كان في صدر اللائحة التي كانت تنتظر مني الالتفات إليها (قصبة بني عمار) أو «قرية» أو «مدشر»... من يكون عمار الذي ينتسب إليه البنون؟ ومن هم هؤلاء البنون الذين قرأنا عن بعضهم أيام السلطان المولى إسماعيل، على ما يذكره محمد ابن الطيب القادري (ت1187-1773) في (نشر المثاني) عندما كان بصدد الحديث في (الخاتمة) عن الشرفاء الطالبيين وعن سيدي محمد بن العربي بوطالب حيث ساق قصة نقيبهم مولاي سليمان بوطالب مع القائد العماري الذي كان أحد زعماء جيش العبيد... من هنا كنت سعيدا جدا أن أستجيب للدعوة الكريمة التي وجهت إلي من لدن جمعية مهرجانات بني عمار للسينما والثقافة، وجدت في تلك الاستجابة الجمع بين اثنين: المتعة والفائدة كما يقول التعبير الفرنسي: (Joindre l'utile à l'agréable). وهكذا تسلحت بخارطة ولاية مكناس من السيدة الفاضلة زهرة ظافر مديرة قسم «الخرائطية» التابع للوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري... لقد ساعدتني الخارطة... وإني أغتنم هذه الفرصة لأجدد شكري على المساعدة الثمينة. نحن الآن أمام الخارطة التي تحدد (قصبة بني عمار) شمال زاوية مولاي إدريس زرهون التي تقع هي الأخرى شمال مدينة مكناس الزيتون. لقد تفضل السادة المشرفون على المهرجان بتنظيم الرحلة إلى «القصبة» التي لم تكن بعيدة عن زرهون والتي – حسب تحرياتي – لم يرد لها ذكر بين القصبات التي أنشأها السلطان مولاي إسماعيل، ما يعني أنها ترجع إلى عهد سابق يرحج عدد من الباحثين أن تعود إلى العهد المريني). لقد استمتعنا برفقة قوم كانوا لا يقلون عني رغبة في الوقوف على معالم القصبة وعلى رأسهم الأديب محمد بلمو مدير المهرجان والدكتور مْحمد بلمو رئيس الجمعية... كان يصحبنا رتل من السيارات التي أقلت عددا من الإعلاميين الذين لبوا دعوة الجمعية. وجدت نفسي في فضاء جديد فاق الفضاء الذي كنت أتخيله! وجدت نفسي في موقع آهل بالسكان، مؤثث بكل ما يمكن أن يحتاج إليه الموقع : هنا المسجد الذي يكون - عبر التاريخ المغربي – نواة المدينة أية مدينة. هنا الفرن التقليدي الذي تتردد عليه بيوت المدينة ونحن نعلم المثل المغربي «الفران سبق الجامع»!... هنا المدرسة حيث حشود من التلميذات والتلاميذ الذين تبدو على محياهم ملامح الحيوية والنشاط، وتعلو وجوههم البسمة البريئة، كانوا يتهافتون على النشرات والكتب التي تقدم إليهم من أعضاء الجمعية، كنت أداعبهم بإلقاء بعض الأسئلة قصد اختبارهم فكانوا في منتهى الذكاء والفطنة واليقظة، بل وفي أتم الاستعداد للجواب عن النكتة بالنكتة والجواب عن الفكاهة بالفكاهة! ابتهجت بكل هذه المشاهد... التي شجعتني على التعمق في دروب القصبة ومنعرجاتها الضيقة وقد ذكرتني في دروب مدينة فاس!!. (كانت علاقة القصبة مع مدينة فاس قوية بحكم القرب، وبسبب النهوض الاقتصادي الذي كانت تعرفه، حيث فضل الكثير من الفاسيين اقتناء منازل ودكاكين وقطع أرضية وحقول زيتون بالقصبة لا زال بعضها حتى الآن في ملكهم، فضلا عن علاقات المصاهرة التي نسجت بين الطرفين). ملتقى العرب والأمازيغ لقد أدركتُ الباعث لجمعية مهرجانات بني عمار لرفع الشعار الذي اختاروه لجمعيتهم، فقد كان «الحمار» هو الوسيلة المفضلة للتواصل ولاختراق هذه الدروب والمنعرجات، لقد آمنت برسالة السيد «الحمار» الذي كان عنصرا هاما بالأمس ليس في حياة «النزالة» وما جاورها، ولكن في حياة كل مدينة من المدن! مدينة فاس ومعها مدينة مراكش وغيرهما، كما تنبه لذلك الباحث الفرنسي لوتورنو بالنسبة لفاس وزميله دوفيردان بالنسبة لمراكش. واستأنفنا التوغل في المدينة بالرغم من أن الحرارة كانت تتحدانا على نحو ما نتحداها نحن بالقنينات المثلجة التي ذكرني ماؤها في دعاء الرسول الأكرم «اللهم اجعل حبي إليك كحبي للماء البارد»! قصدنا قلب «المدشر» وفوجئت بمشاهدة الآثار الباقية من الأمس البعيد: أقواس عظيمة تنتظر من يستنطقها، تحكي عن عالم كان حافلا بساكنيه الذين راحوا برجاله ونسائه، تذكرت قول ابن العميد (366=977) سكن الدنيا أناس قبلنا رحلوا عنها وخلوها لنا ونزلناها كما قد نزلوا ونخليها لقوم بعدنا!! مبان كانت بالأمس هنا، كانت منازل إن لم أقل قصورا...! آثار لمساكن وأحياء ومرافق. وضمن هذه المباني كان هنا حي يسكنه يهود المدينة الذين كانوا يجدون في القصبة ما يسعدهم، كما وجد لاحقا ثوار الريف وعائلاتهم ملاذا آمنا في هذه القصبة حيث استقر بعضهم بها عندما انهزمت ثورة عبد الكريم الخطابي. وقفت ضمن من وقفوا معي أسأل عمن كان هنا بالأمس؟ الكل يدلي بدلوه للوصول إلى أسباب الخراب والدمار، متى حصل كل هذا؟ الكل يريد أن يعرف، وانطلق المصورون يلتقطون بعض ما أثار انتباههم. لقد شعروا بأن زلزالا قويا ضرب هذه المنشآت فأصبحت أثرا بعد عين كأنها لم تعن بالأمس!! لابد أن نعرف أن هذه المنطقة كانت ملتقى لحضارات متنوعة، فهي في حاجة إلينا لكي نقوم بدراستها وترميمها وبعث الحياة فيها من جديد، لكي نقدمها لمواطنينا أولا ولغير مواطنينا. هنا عاش الزعماء الأمازيغ... وهنا كان ملتقاهم مع العرب من أمثال الإمام إدريس الأول الذي صاهرهم وامتزجت الدماء وكانت دولة بني إدريس، هنا شاهدت المنطقة حضور الرومان الذين تركوا لهم في فوليبلس (VOLUBILIS) آثارا قائمة على نحو ما تقوم عليه هذه الأطلال في قصبة بني عمار الشامخة. كانت المنطقة إذن ملاذا لكل الذين يهمهم تاريخ التيارات المختلفة التي عرفها المغرب في العصر الوسيط. عضو أكاديمية المملكة المغربية