فجامعة اسطنبول بتركيا تتوفر على ستة وعشرين ألف أستاذ(26000) وجامعات المغرب (12) كلها تتوفر على ثلاثة عشر آلاف أستاذ(13000) ومعظمهم لا يتوفر على مكتب لاستقبال الطلبة. وذكر العالم المصري أحمد زويل أن نسبة الأوراق العلمية المقدمة من الجامعات العربية لا تتجاوز ثلاثة من عشرة آلاف في المائة (0.0003%) من مجموع الأبحاث التي تقدمها جامعات العالم.أما بالنسبة لهجرة الأدمغة فذلك تحد آخر وخطير إذ أن 31% من الأدمغة المهاجرة من الدول النامية هم عرب، 50% أطباء و 32% مهندسون و 15% من ذوي الكفاءات العربية هاجرت إلى أمريكا وأوروبا و 54% من الطلبة العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم الأصلية ، وتُعزى أسباب ذلك إلى : *غياب الاستقرار السياسي والعدالة الاجتماعية. *نقص الحريات. *عدم توفر فرص البحث العلمي. ورغم هذا الوضع المقلق الذي لا يرضاه غيور على وطنه فإن المتعلم مطالب بأن لا ييأس وأن يكون قائده الأمل لكن بشرط العمل،فالمهمة رسالية محضة تدفع الباحثين والمهتمين بالشأن التربوي إلى معالجة هذه الأزمة وعوارضها. إن الامتداح لقيمة العلم في التصور الإسلامي دون إيجاد حلول لهذا الوضع وغيره وتقديم اجتهادات قيمة نافعة للأمة وتجديد المعرفة وتفعيل توظيفها في التأطير والتحفيز إلى نهضة فكرية حضارية لا يحل مشكلة الهدر المدرسي ولا مشكلة العزوف عن القراءة. فالمطلوب هو استنهاض همم الباحثين والدارسين والخبراء والمهتمين بالشأن التربوي والتعليمي والإسهام في عملية الإصلاح على قدر المستطاع، ولن يتأتى هذا إلا بتكاثف الجهود وتضافر الجميع وتوفير الإمكانات اللازمة. *أستاذ الثانوي التأهيلي بمدينة المضيق باحث بكلية أصول الدين وحوار الحضارات بتطوان.