محمد سعيد الصمدي (*): ستظل قيم الإسلام متجذرة في نفوس بنيها عبر أزمنة التحول والتقدم والتطور، وستبقى قيمةُ التحبيس والوقف على ما ينفع الحرث والنسل قيمةً خالدة ومسلكاً طبيعيا مألوفا مادامت الحركة تدب على البسيطة، ومهما عرف المجتمع من تحولات وانزلاقات لا تستتب في بيئة محصنة أصيلة... وكثيرة هي عمليات وأنواع الوقف التي تستحضرها كتب التراجم والتاريخ الإسلامي، والتي حصل بها النفع والانتفاع في ألوان شتى وضروب متنوعة ودقيقة.وتأتي عملية وقف وتحبيس المكتبات الخاصة على رأس قائمة الوقف الذي عرفته أمة اقرأ المسلمة. وبالمغرب الأقصى وبطنجة تحديدا سيُشْرِفُ مطلع الثمانينيات وقيد حياته العالم الأديب عبد الله كنون رحمه الله على حفل تسليم مكتبته العامرة لعموم الباحثين والقراء، وقفا وتحبيسا، بفضاء متميز يقع وسط المدينة، ولا يكاد باحث يشتغل بتحقيق متن مخطوط أو بموضوع تراثي دقيق إلا وسافر إليها ودخلها وقلَّب ذخائرها بما يعود على أشتات بحثه ومطالب فصوله غنى وثراءً وجدةً... وتشاء الأقدارُ بعد ثلاثين سنة على افتتاح هذا الوقف (1985)، أن يحصلَ وقفٌ على وقفٍ، وأن تزدانَ هذه المعلمة الثقافية بعُدَّة مكتبية زاخرة تمثلت في خزانة علمية نادرة ووافرة جدا، خزانةِالأستاذ البحاثة المتخصص في أدب الغرب الإسلامي الدكتورعبد الله المرابط الترغي أمدَّ الله في عمره، فبعد إشرافه على التقاعد الوظيفي والذي مازال معه يمارس بعشق كبير وتفانٍ تأطيرَ مسالك الماستر ومدارس الدكتوراه بجامعة عبد الملك السعدي بتطوان. وما زال ينشر ويؤلف، فهو صاحب فهارس علماء المغرب، وحركة الأدب على عهد المولى إسماعيل، وأعلام مالقة(تحقيق)، ومن أعلام شمال المغرب الجزء الأول الذي صدر أخيرا، وهو بصدد الانتهاء من جزئه الثاني، وغيرها من البحوث التراثية المفيدة... صبيحة يوم الاثنين 22 رجب الخير 1436 للهجرة الموافق 11 ماي 2015م ، وفي حفل تكريمي حميم أقيم بقاعة المحاضرات بمكتبة عبد الله كنون بطنجة، حضره رفاق الدرب العلمي وأساتذة باحثون وطلبة الماستر والدكتوراه وعدلان، وقَّع رسميا المحبِّسُ الأستاذ عبد الله المرابط الترغي وثيقة التحبيس تحريرا في كناشة العدلين وتلاوة لنص التحبيس أمام الحضور، في جو مؤثر ومتفاعل مع حميمية الحدث وندرته؛ ومع كلمة المحبِّس المؤثرة الرقيقة التي أردف فيها واستدرك قائلا أن ما سيدخل مكتبته، ويوميا يدخلها الجديد على حد قوله، منذئذ إلى أن يغادر هذه العاجلة، هو مشمولٌ بالوقفِ أيضا على مكتبة عبد الله كنون. بمعنى أن مكتبة عبد الله المرابط الترغي ستنضاف لمحتويات مكتبة عبد الله كنون... ويجدر التنويه هنا أن المكتبة المحبَّسة، كما يعلم كل مَن اطلع عليها، وأغلب طلبته الباحثين أفادوا من ذخائرها ونوادرها، لأنه يعتبرهم جميعا بمثابة أبنائه؛ فلا تجد باحثا في التراث بمختلف فنونه وعلومه زاره، يعرفه أو لا يعرفه،من المغرب أو خارجه إلا واستنسخ منها مخطوطا نادرا أوكتابا مفقودا أو وثيقة خاصة، أو ميكروفيلما محصَّلا عليه، أو شريطاصوتيا مسجلا...لقد كان ومازال الأستاذ حريصا أشد ما يكون الحرص على الظفر بكل بأثر وقع إلى علمه أو تصيَّده في رحلاته وسفرياته.قلت : إن هذه المكتبة المحبَّسة تحتوي مكوناتها على الكثيرمن الأصولِ والمصادر النادرة والمخطوطات والمصورات المفقودة والمجلات المتوقفة عن الصدور أوغير المسوقة بالمغرب، والدراسات الحديثة التراثية التي يندر الالتفات إليها، وأما بحوث الإجازات ورسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه فمن خصوصيات هذا المكتبة وفرادتها. وغير ذلك كثير... وعليه فلن أكون مجانبا للصواب، ولاعتبارتعلمية وبحثية وشخصية عدة؛ إذا زعمت أن حصيلةَمكتبة عبد الله المرابط الترغي المحبَّسة، والتي تضم أيضا مكتبة والده الفقيه القاضي محمد بن المفضل بن عبد السلام المرابط الترغيالتطواني(ت 1420ه)تزيدُ اضعافا على محتويات مكتبة عبد الله كنون رحمه الله. وعلمنا من رئيس الجمعية الساهرة على شؤون هذه المكتبة العامرة الأستاذ النقيب محمد مصطفى الريسوني أن الرأي استقر على أن يُخصَّصَ لهذا الوقف العلمي الثمين جناحٌ مستقل داخل المكتبة يحمل عنوان صاحبه.وهكذا تشاء الأقدار أن يُكرم المحبِّسُ الأول العالم الأديب عبد الله كنون بأجرٍ آخر تمثل في هذا الوقف الترغي المجيد . ويكتبُ الله لهذه المكتبة العلمية حفظا وصونا وحراسة في عهد خادمها السابق ومحافظها المرحوم الأستاذ البحاثة والمؤرخ عبد الصمد العشاب رحمه الله(ت 1433ه/2012م)؛ وتشاء الأقدار أن يحظى زمنُ محافظِها الجديد والمعتني بأمانة حفظها وصونها الدكتور محمد كنون الحسني رئيس المجلس العلمي بطنجة بهذا التكريم الرائع الذي زَفَّه عميد أدب الغرب الإسلامي وتحقيق التراث الدكتور عبد الله المرابط الترغي؛ لتصبح هذه المعلمة العلمية الزاخرة واحدةً من أهم معالم المدينة وآثارها التي ستزداد بها إشراقا وإشعاعا وإفادة. ومما جاء في نص التحبيس الذي تلاه العدل الموثِّقُ قوله:"...أشْهَدَ عبد الله المرابط الترغي أنه حبَّس جميع مكتبته العامرة المشتملة على المطبوعات والمصورات والمخطوطات والمطبوعات الحجرية، ومعها مجموعة كبيرة من الأقراص الإلكترونية على مؤسسة مكتبة عبد الله كنون للثقافة والبحث العلمي؛ لينتفع به أهل العلم وطلبته، حبوسا مؤبدا أخرجه من مِلكه وحَوْزه ونَقَلَه إلى المكتبة المذكورة، تنفيذا له وتصحيحا وحازه منه رئيس المؤسسة الأستاذ النقيب الشريف محمد مصطفى الريسوني، حوزا تاما معاينة. وَوَضَعَه في المكتبة المذكورة كما يجب، وشَكَرَه على فعله وإحسانه." وحاليا يرقد الأستاذ الجليل بمصحة السلام بطنجة، نسأل الله له الشفاء والعافية؛ وأن يُجزل الله المثوبة والأجر لهذا الفيض العلمي العميم، وعلى كل واحد أفاد ويُفيد من كنوزهذهالمكتبة وذخائرها واجبُ الدعاء لمُحَبِّسِيها الأماجد... (*) المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة