ذات يوم سمعت زوجتي صاحبة البيت المشهورة ب"مولات الحليب" تتحدث مع "المقدم"، فأخبرته بأن حسن بلمودن لا يعرف عمله، فالناس تدخل وتخرج من شقته ليلا ونهارا، متسائلة: "هل هو فقيه وأنت لا تدري؟". اسم "حسن السائق" سافر محمد الزرقطوني إلى مدينة القنيطرة واتصل بالحسين الخطابي، وطلب منه أن يأخذ سيارته ويذهب لمساعدة "حسن السائق". وبالمناسبة أريد أن أشير هنا إلى أن هذه الجملة الأخيرة التي نطق بها محمد الزرقطوني هي السر في شهرتي باسم "حسن السائق"؛ فقد كنت أول من قاد أول سيارة خاصة بالمقاومة، وهي من نوع "سيتروين تركسيونأفون"، ذات الدفع الأمامي، اشتراها رجال المقاومة من عند مولاي العربي الماسي ب300.000 فرنك، وسلموها لي للعناية بها وقيادتها في تنقلاتهم وأثناء قيامهم بالعمليات الفدائية، وبقيت عندي حتى تسلمها مني سعيد بونعيلات. ولكن الحسين الخطابي بدوره تعطلت سيارته في نصف الطريق، فاضطر لتركها والعودة إلى مدينة القنيطرة للبحث عن ميكانيكي اسمه الصحراوي، يملك سيارة "شيفرولي"، ولم يصلا عندي إلا بعد مرور صلاة العصر. وبعد أن تأكد الميكانيكي أن سيارتي يصعب إصلاحها، قرر جرها بسيارته ودخلنا مدينة القنيطرة بعد أذان المغرب. وصلت إلى مدينة القنيطرة مريضا منهكا؛ فأعطاني الحسين الخطابي ملابس نظيفة وطلب مني أن أخلد للراحة لبعض الوقت عنده، ورغم إحساسي بالمرض، قررت السفر في تلك الليلة إلى مدينة الدارالبيضاء التي وصلتها فجرا. وفي الصباح قصدت منزل محمد الزرقطوني، الذي بمجرد ما رآني تأثر كثيرا ونصحني بالذهاب إلى الطبيب فورا، وقد لزمت الفراش ما يقرب من شهر. هذه الأحداث المؤلمة التي أرويها لكم وقعت ما بين 17 و18 و19 نوفمبر سنة 1953. وانتهت حكاية سعيد ولد الحاج عبد الله والمحجوب التفنوتي بسلام، فعندما رجع سليمان العرائشي من المنطقة الشمالية بعد المهمة التي كلفه بها محمد الزرقطوني؛ بشرنا بأن سعيد ولد الحاج عبد الله التقى بأحد الأشخاص فسلمه خاتمه الذهبي ليرافقه كدليل إلى المنطقة الشمالية. أما المحجوب التفنوتي فتمكن بعد فراره من الغابة من الوصول إلى مدينة العرائش بفضل إرادته وعزيمته وإصراره. ومن الطرائف التي أخبرنا بها سليمان العرائشي أنه عندما كنا في "سوق أربعاء الغرب" نجلس في المقهى، كان سعيد ولد الحاج عبد الله الذي نبحث عنه يجلس في المقهى نفسها، ولا يفصل بينه وبيننا سوى جدار. كانت هذه التجربة ناجحة واستطعنا بواسطتها أن نجعل من هذه الطريق وسيلة لترحيل العديد من الفدائيين إلى المنطقة الشمالية، منهم: عبد الله الصنهاجي سعيد بونعيلات مولاي الطيب الأمراني محمد الرحموني حسن السكوري وغيرهم. وأريد هنا أن أشيد بالدور البطولي الذي قام به النكريمي حسن، فهو الذي كان يضحي بماله وسيارته ووقته، ويواجه المخاطر ويتكلف بالذهاب بهم في سيارته، وكذلك بالدور الهام الذي قام به علي الملاحي، قريب محمد الرحموني، على الرغم من أن مؤرخي المقاومة لا يذكرونه. صورة أخذتها للذكرى بعد شفائي من المرض بعد شفائي من المرض زارني محمد الزرقطوني في منزلي وطلب مني أن أواصل نشاطي عبر الاتصال مع قادة الخلايا؛ فيما سيتكلف محمد الرحموني بعملية طبع المناشير، ثم سألني عن حرفة أحد أعضاء خليتنا عرشي بوعزة فأجبته: "إنه يمارس حرفة الحدادة"، فقال لي: "أعرف أنه حداد ولكنه هل هو "سدور" (لحام) ماهر؟"، فقلت له: "إنه فنان"، فقال: "قل له أن يكون على استعداد بعد أسبوع، ليساعدنا في تنفيذ عملية جريئة ستدوخ الاستعمار الفرنسي"؛ فلما استفسرته عنها قال: "إنها عملية تفجير أنبوب البترول الممتد ما بين بن کرير والنواصر. وستكون مهمته تفكيك جانب من هذا الأنبوب، ووضع قنبلة تحت القنطرة الموجودة قرب مدينة سطات. لكن بعد أن سافر: محمد الزرقطوني محمد منصور عرشي بوعزة مولاي العربي الشتوکي لمعاينة مكان العملية، لاحظوا استحالة نجاحها، بسبب وجود حاجز أمني دائم للدرك مضروب على المنطقة، فقرر محمد الزرقطوني تأجيل العملية. في هذه الفترة كنت أسكن أنا ومحمد الرحموني في درب بوشنتوف في زنقة "تادلة"؛ وذات يوم سمعت زوجتي صاحبة البيت المشهورة ب"مولات الحليب" تتحدث مع "المقدم"، فأخبرته بأن حسن بلمودن لا يعرف عمله، فالناس تدخل وتخرج من شقته ليلا ونهارا، متسائلة: "هل هو فقيه وأنت لا تدري؟". عندما سمعت هذا الكلام قصدت محمد الزرقطوني وأخبرته بما حدث، فقال لي: "يجب تصفية هذه الفضولية"، لكنني اعترضت، ووضحت له أن هذه المرأة إنما عبرت عن شكوكها فقط، فإذا ما قمنا بتصفيتها فسيكون هذا دليلا على صدق كلامها. فقال لي محمد الزرقطوني: "إذن يجب أن ترحلوا بسرعة من تلك الدار"، فقلت له: "إن محمد الرحموني أخبرني بأن والدته ستأتي من العرائش وتريد أن يذهب معها، وخصوصا بعد أن حكت لها زوجته أن ابنها أصبح من الفدائيين، وتخاف أن يلقى عليه القبض، وهو ضعيف أمامها ولن يستطيع مخالفة أمرها. لهذا ألتمس منك إن وجدت لنا منزلا آخر فاجعل العقد في اسمه زيادة في الاحتياط". وفعلا، تمكن الزرقطوني من أن يجد لنا مسكنا جديدا في دار الحاج عبد القادر "مول الفران"، صاحب مخبز في درب بوشنتوف، وراء سينما الكواكب بزنقة 40، وفي نفس الدار التي كانت في طابقها الثاني مدرسة العروبة، وكتب العقد في اسم محمد الرحموني، وبسومة كرائية قدرها 10.000 فرنك. وبعد أن اتخذنا جميع الاحتياطات لكي لا تفطن برحيلنا تلك الفضولية فتتعقب خطانا، انتقلنا عند غيابها عن المنزل لدى ذهابها لبيع الحليب إلى المسكن الجديد. "الأزمة الأولى للمنظمة السرية" ستبقى عملية قنبلة السوق المركزي أو "المارشي سنطرال" من الإنجازات الهامة التي تعتز بها المقاومة المغربية في تاريخها، على الرغم مما ترتب عنها من تعذيب وسجن وغربة عن الأهل والأحباب لثلة من المؤسسين للمنظمة السرية. قنبلة البريد المركزي والطرود البريدية بعد هذه العملية الناجحة وقنبلة مركز البريد وقطار المغرب العربي ذهل المستعمر، وجن جنون البوليس الفرنسي، فضاعف من حملاته المسعورة في البحث عن الفدائيين، فسقطت إحدى الجماعات بمدينة الرباط، واعتقل جل أفرادها، واكتشفوا ضيعة "وادي إيكم التي اكتراها محمد الزرقطوني، وعبد الله الصنهاجي من صالح أوبراهيم، في اسم محمد بوزاليم الذي كان يشرف عليها. وكانت المنظمة السرية تتخذها ملجأ للمقاومين المبحوث عنهم من طرف الشرطة الفرنسية، ومحطة للتوجه إلى المنطقة الشمالية، أو إلى مدينة سيدي إفني بالجنوب. بعد اكتشاف هذه الضيعة تم اعتقال كل من: محمد المذكوري بوشعيب غندور عبد القادر عسو صالح أوبراهيم محمد بوزليم الذي كان يشرف على الضيعة، فقدموا بهم إلى مدينة الدارالبيضاء. وفي الصباح تم القبض على بلعيد البركوكي في مركز المنجرة، ومحمد منصور ومولاي العربي الماسي وعبد الله الزناكي؛ فقرر محمد الزرقطوني التحرك بسرعة حتى لا يسقط بقية الإخوان، فذهب رفقة: عبد الله الصنهاجي سعيد بونعيلات محمد بنحمو الشباني محمد إيفقيرن حسن النكريمي وبعض الإخوان الآخرين إلى عرصة "لارميطاج"، وتمكنوا من حمل كل ما فيها من أسلحة ومتفجرات ووثائق في حيز زمني قصير إلى مركز عين الذئاب؛ وبعض الأماكن الأخرى، وفعلا توصل البوليس الفرنسي إلى معرفة مكان العرصة ولكنهم لم يجدوا أي شيء. تورط في هذه القضية كل من: عبد الله الصنهاجي مولاي الطيب لامراني سعيد بونعيلات حسن السكوري محمد بن موسى محمد الرحموني المطرب عبد النبي أحمد شنطر حسن الأعرج ابن عم محمد بوزاليم، ما خلق أزمة حقيقية وخانقة لأول مرة للمنظمة السرية. بعد افتضاح مركز المنجرة وضيعة "لارميطاج"، وضيعة "وادي إيكم"، قرر محمد الزرقطوني أن يختبئ بعض الفدائيين الذين أفلتوا من البوليس الفرنسي في الدار التي أسكن فيها في درب بوشنتوف، ريثما يتم ترحيلهم إلى المنطقة الشمالية: هم: محمد بن موسى الذي وضع قنبلة السوق المركزي حسن السكوري مولاي الطيب لامراني حسن الأعرج جاء بهم محمد الزرقطوني، أما سعيد بونعيلات فجاء رفقة محمد الرحموني، الذي كان يسكن معي، فكنت أهتم بطلباتهم وأزود عائلاتهم بأخبارهم لتطمئن عليهم. كما كان يسكن بالقرب مني المطرب عبد النبي، الذي طلبنا منه أن يبادر بالسفر فورا رفقة عائلته إلى المنطقة الشمالية قبل افتضاح أمره، فسافر بواسطة الحافلة لأن جميع سائقي الحافلات كانوا يعرفونه، وأخذ معه عائلة محمد الرحموني. بعد مرور يوم واحد أخذ حسن النکريمي، الملقب ب"حسن الصغير" في سيارته كلا من: محمد الرحموني عبد الله الصنهاجي سعيد بونعيلات وسافر بهم إلى "مولاي بوسلهام"، عند علي الملاحي الذي تكفل بهم للمرور إلى المنطقة الشمالية، وعلى الرغم من أن "المخازنية" اعترضوا سبيلهم، فقد تمكنوا من الإفلات منهم، وألقي القبض على محمد الرحموني وعلي الملاحي. بعد مرور أسبوع آخر واصل حسن النكريمي رحلاته من الطريق نفسها حتى التحق جميع المقاومين المبحوث عنهم بالمنطقة الشمالية، دون الاعتماد على علي الملاحي الذي اعتقل وظل في السجن عند الفرنسيين، حتى أفرج عنه بعد الاستقلال، وبعد إلقاء القبض عليه تأكد أنه كان يساعد على تهريب الفدائيين، ولم يكن يتقاضى أجرا على هذا عكس ما ذهب إليه البعض. أما محمد الرحموني فمنذ ذهابه لم يعد يتصل بنا، ولم يرسل ولو رسالة أو قطعة واحدة من السلاح، كما لم يشارك في جيش التحرير الذي أنشئ بالمنطقة الشمالية. *صحافي، باحث في تاريخ المقاومة المغربية، شاعر وزجال [email protected]