قال الأديب المصري يوسف زيدان إن "السياق في بلدان المنطقة خانق بالنسبة للمثقفين والكتاب، وهو شبيه كثيرا بواقع العديد من العلماء أمثال ابن سينا والكندي وغيرهما، حيث لا تزال إشكالاتهم قائمة، على الرغم من مرور العديد من السنوات على وفاتهم"، مشددا على أن "الأنظمة السياسية العربية تعتمد بدورها على نفس الطرق القديمة للمماليك والسلاجقة، أي الحكم للمنتصر والقوي بدنيا". وأضاف الحائز على جائزة البوكر العالمية للرواية العربية، في حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، أن "أزمة المرأة في المنطقة مرتبطة بتيار يحمل راية الله زورا وبهتانا، ويريد لها البقاء حبيسة الفراش والمنزل"، مشيرا إلى أن المتلاعبين بالدين هم الجماعة الأكثر رداءة داخل أي مجتمع، مسجلا في سياق آخر "استحالة القطيعة مع التراث، بل المطلوب هو أخذ المفيد منه". إليكم الحوار كاملا: آخر إصداراتك، كانت رواية "فردقان"، وهي متن حكائي عن قصة اعتقال ابن سينا في إيران، هل مضيك الدائم نحو التراث الإسلامي هو جواب عن تنامي الحركات الدينية التي تلجأ إليه بدورها لتفسير العديد من بديهياتها؟ هل تبحث ضمنه عن المشترك الإنساني، باعتبار ابن سينا وابن رشد وغيرهما رصيدا مشتركا لدى الإنسانية جمعاء؟ من وجهة نظري، المتصل الزماني ينقسم إلى ماض وحاضر ومستقبل بالقسمة الذهنية وليس بالوجود الفعلي، يعني لو قلت الآن تقصد الحاضر، وفي اللحظة التي تنطق فيها الكلمة تكون قد دخلت إلى بوابة الماضي، فهذا الأخير سواء كان قريبا أو بعيدا هو والمستقبل طرفان، ونحن حالة عبور دائم من هذا إلى ذاك. الماضي البعيد والقريب كلاهما متصل، ما دمت في أمة لم يتغير حرفها منذ 13 قرنا من الزمن، وبالذات منذ عصر التدوين، فنحن نتحدث نفس اللغة التي يحدثها ابن سينا والبيروني، وإن كانوا من أعراق غير عربية، لكن اللغة وعاء للفكر الذي استمر من حيث الشكل والمفاهيم زمنا طويلا، فعندما أفكر في ابن سينا أو ابن النفيس لا أشعر بمسافة زمنية. أقصد هذا على مستوى المعنى الاجتماعي والفعلي، لأن الأمر مدهش، نفس المشكل ونفس آليات الفعل الاجتماعي والسياسي، إذا قارنت الدول العربية المعاصرة، صدام في العراق وعبد الناصر في مصر والبشير في السودان وغيرهم، تجد نفس نظام تولية السلطة عند المماليك، الحكم لمن غلب، وهو نفسه في زمن السلاجقة قبل المماليك بقرنين من الزمن، فدولة محمد الغزناوي قامت بنفس الطريقة التي قامت بها الدولة الأيوبية. ميكانيزم التسلط واحد، وهو القوة البدنية؛ في حين أن الذي جعل لنا مكانة في التاريخ والحضارة ليسوا هم من طبقوا قاعدة الحكم لمن غلب، وإنما هم الذين أضافوا شيئا للحضارة الإنسانية من أمثال البيروني والكندي والفارابي، وهؤلاء بلا استثناء في كل المراحل التاريخية كانوا يعانون، تماما مثلما يعاني المفكر الآن في الدول الشمولية الاستبدادية.. إذن، نحن لم نتحرك، وأحد هواجسي في فعل الكتابة هو لفت النظر إلى كون أننا لم نتقدم، مشكلة ابن سينا وقلقه وضياع تراثه هي نفس مشكلات المثقف الحالي. السياق خانق في معظم البلدان، وبالتالي هاجس الجمود موجود في الكتابة، فضلا عن البحث ضمن هذا التاريخ المنسي عن عمد.. أتعجب كثيرا كيف تكون مقرراتنا في التاريخ مليئة بالسفاحين والقتلة، يمجدون لأنهم بنوا دولا سرعان ما انهارت. هؤلاء المحتفى بهم خبثوا التاريخ، أما المعدن النقي البراق تم استبعاده مع الإبقاء على الأسماء للتباهي. اسأل خريجي الجامعات ماذا يعرفون عن الكندي.. لا شيء، عالم فقط. ربما الرواية هي مدخل ونافذة لإطلالة ناصعة على هذا الجزء المنسي، في مقابل الجزء المعمم في النصف قرن الأخير، بعد غلبة الحكومات العسكرية على أنظمة الحكم في المنطقة كاملة. في جل إرثك الأدبي، تتناول حكايات مرتبطة بالموروث الديني، لكنك تعمد إلى تكثيف عناصر خيالية وأدبية داخله، هل تعتبر الرواية بوابة لنقد الفكر الديني؟ على مستوى الكتابة، لي كتب مباشرة "اللاهوت العربي" و"دوامات التدين" و"متاهات الوهم"، الأدب بالنسبة لي له شروط إنتاج أخرى، أولها اللغة الناصعة وإثارة الخيال، أنطلق من وقائع مدققة بعينها، لدرجة أنها تبدو للقارئ المعاصر متجسدة غير بعيدة عنه. إنما القضايا الفكرية تطرح في الدراسات والمحاضرات والمقالات، والأدب أدب سواء كان رواية أو قصة قصيرة، وفي كلتاهما لا أبذل جهدا كبيرا في المحاججة ونصرة اتجاه عقلاني على اتجاه ظلامي، رغم أن هذا موجود. الشاغل الأساسي في الأدب هو اللغة، كيف يمكن أن نزيل عنها الصدأ المتراكم عبر حالات التردي الثقافي، خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين، بعدما سجل النصف الأول مؤشرات جيدة، في شكل ما راكمته الليبرالية العربية متمثلة في طه حسين وغيره، وهذا تم إجهاضه من طرف مرتزقة الدين ولا اسم لي لهم غير هذا. من يلعب سياسيا بالدين هم مجرد مرتزقة والجماعة الرديئة في كل مجتمع ليس فقط العربي أو الإسلامي، حتى المسيحي؛ فالأمر ليس مقتصرا علينا.. هذه الضباع البشرية التي تعلي راية كاذبة مفادها وكيل الله في الأرض دون أي دليل، يتحدثون باسم الإله دون أي خطاب تفويض، وربما يكون الجزء الوحيد الإيجابي في داعش وامتداداتها أنها كشفت بشكل واضح كذب ادعاء الكلام باسم الإله، كأن القيامة قامت، وأنهم بديل عن الله. حتى في النص القرآني تقول الآية: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا".. فجأة وجدنا مخدوعين ومعطلي العقول يدافعون عن الله ويحاسبون الناس باسمه. سألتني في البداية عن ابن سينا، ابحث عنه على محركات البحث، سرعان ما سيكمل هل ابن سينا ملحد؟ كأن الحكم على دينه هو القضية الأساسية، غيبنا إسهامه الطبي والفكري والفلسفي والمنطقي ومحاولته تأسيس فلسفة خاصة بنا في مواجهة الفلسفة اليونانية. الأمر أصبح وكأن الإلحاد والإيمان هو القضية الأساسية، لكن في الأدب اللغة وصدق المعاناة قضيتان أساسيتان بالنسبة لي، وإيجاد الوتر المشترك بين الكاتب والقارئ، بحيث يشعر القارئ بأنه موجود في هذا النص. قضية المرأة محورية في كتاباتك، خصصت لها روايتين "ظل الأفعى" و"نور"، وضمنهما وضعت تقابلا بين أزمة المرأة في المنطقة ووجود الرجل، حسب اطلاعي على الروايتين، هل ترى الأزمة مرتبطة بهذا التقابل فقط، أم أنها أعمق؟ الأزمة واحدة، جوهرها واحد ولها تجليات عديدة، أزمة الفكر العربي، خصوصا في وقتنا الحالي تتمثل في تجلي الجماعات الناطقة باسم الله زورا وبهتانا، والإمعان في الحط من شأن المرأة والخوف منها، هذا الذي يحرص على الإبقاء عليها في الفراش والأطفال ولفها في الاسوداد هو يحس برعب منها؛ لأن هذا الشخص هو الذي يميل إلى الميوعة في سياق آخر، أما امرأته هو فلا. بالنسبة لي الأزمة مع السلطة والتدين والمرأة، هي كلها تجليات لأزمة فكر لا يريد التقدم أو استجاب لعمليات التجميد فصار جامدا. داخل متني "عزازيل" و"النبطي"، وكذلك في العديد من المقالات والمحاضرات، تقارب مواضيع التراث الإسلامي والمسيحي بنوع من الاشتباك والتلاقي، هل أعمالك تأتي ضمن نسق فكري واحد يبتغي الربط بين التراثين؟ الإنسان واحد، والمشترك الإنساني ممتد عبر المراحل التاريخية والديانات والظروف المختلفة. الإنسان هو هو، بأحلامه وأمانيه وخيالاته وضعفه. أنا أفتش عن الإنسان، إذا طالعت أي كتاب من كتب التاريخ الصماء عن القرن الخامس الميلادي، ستجد انشقاقات دينية وغيرها من الأمور، وكأنه لا وجود للبشر في تلك الفترة. وبالتالي الراهب هيبا في "عزازيل" ومريا في "النبطي" هما صورة الإنسان في القرن الخامس والسابع الميلادي، يخاف ويأمل ويجهض حلمه وينكسر ويحلم ويتخيل ويستشعر الجمال. الإنسان رغم اختلاف اللغة والظروف لكن الجوهر واحد، وهو ما أبحث عنه، سواء في الروايات المعاصرة "محال" و"جوانتانامو" و"نور"، أو في سياق روايات قديمة، وستجد هذا أيضا في القصص القصيرة، آخر المجموعات صدورا "غربة عرب"، كل قصة تحكي عن شخص عربي يعيش في بلد يعيش في بلد آخر، والمحصلة النهائية ل16 قصة هو أن الإنسان نفسه على مستوى الإحساس بالزمان والوجود في المكان. تتناول كثيرا ما تسميه الترجمات عن المفكر الجزائري محمد أركون "البنية الأسطورية للدين"، فمن حكاية "الإسراء والمعراج" إلى "قبة الصخرة"، و"صلاح الدين الأيوبي"، تحطم العديد من المعتقدات السائدة لدى عوام المسلمين.. في نظرك، ما هو المدخل نحو مزيد من عقلنة الدين؟ مثل هذه القضايا، ألقيت بها كأحجار صغيرة جدا في البركة الراكدة لسبب، ليس من قبيل الترف الفكري أو لفت الانتباه، هذا مرهون بسياق محدد استدعى ذلك، وهو واضح ومعروف، وطرحها كان ضمن تناسق، لكن الناس توقفت لدى جزئية إنكار المسجد الأقصى والهجوم على صلاح الدين وخرافة المعراج، إنما هي سياق متصل. دعني أخبرك بما حدث في الواقع، كنا في مصر، قبل ثماني سنوات، نتأذى بمحاولة رئيس الجمهورية تقليد ما قام به رئيس سوريا من توريث الحكم لابنه، وتحويل الجمهورية إلى ملكية، وهذه طامة ومصيبة فادحة؛ لأن الملك يُعد منذ صغره ليصير ملكا.. أما هؤلاء الذين جاؤوا من المعسكرات فغير مستعدين وغير مؤهلين للحكم، ولم يتعلموا السياسة ونشروا الفساد، فما بالك إذا كان الابن سيتلوه، إذن لا هي جمهورية ولا هي ملكية. الشعب المصري خرج بجموع هائلة في ثورة يناير 2011، والمطالب إزاحة الرئيس بعبارة "ارحل" والقضاء على فكرة التوريث، بالإضافة إلى مطالب اجتماعية "عيش حرية عدالة اجتماعية". هذه الحركة التي أضعفت السلطة السياسية لنظام مبارك، كانت منبها لديدان الأرض، التي خرجت في الشهر الثاني من الثورة مباشرة، ومعها جحافل الوافدين من غزة وغيرها رافعين شعارات "على القدس رايحين .. شهداء بالملايين"، فتوقفت عند هذا الأمر. ما دخل القدس في ثورة سياسية واجتماعية، ولماذا المناداة في الشارع بالذهاب إلى القدس شهداء؟ لماذا ليس منتصرين؟ الأمر مرتبط بزج شباب في حروب بسورياوالعراق وغيرها. بعضهم اعترف، بعد سجنه، بأنه يرسل الشبان إلى الجهاد بداعش.. هؤلاء الحقراء يراهنون على ضعف النزعة النقدية لدى الجمهور لخداعهم بشعارات مجانية، قل لي عن شيخ واحد يحمل هذه الدعوات ذهب إلى فلسطين مجاهدا. هو يدفع الشباب إلى القدس والطريق إليها عبر هدم سورياوالعراق، ودوري كشخص معني بهذا المجتمع أن أحلل هذا الخطاب. ما هو الإسراء والمعراج؟ القرآن فيه إسراء لا وجود فيه للمعراج، حتى لغويا خطأ المعراج اسم آلة مثل مفتاح ومثقاب، الصعود مقابله الصحيح هو عروج، والكذابون من المشايخ يقنعون المجانين من الناس بأن "سورة النجم" هي المعبرة عن المعراج، والإسراء تعبر عنها سورة إسرائيل التي تم تغيير اسمها في المصاحف الحديثة إلى سورة "الإسراء"؛ لكنني رأيت ما لا حصر له من المخطوطات التي تبين أن السورة اسمها "إسرائيل" أو "بني إسرائيل" في بعض النسخ. سورة الإسراء، حسب المشهور الآن، تتحدث عن النبي موسى طيب، ولم يذكر فيها الرسول محمد أبدا، وفي وقت نزول الآية المعروفة لم يكن هناك مسجد أقصى، كان مزبلة يلقي فيها المسيحيون القمامة نكاية في اليهود. وبعد أن صرحت بهذا، تصاعدت الدعاية الإخوانية والسلفية، واتهمتني بمجاملة إسرائيل، أجامل إيه إسرائيل. يقولون إنني أقول ذلك للحصول على جائزة نوبل، ماذا أفعل بها؟ هل لأذبح في الشارع مثل الأستاذ نجيب محفوظ؟ أنا أعرفه منذ كنت صغيرا، هذه الجائزة حوّلته إلى شخص تعيس مطارد، وفي النهاية ذبح في قلب القاهرة، بزعم أنه كافر. المهم أن الإسراء تم تزييفه، أما المعراج فهو قلب للحقائق، وجلب من التراث الزرادشتي في الزمن الأموي، وأثناء حظر الكعبة، حيث كان يستخدمها عبد الله ابن الزبير بن العوام للحصول على البيعة. أما عبد الملك بن مروان الذي هدم الكعبة مرتين، فقد بنى قبة الصخرة، ومنها جاءت قصة المعراج، وقس على هذا ما يرتبط بهذا من تمجيد صلاح الدين الأيوبي، ورأيي فيه معلوم باعتباره من الحقراء، لم يقدم شيئا للإسلام سوى الكذب، وهو أول شخص قال عن نفسه خادم الحرمين ولم يذهب يوما للحج. هذا كله يستخدم لشحن رؤوس البسطاء، وتحويلها إلى ديناميت، وآخر الإثباتات كانت قبل يومين حيث انتشرت تفاسير لآيات قرآنية، تطالب بالقتل، ووجدت صدى لدى المخبولين، فكيف فسر أحد المشايخ يُقتلون فيَقتلون، معناها بالنسبة له هو العمليات الإرهابية، معناها يُفجر نفسه يموت أولا ثم يُقتل الباقون ثانيا. هذا كلام يتجاوز الجنون إلى السفالة. باعتبارك منشغلا كثيرا بالبحث داخل التراث، في المغرب هناك في يفرض نفسه هو طرح القطيعة لعبد الله العروي والتوفيق لمحمد عابد الجابري. العروي يبدي تخوفا دائما في تفاعله مع أطروحات الجابري، من كون الاشتغال الدائم على التراث قد يجعلنا حبيسيه، أليست لك نفس الهواجس؟ مسألة القطيعة مع التراث بالنسبة لي هي مزحة ثقيلة الظل، التحدث باللغة العربية والمطالبة بالقطيعة، التفكير وفقا للثقافة العربية أقصد الوعاء العام، بما فيه من ريفيين وحضريين، وأمازيغ وكرد وسوريان والمطالبة بالقطيعة. من أراد القطيعة فليفكر بلغة وطريقة أخرى وليجعل التراث منفصلا عنه كشخص ثم ينادي بالانفصال عنه. هذه طنطنة خيالية، بعض إخواننا المفكرين رؤوا فيها حلا سهلا لمعضلات صعبة، ولا أرى أنها حل، التراث ممتد فينا، ولا سبيل للانقطاع عنه، أو سنبقى جاهلين به وسيؤدي ذلك إلى تدهور أكبر، نحتاج قراءات متعددة وفهم واختيار ماذا نأخذه منه وما نخجل منه، مثل الصراعات العقائدية التي أنهكت الأمم والأفراد؛ لكن الأدب والعلم هي مباهج التراث ومناطقه المضيئة.