فكيف تريد لهذا العمل الفدائي البطولي الذي دنس بالخيانة والغدر أن يبارك الله فيه، ولا أريد أن أتوسع في الحديث أكثر من هذا ولكن هذا هو الواقع وكفى. في أواخر شهر يناير 1954 اتصل بي محمد الزرقطوني وأخبرني أنه تقرر طبع المنشور الثاني وأن سليمان العرائشي سيتكلف بتصفيف الحروف في منزلي، رحبت بالفكرة، وكان محمد الزرقطوني قد سلمني حقيبة تحتوي على كمية كبيرة من الحروف العربية والفرنسية أخفيتها في منزلي حيث كان يقاسمني فيه كسكن محمد إيفقيرن الذي كان مكلفا بتخزين السلاح وتجربته، بعد اكتشاف عرصة لارميطاج وتورطه، بعدما جاء به محمد الزرقطوني ليسكن معي وليزاول نشاطه المعهود. محمد إيفقيرن حضر سليمان العرائشي وهو يحمل حقيبة للسفر مملوءة "بالمشاطي" التي تركب فيها الحروف، ومكث مدة أسبوع في منزلي لتصفيف حروف المنشور، وعند الانتهاء من عملية تصفيفه حضر حسن النكريمي على متن سيارته وأخذا الحقيبة أثناء غيابي، وتوجها معا رفقة حسن الصغير المسفيوي الذي كانت مهمته تنحصر فقط في حماية ومساعدة سليمان العرائشي، إلى مطبعة الأطلس في ليلة 4 فبراير 1954، وعندما شرع سليمان العرائشي في استخدام آلة الطباعة أوشى بهم إلى الشرطة أحد الفرنسيين الذي كان يسكن فوق المطبعة، ويشتغل في الشرطة في فرقة التدخل السريع "س م ي"، فحضرت قوات الشرطة وطوقت المكان وتم إلقاء القبض على كل الموجودين داخل المطبعة: سليمان العرايشي وحسن الصغير المسفيوي، ثم من بعد ذلك على حسن النكريمي، الذي أرسله محمد الزرقطوني لإحضار المناشير التي طبعت، وتم إلقاء القبض عليه عند وقوف سيارة الأجرة أمام باب المطبعة، ونزوله منها وطرقه لبابها، كما تم إلقاء القبض في الغد على أخ الطاهر غلاب، محمد غلاب. لكن حسن الصغير المسفيوي سارع عند اقتحام البوليس الفرنسي المطبعة وقبل إلقاء القبض عليه إلى ابتلاع قرص مسموم فاستشهد في مخفر الشرطة، وهو أول فدائي يستشهد بالسم، وخلد اسمه بشارع معروف في مدينة الدارالبيضاء. حسن الصغير المسفيوي ونجا من الاعتقال محمد كوفية السرغني في هذه المداهمة البوليسية، لأن محمد الزرقطوني أرسله إلى المطبعة لاستطلاع سبب تأخر حسن النكريمي وعدم رجوعه بالمناشير، وعند اقترابه منها لاحظ وجود سيارات الشرطة أمامها ومحاصرتهم لها، وعندما تأكد أن البوليس اكتشف عملية الطبع انسحب من الزنقة وأخبر محمد الزرقطوني باكتشاف أمر المنشور وسارع بالسفر إلى المنطقة الشمالية لكونه يحمل جواز المرور إليها بحكم أنه من أبناء تلك المنطقة، قبل أن تبحث عنه السلطات الاستعمارية باعتباره المسؤول الأول عن تسيير شؤون المطبعة بأمر من الطاهر غلاب المعتقل آنذاك في سجن "أغبيلة" بمدينة الدارالبيضاء، والغريب أن كل الذين تحدثوا أو كتبوا عن أزمة مطبعة الأطلس تجاهلوا دوره. محمد كوفية السرغني إن محمد كوفية السرغني كان هو المشرف الأول على تسيير المطبعة، وهو الذي أحضر المفاتيح وسلمها إلى سليمان العرائشي وهيأ له كل ما يتعلق بطباعة المنشور من ورق وحبر، ونبهه ألا يستخدم ماكينة الطباعة إلا بعد أن تتجاوز عقارب الساعة العاشرة ليلا، في هذا الوقت يكون الشرطي الذي يسكن فوق المطبعة قد التحق بعمله في مخفر الشرطة بالمعاريف، لكن سليمان العرائشي لم يحترم هذه التوصية. للحقيقة والتاريخ، فقد حجزت الشرطة الفرنسية كل الكمية التي طبعت من هذا المنشور، ولم تتسرب منه أي نسخة، عكس ما ذهب إليه البعض من مزوري تاريخ المقاومة، وقد نبه إلى هذه الحقيقة الأستاذ محمد الجندي محرر نص المنشورين السابقين، في تعليق كان قد وجهه إلى جريدة "العلم" عند نشرها المقال عن "قصة المناشير" بتاريخ 27 يونيو سنة 1975، كما نشرته مجلة "المقاومة وجيش التحرير" في العدد التاسع لشهر شتنبر 1984. الأستاذ محمد الجندي إن الهدف الحقيقي من وراء طباعة هذا المنشور كان هو تنوير الرأي العام وتنبيه الشعب المغربي والتعريف بأنشطة المقاومة، ولكن هذا العمل النبيل تخللته تصرفات صبيانية مشبوهة غير مسؤولة ساهمت في فشله، فعندما يخون الأخ أخاه في الكفاح الذي ائتمنه عليه ويطعنه فيه (...)، فكيف تريد لهذا العمل الفدائي البطولي الذي دنس بالخيانة والغدر أن يبارك الله فيه، ولا أريد أن أتوسع في الحديث أكثر من هذا ولكن هذا هو الواقع وكفى. فكل الإخوان الذين تحدثوا عن هذه القضية، أهملوا جوانب مهمة لم يتطرقوا لها. مثلا، أين تم تركيب حروف المنشور؟ وفي منزل من؟ وفي عملية مطبعة الأطلس تورط أبريك بنحمو الذي كان يسكن مع الدحوس الكبير، فجاء به حسن "الأعرج" إلى منزلي فمكث به إلى أن سافر إلى المنطقة الشمالية، أما الدحوس الكبير فقد تمكن من الفرار بفضل جرأته وشجاعته، فعندما طرقوا عليه باب غرفته وتأكد أنهم من عناصر الشرطة، خرج إليهم شاهرا مسدسين وفاجأهم بطلقات نارية أصابت قائدهم "بوايي" فاضطروا للاختباء وإفساح الطريق أمامه فخرج من المنزل، واستطاع الداحوس انقاذ سليمان العرائشي الذي تركه البوليس في سيارة الشرطة مكبل اليدين بعد أن دلهم عليه، وذهب به إلى منزل "بن إبراهيم الباعمراني" فلم يجده فتوجه به إلى منزل غاندي الكبير الجزار بزنقة الموناستير، فمكث في قيوده إلى أن حضر محمد الزرقطوني وبعض الإخوان وكسروها وهربوه إلى المنطقة الشمالية. بعد فشل طبع منشور"مطبعة الأطلس" بأيام، والتحاق كل الفدائيين بالمنطقة الشمالية أو بسيدي إفني بالجنوب، لم يبق في منزلي إلا حسن الأعرج ومحمد بولحية، جاء عندي محمد الزرقطوني وفاجأني بالتفاتة إنسانية، وقال لي: "نحن في الحقيقة أتعبناك معنا كثيرا، وتحملت فوق طاقتك وتكلفت بإخفاء الفدائيين، وأرهقت نفسك بمشاكلهم وشؤون منازلهم وقضاء حوائجهم والاتصال بأصدقائهم لتنبيههم، لهذا قررت أن نترك دارك ليعمها الهدوء ويرتاح أولادك، وسأرشدك في الغد إلى مكان آخر نلتقي فيه قبل أن يصبح منزلك مشبوها". وفي صبيحة الغد، أخذني صحبة حسن الأعرج الذي كان مختبئا في منزلي إلى معمل "لافاسك" في زنقة "الموناستير" عند إبراهيم الروداني، وقال لي: "هذا هو مكانك". وفعلا حدث ما توقعه الشهيد محمد الزرقطوني، فبعد هروب محمد الرحموني بعرباوة بقيت محفظة أوراقه الشخصية عند المراقب المدني الفرنسي، فعثروا بداخلها على العنوان القديم الذي كنا نقطن فيه بزنقة تادلة بمدينة الدارالبيضاء، فبعث بالمحفظة إلى البوليس للبحث عنه، فداهموا المنزل في الصباح الباكر وفتشوه رأسا على عقب، وبعد انتهائهم سألوا صاحبته عن محمد الرحموني، فأخبرتهم بأنه انتقل رفقة صديقه منذ مدة إلى منزل آخر، فسألوها هل تعرفين العنوان، فأجابتهم بأنها لا تعرفه، ولكنهم عثروا داخل المحفظة على عقد شراء دراجة نارية يحمل عنوان الدار التي اكتراها لنا محمد الزرقطوني بدرب بوشنتوف، وفي الزوال توجهوا إلى العنوان الجديد وطرقوا باب الشقة فلم يجبهم أحد لأنه من حسن الصدف أن زوجتي وزوجة محمد بولحية كانتا بالخارج في الحديقة، فسألوا صاحب المنزل عن محمد الرحموني فقال لهم إنه انتقل ويسكن حاليا بالدار الحسين وعبد الله، فطلبوا منه أن نحضر معه في الصباح إلى "الكوميسارية" وتركوا له ورقة استدعاء تحمل أسماءنا جميعا. وعند رجوعي في المساء أخبرتني زوجتي بما حدث، فطلبت منها ومن محمد بولحية وزوجته جمع الملابس الضرورية فقط وترك أثاث الشقة كما هو، ويكونوا على أهبة الاستعداد لمغادرة الشقة عندما أطلب منهم ذلك، ريثما أنزل عند صاحب المنزل في الفرن لأسأله عما حدث وكذلك لأوهمه بأننا على استعداد لمرافقته في الصباح، وفعلا نزلت عنده واستفسرته وطمأنته بأننا سنكون جاهزين حوالي الساعة السابعة صباحا للذهاب معه "للكوميسارية"، ومكثت معه في الفرن لمؤانسته إلى أن أقفله. وبعد أن تأكدت أنه ذهب إلى منزله، صعدت إلى الشقة وطلبت منهم مغادرتها فورا، فتوجه محمد بولحية وزوجته إلى منزل بسبتة وتوجهت رفقة زوجتي إلى منزل أصهاري، وبعد مرور ما يقرب من شهر استأجرت منزلا آخر بدرب الشرفاء سكنت فيه رفقة محمد بولحية وزوجته وولده. وبدأت أشتغل في معمل إبراهيم الروداني لصنع مادة جافيل وبعض المواد الكيماوية الأخرى الخاصة بالتنظيف، وكان محمد الزرقطوني يزور إبراهيم الروداني أكثر من مرتين في اليوم، أو كلما دعت الضرورة إلى ذلك، بينما كنت صحبة المدني "الأعور"، الذي كان يشتغل في المعمل نفسه، متواجدين دائما من أجل القيام بالاتصالات وغيرها. وكنت في بعض الأحيان أسوق شاحنة صغيرة قديمة، أحمل عليها صناديق "جافيل" وزجاجات "الكريزين" و"الغاز" و"الصودا" وأتجول بها في شوارع مدينة الدارالبيضاء، كما كنا نستخدم هذه الشاحنة في بعض العمليات الفدائية، مثل نقل الفدائيين والاتصال بهم ونقل الأسلحة ومراقبة تحركات الخونة. وكان يساعدني أحيانا ابن تاشفين الميلودي، وهو فدائي قدم إلى مدينة الدارالبيضاء منفيا من ناحية خنيفرة. توطدت علاقتي مع العديد من أعضاء خلايا المقاومة، كما كانت لي مهام أخرى، منها التنسيق بين الجماعات وتزويدها بالأسلحة والمناشير، والبحث والاستقصاء عن الجماعات والخلايا والأفراد الذين يقومون بتنفيذ بعض العمليات الفردية، لربط الاتصال بهم والتنسيق معهم وضمهم للمنظمة السرية. *صحافي، باحث في تاريخ المقاومة المغربية، شاعر وزجال [email protected]