في يوليوز الجاري يُكمل الملك محمد السادس عقدين من الزمن في حكم المغرب دبر خلالها إرث والده وبنى نهجه الخاص لتطوير البلاد اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً عبر إطلاق مشاريع كبرى وقيادة برامج هيكلية عدة. كان جلوسه على العرش خلفاً لوالده الراحل الحسن الثاني في شهر يوليوز من سنة 1999 وعُمره لم يتجاوز 36 سنة، وقد كانت البلاد تتلمس طريقها نحو التنمية بعدما خرجت من فترة سنوات الجمر والرصاص التي أعطبتها سياسياً وحقوقياً. في السنوات الأولى لتوليه العرش أطلق الملك سياسة الأوراش الكبرى، وهي مشاريع هيكلية تتعلق بالبنيات التحتية الضرورية لتنمية البلاد، إضافة إلى مخططات مُوجهة إلى قطاعات الفلاحة والصناعة والطاقات المتجددة لدعم التحول الاقتصادي. الليبرالية الاقتصادية في أول خطاب له بعد جلوسه على العرش، تحدث الملك الشاب إلى الشعب المغربي في 30 يوليوز 1999، وقال إن السياسة الداخلية للبلاد ستتشبث بنظام الملكية الدستورية والتعددية الحزبية والليبرالية الاقتصادية وسياسة الجهوية واللامركزية وإقامة دولة الحق والقانون وصيانة حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية وصون الأمن وترسيخ الاستقرار للجميع. وعبر الملك عن طموحه آنذاك بالقول: "إننا نطمح إلى أن يسير المغرب في عهدنا قُدماً على طريق التطور والحداثة وينغمر في خضم الألفية الثالثة مسلحا بنظرة تتطلع لآفاق المستقبل في تعايش مع الغير وتفاهم مع الآخر محافظا على خصوصيته وهويته دون انكماش على الذات في كنف أصالة متجددة وفي ظل معاصرة ملتزمة بقيمنا المقدسة". كما أعلن أنه سيُولي عنايةً لمشكلة الفقر، حيث قال إن "بعض أفراد شعبنا يعاني منه وسنعمل بمعونة الله وتوفيقه على التخفيف من حدته وثقله. وفي هذا الصدد كان والدي رحمه الله قد شرفني بقبول اقتراح إنشاء مؤسسة اختار لها من بين الأسماء مؤسسة محمد الخامس للتضامن تهتم بشؤون الفقراء والمحتاجين والمعوقين عاهدنا أنفسنا على تفعيل دورها وإحاطتها بكامل الرعاية والدعم". وبعد مرور عقدين من الزمن ودخول المغرب الألفية الثالثة، تبدو المملكة أكثر تطوراً وحداثة، لكن لا تزال التحديات تفرض نفسها بخصوص استمرار التفاوتات الاجتماعية والمجالية مع استمرار ارتفاع نسب البطالة ومعدل الفقر. الفلاحة أَوْلى الملك أهميةً كبيرةً للفلاحة، فهي تُعد أحد القطاعات الهامة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لأنها تعني ما يقارب 1.5 مليون فلاح يُساهمون بحوالي 15 في المائة في الناتج الوطني الداخلي الخام، إضافة إلى أنها توفر 40 في المائة من فرص الشغل. ولدعم هذه الفلاحة التي كانت تقليدية في أغلبها، أطلق الملك سنة 2008 مخطط المغرب الأخضر الهادف إلى جعل القطاع رافعةً أساسيةً للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويرتكز هذا المخطط على تعزيز الاستثمارات والتكامل الجيد بين السلاسل الإنتاجية قبلياً وبعدياً بهدف ضمان الأمن الغذائي وتطوير القيمة المضافة، مع الحد من تأثير التغيرات المناخية والحفاظ على الموارد الطبيعية. كما يهدف المخطط إلى إنعاش صادرات المنتجات الفلاحية وتثمين المنتجات المحلية، وقد استند على دعامتين: الأولى تستهدف الفلاحة العصرية، في حين تخص الدعامة الثانية الفلاحين في وضعية صعبة. وقد عبأت الدولة مليارات الدراهم لهذا المشروع الضخم وكان له أثر كبير على الفلاحة المغربية، لكن كثيرا من المتتبعين يرون أنه كان في صالح الفلاحين الكبار أكثر من الصغار، في حين يقول آخرون إن غياب المعرفة بأهمية تطوير الفلاحة لدى المواطنين في العالم القروي جعل فئة منهم لا يقبلون على ما يوفره المخطط من امتيازات لهم. وسيتنهي هذا المشروع الضخم سنة 2020، وقد بادرت وزارة الفلاحة والصيد البحري منذ أشهر إلى الاجتماع بالغرف المهنية والفدراليات البيمهنية لإعداد رؤية لما بعد 2020، بهدف جعلها موجهةً ليستفيد منها الجميع، من الفلاحين الصغار والقطاعات المختلفة للفلاحة وفي مختلف الجهات. الصناعة شكل مخطط تسريع التنمية الصناعية 2014- 2020 امتداداً لمخطط الإقلاع الصناعي الذي أطلق سنة 2005، وللميثاق الوطني للإقلاع الصناعي الذي تم توقيعه سنة 2009، وقد وضع خطة تسعى إلى إرساء صناعة قوية وتنافسية لتُمكن من خلق مناصب الشغل ورفع نسبة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج الداخلي الخام المغربي. ولتحقيق ذلك، اعتمد المخطط سلسلةً من الإجراءات الأساسية، التي ترتكز على إنشاء منظومات صناعية، تروم التغلب على التشتت القطاعي بإحداث شراكات بين المقاولات الكبرى والمقاولات الصغرى والمتوسطة، مما سيمكن من تطوير دينامية صناعية مندمجة للمساهمة في تعزيز التنافسية وتحسين الأداء وخلق فرص الشغل. كما سعى المخطط إلى توفير آليات دعم ملائمة لحاجيات القطاع الصناعي للوصول إلى تحديث النسيج الصناعي وتعزيز قدرته الإنتاجية، وقد تم في إطار ذلك اتخاذ مجموعة من التدابير الموجهة لدعم حاجيات المقاولات فيما يتعلق بتمويل المشاريع الصناعية وإنشاء البنيات التحتية، عبر تخصيص وعاء عقاري لإقامة محطات ومركبات صناعية. الحصيلة الرسمية تقول إن مخطط تسريع التنمية الصناعية ساهم في إحداث 405 آلاف منصب شغل في قطاع الصناعة، بعدما كان الرقم في حدود 288.126 منصب شغل حتى نهاية سنة 2017، وقد بدا ذلك جلياً من خلال مناطق المهن العالمية بمُدن الدارالبيضاء والقنيطرة وطنجة. لكن الرهان بالنسبة إلى التصنيع الصناعي لا يكمن فقط في خلق مناصب شغل، بل يبقى الربح الأكبر هو نقل المعرفة والتكنولوجيا إلى اليد العاملة المغربية لتكون مؤهلة مستقبلاً في بناء صناعة وطنية متكاملة، لا تعتمد فقط على التجميع والتركيب بقدر ما تقوم بالتصنيع الكامل. في السنوات المقبلة سيكون على المغرب رفع التحدي عالياً بخصوص التصنيع من خلال تحقيق نسب اندماج أعلى للوصول إلى صناعة وطنية حقيقية بعيداً عن واقع المناولة الخدماتية التي تنهجها حالياً المجموعات الأجنبية المستثمرة في البلاد. استثمارات أجنبية وبنيات تحتية خلال العقدين الماضيين عرفت المملكة إصلاحات عميقة وشاملة في جميع القطاعات لجذب الاستثمار الأجنبي وإحداث دفعة إضافية للاقتصاد الوطني، وقد تأتت النتيجة للمغرب، حيث أصبح من أكثر الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وقد استفادت هذه الاستثمارات من الاستقرار السياسي والموقع الاستراتيجي والبنية التحتية الآخذة في التطور، وهو ما جلب للمغرب 3,3 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية سنة 2018، لا سيما في قطاعات صناعة السيارات والطيران والطاقة المتجددة. ولدعم هذه الاستثمارات، وخصوصاً استثمارات المهن العالمية، بدأ المغرب منذ سنوات في تطوير ميناء طنجة المتوسط لتوفير بنية تحتية تُساعد المصنعين على تصدير ما ينتجون إلى مختلف الأسواق، وقد أصبح هذا الميناء، مؤخرا، الأكبر في إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. هو ميناء كبير بمثابة بوابة تربط إفريقيا بأوروبا ومنصة عالمية للتصدير، فهو يتصل ب186 ميناءً في 77 دولة، ولم يتوقف عن التطوير منذ الإعلان عنه في ذكرى عيد العرش سنة 2002، وكان هدف الملك آنذاك ألا يكون فقط مجرد بنية تحتية مينائية، بل مشروعاً متكامل ذا أبعاد متعددة اقتصادية وإقليمية. ويرتبط الميناء اليوم بالمناطق الصناعية الموجودة في طنجة والقنيطرة، ولها خطوط سكة خاصة لتسهيل عملية نقل كل ما ينتج في هذه المناطق، وبالتالي تسهيل مأمورية المستثمرين والاستفادة من نقل سريع يُشجع على الاستثمار أكثر. وعلى بُعد كيلومترات على الميناء، يمكن الانطلاق عبر قطار البُراق بسرعة البرق، وهو مشروع ضخم تطلب مليارات الدراهم من الدولة وعدد من الدول الصديقة، ليكون أول قطار فائق السرعة في القارة والعالم العربي بسرعة تصل إلى 320 كيلومترا في الساعة. يُسهل القطار فائق السرعة، الذي أطلق عليه الملك اسماً من التراث الإسلامي، التنقل بين قطبين اقتصاديين مهمين في المملكة: طنجةوالدارالبيضاء. وقد تجلى بعد الأشهر الأولى أن نجاحه باهر نظراً إلى الإقبال الغفير عليه من قبل المواطنين. الطاقات المتجددة أصبحت الطاقات المتجددة رهان أغلب دول العالم، فهي المستقبل للتقليل من آثار التغير المناخي على البيئة. وبما أن المغرب لا يتوفر على موارد نفطية، فقد بادر إلى الاستفادة من مؤهلاته من الشمس التي تصل إلى 300 يوم مشمس في السنة، وسرعة رياح تصل إلى 9 أمتار في الثانية الواحدة في المناطق الساحلية. وقد طبع المغرب اسمه في السنوات الأخيرة في هذا المجال بواحد من أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم في ورزازات، وأكبر محطة للطاقة الريحية في إفريقيا، في إطار السعي إلى توفير الكهرباء النظيفة لملايين المغاربة، وبالتالي تخفيف العبء الذي يُشكله استيراد الطاقة على ميزانية الدولة. طموح المغرب في هذا الصدد كبير، فالاستراتيجية المغربية في مجال الطاقات المتجددة تهدف إلى زيادة حصة الطاقة المتجددة إلى 42 في المائة بحلول عام 2020، و52 في المائة بحلول 2030، إضافة إلى هدف خفض استهلاك الطاقة بنسبة 12 في المائة بحلول 2020، و15 في المائة بحلول 2030، من خلال كفاءة استخدام الطاقة. رفع هذا التحدي العالي له مبرره، فالتبعية الطاقية انتقلت من حوالي 98 في المائة سنة 2008 إلى حوالي 93.3 في المائة سنة 2016، مع ارتفاع حصة الطاقة الريحية والشمسية في القدرة المنشأة. ويراهن المغرب على طاقاته الشمسية والريحية والمائية في غضون الأعوام المقبلة لتقليص التبعية أكثر. الشبكة الطرقية لم تكن الشبكة الطرقية خارجة عن المشاريع الكبرى التي عرفها المغرب خلال العقدين الماضيين، فشبكة الطرق السيارة تصل، اليوم، إلى 1800 كيلومتر، وهو ما جعل مختلف جهات البلاد مرتبطة ببعضها البعض، ناهيك عن إعادة تهيئة الطرق الوطنية بمختلف فئاتها. آخر المشاريع في هذا الصدد أعلن عنه الملك قبل سنوات قليلة، وهو الطريق السريع الذي سيربط أكادير بالداخلة، مروراً بتيزنيت والعيون، ليصل إلى المعبر الحدودي الجنوبي الكركرات مع الجارة موريتانيا، وهو ما شأنه أن يسهل الحركة التجارية في الاتجاهين معاً. الدبلوماسية الاقتصادية لم يحل غياب المغرب عن الاتحاد الإفريقي دون توطيد العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع بلدان القارة، فقد كان نهج المغرب هو "تعاون جنوب جنوب" طيلة العقدين الماضيين من حكم الملك محمد السادس، الذي جال مختلف أنحاء القارة السمراء طولاً وعرضاً. وكان لزيارات الملك إلى مختلف دول القارة وقع كبير على تطوير العلاقات مع بلدان عدة، فحضوره كان يعطي دفعة قوية لكل الاتفاقيات الموقعة في السنوات الماضية، والتي بلغت أزيد من 1500 اتفاقية تعاون مع أكثر من 30 بلداً إفريقياً. ولا يقتصر تواجد المغرب اقتصادياً في بلدان القارة على القطاع العام، بل حتى القطاع الخاص يساهم بقدر كبير في تنمية القارة وتطوير معاملات المجموعات المغربية المستثمرة والناقلة للمعرفة والخبرة، خصوصاً في دول غرب إفريقيا ليكون بذلك المغرب ثاني أكبر مستثمر في القارة. ويمتد التواجد المغربي في إفريقيا ليشمل قطاع الاتصالات، حيث تنشط شركة اتصالات المغرب في حوالي 10 بلدان، وقطاع الخدمات البنكية بتقديم 3 بنوك مغربية خدماتها في أزيد من 30 بلداً، وكذلك القطاع الصناعي والعقاري والأشغال العمومية. ويعتبر مشروع خط الأنابيب بين المغرب والنيجر أحد أكبر المشاريع المغربية في القارة، فهو يلامس بلدانا عدة، وسيكون له دور كبير في تعزيز التعاون مع أكثر من عشر دول سيمر منها الأنبوب لنقل الغاز إلى المغرب، ثم إلى أوروبا. ويعتبر هذا الخط أحد المشاريع الإستراتيجية التي أعلنت عنها المملكة في العقدين الماضين، فقد تم التوقيع عليه خلال زيارة قام بها الملك إلى نيجيريا في دجنبر 2016، والهدف منه هو المساهمة في التكامل الطاقي لإفريقيا، وتشرف عليه كل من شركة النفط الوطنية النيجيرية والمكتب الوطني للهيدروكاربورات بالمغرب. ويُرتَقب أن ينطلق هذا الخط من نيجيريا والبنين والتوغو وغانا والكوت ديفوار وليبيريا، مروراً بسيراليون وغينيا وغينيا بيساو وغامبيا والسينغال وموريتانيا، وصولاً إلى المغرب المحطة الأخيرة قبل مده إلى أوروبا، وسيكون له أثر كبير على اقتصادات كل هذه الدول. رهانات مستقبلية يقبل المغرب على سنوات حافلة بالتحديات الكبيرة التي ستواجه الاقتصاد الوطني، فأعداد خريجي الجامعات سترتفع مستقبلا، مما يعني أن نسبة البطالة في صفوفهم مرشحة للارتفاع كذلك، وفي حالة استمرار تسجيل البلاد نسب نمو الضعيفة فلن يكون ذلك مجدياً. وبعد بذل الدولة مجهودا استثماريا كبيرا خلال السنوات الماضية، صار المغرب مقبلاً على مرحلة تستوجب انخراط القطاع الخاص في دينامية الاستثمار لخلق فرص شغل أكبر، فالدولة وإن خصصت أقصى ما لديها لا يمكن أن تشغل العاطلين، لكن يمكنها توفير مناخ استثماري محفز وصحي يجعل المقاولات الوطنية تقوم بدورها في التنمية الاقتصادية. ومع ذلك، يبقى دور الدولة مطلوباً في الاستثمار، خصوصاً في المجالات ذات المردود العالي وذات الطابع الاجتماعي، ويبقى الرهان الأكبر هو تنمية العالم القروي تنمية حقيقية، فهناك يعيش 40 في المائة من سكان المغرب، وليس مفيداً أن يستمروا كلهم مرهونين بالفلاحة الخاضعة لرحمة السماء. وبالإضافة إلى ما سبق، لا تزال الفوارق الاجتماعية قائمة في مغرب 2019، كما لا تزال الخدمات العمومية ضعيفة، وعلى رأسها المدرسة العمومية، إذ يتطلب هذا القطاع إصلاحاً حقيقياً بنفس وطني واستحضار مصلحة الأجيال المستقبلية، فالتعليم الجيد المتاح للجميع هو عنوان تكافؤ الفرص. أما الصحة العمومية فلا تزال هي الأخرى تعاني الأمرين، فالقطاع يحتاج ثورة تهز الأركان، وتؤسس لعهد حقيقي يضع صحة المواطن في الدرجة الأولى عوض تسليم المرضى وجعلهم في مرمى نيران الجشع الذي تسلل من القطاع الخاص إلى القطاع العام.