الإنسان كائن اجتماعي ما يستلزم محيطا اجتماعيا والذي من خلاله يتأثر باتجاهات الآخرين ومشاعرهم وتصرفاتهم وسلوكاتهم، أي أنه يتعلم منهم عن طريق ملاحظة استجاباتهم وتقليدها وإمكانية التأثر بالثواب والعقاب بطريقة غير مباشرة . من هنا، تأتي نظرية التعلم الاجتماعي أو التعلم بالملاحظة، التي طرحها ألبرت باندورا، والتي تعزو التغير في السلوك والتعلم إلى الملاحظة والتقليد. وهي حلقة وصل بين النظريات السلوكية والنظريات المعرفية، ترتبط بالسلوك الإنساني والوظائف السيكولوجية. يعتقد باندورا أن المثيرات الخارجية تؤثر في السلوك من خلال تدخل العمليات المعرفية؛ فالأفراد حين يتصرفون ويقومون ببعض السلوكيات يفكرون فيما يعملون، واعتقاداتهم تؤثر في كيفية تأثر سلوكهم بالبيئة.. فالعمليات المعرفية تحدد أي المثيرات ندرك وقيمتها، وكيف ننظر لها، وكيف نتصرف بناء عليها. فما هي مرتكزات هذه النظرية؟ وما هي آليات التعلم الاجتماعي؟ مراحله ومصادره؟ وأخيرا ماذا ينتج؟ تسمح العمليات المعرفية بالدخول في نوع من التفكير الذي يتيح التخمين بمجموعة التصرفات المختلفة ونتائجها؛ لأن تصرفاتنا تمثل انعكاسا لما في البيئة من مثيرات، فللفرد القدرة على تغيير البيئة الحاضرة وبذلك ينظم ويرتب التعزيزات لنفسه لتؤثر في سلوكه. تؤكد النظرية على التفاعل الحتمي والمتبادل والمستمر بين الفرد والبيئة والسلوك، وعلى الأنماط الجديدة من السلوك التي يمكن أن تكتسب حتى في غياب التعزيز من خلال ملاحظة الآخرين؛ فنظرية التعلم الاجتماعي لا تتناول مجموعة من مبادئ التعلم المعروفة فحسب ولكنها تضيف إليها عدة مبادئ جديدة. وعلى الرغم من أنها تقبل وصايا السلوكيين المألوفة برفض العوامل اللاشعورية والأسباب الداخلية للسلوك المضطرب، فإنها تخفف من هذا الاتجاه بتأكيدها على دور الجوانب المعرفية والرمزية في اكتساب الأنماط السلوكية الجديدة وفي تنظيم توقيت ظهورها وتوافرها. ترتكز نظرية التعلم الاجتماعي على أن هناك العديد من العناصر خارجة عن قدرة الفرد تلعب دورا مهما في مجرى حياته كلها من خلال قراراته واختياراته التربوية والمهنية، وأن درجة حرية الفرد في اختياره المهني هي أقل بكثير مما يعتقد وأن توقعاته الذاتية ليست مستقلة عن توقعات المجتمع منه، هذا الأخير الذي يفترض بدوره أن يقدم فرصا مهنية معينة ترتبط بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأفراد، كما تمثل الأسرة عامل مهم يساعد على التنبؤ باختيار المهنة والتكيف معها. فصورة الفرد تعتمد إلى حد كبير على كيفية توظيف نسق التأثير والتأثر بين الفرد والعالم أو الكون الذي يعيش فيه، بحيث إن السلوك يحدث سواء نتيجة لموقف منفصل يؤثر على الفرد. وأن المثيرات تمضي من البيئة إلى الشخص الذي يوجد في إطارها، وحينئذ يستجيب الفرد. أو أن السلوك ينتج عن الاعتماد المتبادل بين البيئة والشخص، يؤثر أحدهما في الآخر بالدور، فالشخص يؤثر في البيئة، كما تؤثر البيئة في الشخص، ويستجيب كل منهما. كما تؤكد النظرية على التفاعل الحتمي المتبادل المستمر للسلوك، والمعرفة، والتأثيرات البيئية، وعلى أن السلوك الإنساني ومحدداته الشخصية والبيئية تشكل نظاما متشابكا من التأثيرات المتبادلة والمتفاعلة فإنه لا يمكن إعطاء أي منها مكانة متميزة. يؤكد باندورا أن الملاحظة هي المصدر الرئيسي للتعلم، وأن الكثير من السلوك الإنساني يتم اكتسابه عن طريق مراقبة ما يفعله الناس من سلوكيات، ثم استيعاب هذا السلوك، واختيار بعض جوانبه لتصبح جزءا من عادات ومميزات الفرد. كما تأخذ عمليات المعرفة شكل التمثيل الرمزي للأفكار والصور الذهنية وهي تتحكم في سلوك الفرد وتفاعله مع البيئة كما تكون محكومة بهما ولا يتأثر سلوك الملاحظ بالنماذج الحية فقط بل بالتمثيلات الصورية والرمزية عبر الصحافة والكتب والسينما ووسائل الإعلام. يرى باندورا أن التعلم بالملاحظة يتكون من ثلاث آليات: التفاعلية التبادلية؛ لا يفترض أن يتعرض الفرد إلى الخبرات المتعددة كي يتعلمها، ولكن يمكن له ملاحظة النماذج المختلفة وهى تمارس هذه الخبرات، الشيء الذي يشترط تواجد علاقة ثلاثية بين السلوك والمتغيرات البيئية والعوامل الشخصية؛ كما أن الكفاية الذاتية حسب باندورا تؤثر في دافعية الفرد للسلوك أو عدم السلوك في موقف ما، كما تؤثر في طبيعة ونوعية الأهداف التي يضعها الأفراد لأنفسهم وفي مستوى المثابرة والأداء. العمليات المعرفية؛ إن عمليات التعلم من خلال الملاحظة تتم على نحو انتقائي وتتأثر بالعديد من العمليات المعرفية لدى الفرد الملاحظ مثل الاستدلال والتوقع والإدراك. فيقوم الفرد بتسجيل استجابات النموذج وتخزينها على نحو رمزي ثم يقوم باستخدامها كقرائن عندما يريد أداء هذه الاستجابات على نحو ظاهري. عمليات التنظيم الذاتي؛ قدرة الفرد على تنظيم الأنماط السلوكية في ضوء النتائج المتوقعة منها. يرى باندورا أن الناس الذين يتصرفون بطرق شاذة هم في الغالب يملكون حسا ضعيفا من الفاعلية الذاتية، فهم لا يؤمنون بأنهم يستطيعون بنجاح أداء السلوكيات التي تتيح لهم التكيف مع الحياة اليومية. توقعاتهم المتدينة تقودهم إلى تجنب تلك المواقف التي تسبب تهديدا لهم وتشعرهم بعدم قدرتهم على القيام بأداء أدوار جيدة، لذلك نراهم ونتيجة لما سبق لا ينخرطون في نشاطات يمكن أن تظهر قدراتهم وتعمل على تغيير حسهم أو شعورهم بالفاعلية الذاتية. ولتعرض لهذه المواقف يتم بصورة تدريجية حتى يستطيع هؤلاء تحسين فاعليتهم الذاتية وبالتالي زيادة المدة أو الوقت الذي يقضونه في تلك المواقف المخيفة. تتم عملية التعلم بالملاحظة أولا عن طريق الانتباه بحيث لا نستطيع تقليد النماذج دون أن ننتبه إليها وذلك من خلال لحركات والمهارات والأصوات، ثم تذكر السلوك الملاحظ وتخزينه في الذاكرة فالتعلم بواسطة الملاحظة والتقليد لا تظهر نتيجته بشكل فوري ومباشر بعد مشاهدة السلوك المطلوب تعلمه أو ملاحظته، وإنما يتم الاحتفاظ به واللجوء إليه عندما تقتضيه الحاجة، ثم إعادة إنتاج وتكرار السلوكات الصادرة عن النموذج وإنتاج الفعل السلوكي لا يعني بالضرورة أن يكون هذا الفعل صورة طبق الأصل للسلوك الملاحظ، فقد يعمل الفرد على إنتاج السلوك بشكل يتلاءم مع توقعاته، ثم زيادة احتمالات تقليد السلوك الذي يتبعه تعزيز أو انخفاض احتمالات تقليد السلوك الذي يتبعه عقاب فيعتمد التعلم بالملاحظة على وجود دافع لدى الفرد لتعلم نمط سلوكي معين، وترجمة هذا التعلم في أداء ظاهر. وينتج عن التعلم بواسطة نظرية التعلم الاجتماعي أن الملاحظ يستطيع أن يتعلم سلوكيات جديدة من النموذج فعندما يقوم النموذج بأداء استجابة جديدة ليست في حصيلة الملاحظة السلوكية يحاول الملاحظ تقليدها، أو تجنب أداء السلوك من الفرد عندما يواجه النموذج عقاباً جراء انهماكه في هذا السلوك، كمشاهدة حادثة سير نتيجة السرعة فيقلل السائق من سرعته، كما قد تؤدي عملية ملاحظة سلوك النموذج إلى تسهيل ظهور الاستجابات التي تقع في حصيلة الملاحظة السلوكية التي تعلمها على نحو مسبق غير أنه لا يستخدمها. يزداد الحرص على الانتباه إلى النموذج ومتابعته والاقتداء به كلما برزت المكانة الاجتماعية للنموذج أو درجة نجوميته وقوة تأثيره ودرجة حياده أو موضوعيته في العرض بل وحتى جنس النموذج فقد اتفقت معظم الدراسات في ميل الفرد للاقتداء بالنموذج الملاحظ كلما زادت مساحة الخصائص المشتركة بينهما ولا يقتصر التعلم على الواقع بل يتجاوزه إلى العالم الافتراضي فمتابعة شخص ذو توجه فكري معين في مواقع التواصل الاجتماعي يؤدي إلى تعلم الفرد أنماط تفكير لم تكن موجودة لديه وبالتالي تطبيقها. كما تؤدي إلى تعلم الأفراد أنماطا سلوكية عالمية، كونها تضم العديد من المتابعين من مختلف دول العالم وهذا بدوره ساهم في اكتساب المتابعين للكثير من السلوكيات والمعارف التي لم تكن شائعة في بيئاتهم المحلية سواء كانت محمودة أو مذمومة وسواء كانت قريبة للعادات والتقاليد المحلية أو دخيلة تسمم وتنخر جسم المجتمع. وبالتالي، فإن العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية تلعب الدور الأهم والأكبر في اختيارات الفرد وتؤثر سلبيا كما إيجابيا على حياته، ليبقى التساؤل مطروحا إذا كان الإنسان يتميز بالعقل فما دور ذكائه وقدراته وخبراته وبنائه المعرفي في استقبال أنماط السلوك الملاحظ؟ *طالب باحث في ماستر التواصل السياسي.