وسط قصبة بني عمار، الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من مدينة زرهون، تنتصب أطلال عبارة عن أقواسِ قصبة قديمة، يلخّص منظرها حال البلدة التي تفتقد إلى البنية التحتية في أبسط شروطها، رغم أنّها تتمتع بأراض خصبة تنتج الزيتون والحبوب والخضر وفواكهَ شتى، في مقدمتها التين. كان المكان الذي تنتصب فيه تلك الأطلال المتداعية يسمّى قصبة سيدي لحسن، وبالقرب منها كانت ثمّة "سقاية" قديمة يُروى أنّ عمرها يناهز ثلاثمائة عام، لمْ يتبقَّ منها شيء، بعدما سُوّيت بالأرض مخلّفة مكانها فراغا موحشا، هو العنوان الأبرز للحياة، بليلها ونهارها، في قصبة بني عمار. استغاثة مآثر يشير محمد، وهو من الفاعلين الجمعويين النشطين بقصبة بني عمار، بسبّابته إلى المكان الذي كانت تتواجد به "السقاية" المُطمسة، قائلا: "جا المجلس الجماعي هادي عشرين عام وزوّلها، المجلس ما فاهمش، والمسؤولين ما عارفينش القيمة ديال هاد المآثر اللي يمكن تكون مورد سياحي ومادي للبلد". خلال فعاليات النسخة الثانية عشرة من مهرجان بني عمار زرهون، الأسبوع الفارط، لم يجد المنظمون مكانا لائقا لعرض مسرحية "رماد اليقين" سوى قصبة سيدي لحسن. قبل عرض المسرحية قام الشباب المشرفون على التنظيم بتنقية أرضية المكان من الأزبال ورشّها بالماء تفاديا لتصاعد الغبار أثناء العرض. وفي ختام المهرجان لم يجد المنظمون مكانا آخر لتتويج الفائزين سوى فضاءين: ملعب للقرب، وقصبة سيدي لحسن. اختاروا القصبة لرمزيتها التاريخية، وإن كان حالُها مثيرا للشفقة، وقد عبّر عن ذلك نور الدين أقشاني، رئيس شبكة المقاهي الثقافية، بدعوته المسؤولين إلى الالتفات إلى القصبة قبل أن يخِرَّ ما تبقّى منها وتصير في خبر كان. دعوة لقيَت صدى في نفوس السكان، عبروا عنه بتصفيقات حارة لمطلب الإنقاذ. تختزن قصبة سيدي لحسن، أو بالأحرى ما تبقى من أطلالها، جزءا من ذاكرة قصبة بني عمار، فأعمدتها بُنيب فوق صهريج (مطفية) كانت تُخزّن فيه مياه الأمطار، لكنّ هذا الجزء من ذاكرة القصبة ذهب أدراج الرياح في ظل غياب أي التفاتة من الجهات المعنية. غياب حوّل الفضاء التاريخي إلى مكان تُرمى فيه الأزبال، و"مرآب" يركن فيه أحدهم محراثَ جرّاره، يقفز فوقه أطفال القصبة لتزجية وقتهم الغارق في الضياع. قرية غنية يحفها الفقر في الماضي البعيد، كانت قصبة بني عمار ذائعة الصيت بتاريخها المزدهر، حيث كانت عاصمة اقتصادية لزرهون الشمالية، لما تتمتع به من موقع جغرافي متميز جعلها، إبان فترة الحماية، هدفا لقصف الاستعمار الفرنسي، انطلاقا من قمة الجبل المطل عليها، وبفضل أراضيها الفلاحية الخصبة المعروفة بإنتاج الزيتون والتين والعنب... يقارن عبد الجبار بن لشهب، أحد أبناء قصبة بني عمار، بين وضع القصبة "أيام زمان" وبين وضعها الحالي، فيخلُص إلى أنه جد سيء حاليا. فبالرغم من أنّ التيار الكهربائي دلف إلى بيوت البلدة، إلا أنّ نوره لم يخرجها من عتمة التهميش والإهمال اللذين يطالانها على جميع الأصعدة. لا توجد في قصبة بني عمار أية مرافق يُمكن أن يأوي إليها سكان القصبة، عدا بضعة مقاهٍ في غاية البساطة يلتئم بعض الشباب والكهول في أركانها لحشو رئاتهم بدخان الكِيف المتصاعد من جوف السبسي، أما الأطفال فيقضون سحابة زمانهم الفارغ وسط حارات القصبة المتربة. "مشكل الفضاءات الترفيهية مشكل عويص جدا هنا في قصبة بني عمار، لكون البلدة مبنية فوق صخرة، وبالتالي فليست هناك أراضٍ يمكن أن تبنى عليها هذه الفضاءات"، يقول عبد الجبار بن لشهب، لكن هذا، يضيف المتحدث، لا يمكن أن يكون ذريعة، فبإمكان الجماعة أن تستغلَّ الدُّور القديمة، مثلا، لأنشاء فضاءات للشباب. الفضاء الترفيهي الوحيد المتاح لأطفال وشباب قصبة بني عمار هو ملعب للقرب بُني في هامش البلدة، لكنه يفتقر إلى مواصفات منشأة رياضية، ذلك أن أرضيته مبلطة بالإسمنت، وهو ما يعرّض مستغلّيه لإصابات جسدية، ترتفع خطورتها في ظل افتقار مستوصف البلدة إلى طبيب، أو حتى سيارة إسعاف. وإذا كانت المرافق الترفيهية بالنسبة لساكنة بلدة بني عمار تُصنف ضمن خانة "الأحلام"، فإنّ البلدة تفتقر، أيضا، إلى المرافق الأساسية. وسط البلدة يوجد مستوصف قروي، لكنه لا يكفي لأي شيء، تقريبا، لعدم وجود طبيب به، ما يحتّم على الساكنة التوجه إلى المركز الصحي بنزالات بني عمار، أو إلى مدينة زرهون، بالنسبة لحالات الولادة. "لا أعرف لماذا لا تتوفر بلدة بني عمار على سيارة إسعاف على الأقل"، يتساءل عبد الجبار بن لشهب، مضيفا: "إذا تعرّض طفل أو شاب لكسر وهو يلعب الكرة في ملعب القرب، فلن يصل إلى المستشفى حتى تتدهور حالته، وإذا كانت ثمّة امرأة على وشك الولادة فإنها قد تلِد وهي في الطريق، ما قد يؤدي إلى وفاة جنينها، أو وفاتهما معا". لوْم لأطر البلدة لا يملك عبد الجبار بن لشهب من حيلة يواجه بها اندحار القصبة التي وُلد وترعرع فيها، قبل أن يشدّ الرحال إلى العاصمة الرباط حيث يستقر الآن، سوى أن يمدّ يده إلى أيدي بعض أبناء البلدة ممّن لهم الغيرة عليها، والقيام بأعمال تطوعية في إطار العمل الجمعوي. يتنهّد بن لشهب وهو يُطل من سطح بيته على حارات البلدة المتربة، وغير بعيد يلوحُ منظر بشع عبارة عن تَلّ مكسوّ بالأزبال عن آخره. يوضّح لنا أنّ بعض أبناء قصبة بني عمار أخذتهم الغيرة على بلدتهم، فبادروا إلى تكليف أحد الشباب بعملية جمع الأزبال من حارات القصبة، بشراكة مع الجهات المعنية، مقابل تعويض مالي، لكن المبادرة لم يُكتب لها النجاح لتراجع الشاب المكلف "حيتْ عمّرو ليه راسو". ما يحز في نفس بن لشهب، بالإضافة إلى إهمالها من طرف المسؤولين، هو أنّ بلدة بني عمار أنجبت عددا من الأطر، من أطباء ومهندسين وأساتذة ودكاترة في مختلف التخصصات، "بإمكانهم، انطلاقا من مناصبهم، أن يساهموا، على الأقل، في إنقاذ موطنهم الأصلي من وضعه الحالي". وتابع: "كانت لدينا هنا مطاحن للزيتون، اليوم اندثر كل شيء، وشباب القرية يرزحون تحت وطأة البطالة، رغم أن منهم من له مستوى تعليمي جامعي، ولا من يمدّ لهم يد العون، على الأقل لتوجيههم، لأن التوجيه مهم لحمايتهم على الأقل من التيارات التي يمكن أن تستغلهم في أي وقت وتوظفهم لأغراضها الخاصة". السؤال الذي يتردد على ألسن ساكنة بلدة بني عمار، ردّده عبد الجبار بن لشهب مرات عدة أثناء حديثه إلينا، وهو "لماذا حصل كل هذا؟"، أما أمنيتهم، فهي "الله يجيب اللي يشوف من حال هاد البلاد".