لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. كيف سقطت القيادة المركزية الأولى للمقاومة المسلحة، في يد الشرطة والمخابرات العسكرية الفرنسية الإستعمارية، بعد العمليات النوعية الكبرى ليوم 24 دجنبر 1953، وقبلها عملية القطار الرابط بين الدارالبيضاء والجزائر العاصمة يوم 7 نونبر 1953، مع أول سنة 1954؟. هل لأن حنكة الشرطة الإستعمارية تلك، هي التي مكنتها من سرعة تفكيك تلك القيادة المركزية الأولى، أم إن الصدفة وحدها من كانت وراء ذلك الصيد الثمين؟. هنا، شهادة الوطني الكبير محمد بنسعيد آيت يدر، حاسمة. ليس فقط، بسبب دقة معلوماتها، واتساقها مع تواريخ الأحداث والوقائع كما جرت، بل لأنها تمتاز ببلورة معنى لتطور تلك الأحداث، أي أنها تحللها بمنطق تاريخي واجتماعي. لقد نبهني سي بنسعيد، إلى معطى سوسيولوجي مهم، هو أن النواة الصلبة الأولى لقيادة المقاومة المسلحة بالدارالبيضاء، بدرب السلطان، التابعة للشهيد محمد الزرقطوني، تكونت أساسا من مواطنين مغاربة سوسيون، يشتغلون كلهم في مجال التجارة. مما جعل منهم، مصدر تمويل حاسم، وأيضا أداة تواصلية جماهيرية وازنة، وأن بعضهم كانوا مهاجرين قبل بفرنسا (مولاي العربي الشابي، عبد العزيز الماسي، دابلعيد ومحمد أزناك، هؤلاء كلهم كانوا مهاجرين عادوا إلى المغرب ضمن صفوف الحركة الإستقلالية). وأن قوة مولاي العربي الشابي، كانت كامنة في أنه حول محلاته التجارية إلى مركز اجتماعات حاسمة، وأيضا أنه وضع سيارته التي اشتراها من ماله الخاص بفرنسا "الستروين تراكسيون" تحت تصرف المقاومة، بدليل قيامه إلى جانب الزرقطوني ومجموعة من المقاومين، ب 3 محاولات لاغتيال سلطان الإقامة العامة الفرنسية، محمد بن عرفة، قبل تعيينه رسميا ونفي محمد الخامس يوم 20 غشت 1953، لم يكتب لها النجاح (الأولى بمراكش يوم 8 غشت، الثانية بمولاي إدريس زرهون، أسبوعا بعد ذلك، والثالثة بالرباط). بخصوص قصة سقوط تلك القيادة الأولى للمقاومة المسلحة بالدارالبيضاء، بيد الشرطة الفرنسية 10 أيام فقط بعد العمليات النوعية الكبرى ليوم 24 دجنبر 1953، فإن مما يؤكد عليه بنسعيد آيت يدر، تأسيسا على شهادة مستقاة من طرفه، من واحد من شهود تلك المرحلة، هو المقاوم والوطني محمد بن أحمد بوزاليم أطال الله عمره، أن مقاوما من مجموعة الرباط (لم يستطع سي بنسعيد تذكر اسمه) قد كلف بنقل المقاوم عبد العزيز الماسي، المبحوث عنه، في سيارته إلى الضيعة التي اشترتها المقاومة بقيادة الزرقطوني، من وطني مغربي آخر من الرباط إسمه صالح بنبراهيم، توجد بمنطقة "واد يكم" بضواحي العاصمة. وهي الضيعة المخصصة لتخزين الأسلحة وأيضا إخفاء عدد من المبحوث عنهم من قبل السلطات الإستعمارية، في أفق نقلهم إلى المنطقة الخليفية بالشمال، الواقعة تحت الإحتلال الإسباني (وهي الضيعة التي سجلت باسم المقاوم عبد الله الصنهاجي وكلف بإدارتها المقاوم الزناكي، وكان اختيارها متعمدا لأنها تقع وسط ضيعات فلاحية للمعمرين الفرنسيين، لا شكوك حولها). لكن، أثناء نقل عبد العزيز الماسي، وقع عطب في السيارة، جعل سائقها يقرر أخدها إلى ميكانيكي بالرباط قبل التوجه إلى ضيعة "واد يكم"، فلمح بالصدفة أحد المخبرين عبد العزيز الماسي جالسا داخل السيارة، وهو يعرف أنه مبحوث عنه، فقام بالتبليغ عنه. استدعت شرطة الرباط، في اليوم الموالي، الوطني صاحب السيارة وسألته عن برنامجه البارحة. فأخبرهم أنه كان بالدارالبيضاء. حين حاصروه بالأسئلة حول من كان معه في سيارته، اهتزت ثقته في نفسه، وبعد تعذيب اعترف أنه كان يحمل معه فعلا عبد العزيز الماسي. واعترف لهم أن صلة الوصل بينهما هو المقاوم والوطني صالح بنبراهيم، الذي سيتم اعتقاله على الفور. علما أن الماسي كان فعلا عنده في بيته قبل اعتقاله، وأنه توجه صوب بيت وطني آخر، إسمه الخنبوبي بالرباط، الذي مكنه من الهرب ضمن شبكة المقاومة إلى تطوان. المهم، سيعترف صالح بمكان ضيعة "واد يكم" التي حوصرت من قبل الشرطة الفرنسية، ليتم اعتقال 9 مقاومين خلال 48 ساعة (ضمنهم محمد منصور ومولاي العربي الشتوكي، محمد بوزاليم، صالح بنبراهيم، دابلعيد)، فيما تمكن عدد آخر من الفرار صوب المنطقة الخليفية بالشمال يبلغ عددهم 5 مقاومين (ضمنهم سعيد بونعيلات، محمد بنموسى، عبد الله الصنهاجي، عبد العزيز الماسي)، والوحيد الذي لم يعتقل ورفض التوجه إلى الشمال، رغم أن اسمه كان واردا في كل الإعترافات والتحقيقات، هو الشهيد محمد الزرقطوني، الذي كان مقررا أن ينتقل إلى تطوان، من أجل الإشراف على تطوير حركة المقاومة ببعد مغاربي بالتنسيق مع الإخوة الجزائريين أساسا. مع تسجيل معطى تاريخي مهم، هو أنه بعد سقوط واكتشاف شبكة قيادة المقاومة الأولى هذه، سيتم تطعيم تلك القيادة، بإشراف من الزرقطوني بعناصر جديدة، هم محمد الفقيه البصري ومولاي عبد السلام الجبلي وبوشعيب الحريري والفقيه الفكيكي، أي مجموعة مراكش (مع تعزيز ارتباطها بشبكة الشهيد حمان الفطواكي العاملة بمراكش، والتابعة للفقيه البصري ومولاي عبد السلام الجبلي). وهي المجموعة التي ربط الصلة لها مع الزرقطوني وعبد العزيز الماسي وبونعيلات ومولاي العربي الشتوكي ودابلعيد، قبل ذلك، المقاوم والوطني الكبير عمر المتوكل الساحلي. كيف تم تنفيذ اعتقال مولاي العربي الشتوكي إذن؟. هنا شهادة العائلة حاسمة، خاصة شهادة كبرى أبنائه، زينة الشابي الشتوكي، التي كانت في 12 من عمرها. كانوا، نياما في بيتهم بزنقة الرحامنة بمحاذاة قيسارية المنجرة بدرب السلطان، حين سمع طرق عنيف على الباب، بعد منتصف الليل. التاريخ هو ليلة 5/ 6 يناير 1954. أفاقت زينة وشقيقتها فاطم وشقيقها لحسن، على جلبة بشقة العائلة، ففتحوا باب غرفتهم، حيث كانوا نياما، وشرعوا يطلون بوجل، ليجدوا أمامهم مباشرة رجلا فرنسيا، بمعطف طويل وقبعة تشبه القبعة التي كان يعتمرها دوما جدهم، من والدتهم، فديريكو آليستيا. بينما والدهم واقف بلباس نومه في حديث مع عدد من رجال الشرطة الفرنسيين ضمنهم شرطي مغربي، كان الوحيد الوقح بينهم بطريقة صراخه ومحاولاته استفزاز مولاي العربي. هل كان والدهما، مرتبكا، هل كان يحتج؟. تؤكد زينة الشابي، أنه كان هادئا جدا، وكذلك والدتهما. فتشت عناصر الشرطة البيت كله، ما عدا غرفة نوم والديهما، التي كان ينام بها شقيقهما الأصغر مولاي عبد القادر، ثم ارتدى مولاي العربي معطفه دون أن يغير ملابس نومه، ونزل مخفورا بين شرطيين فرنسيين، وبقي الصغار يبكون محيطين بوالدتهم التي كانت صلبة قوية. كانت أسئلتهم كثيرة، لكن جواب "مدام مولاي" هو أن عليهم الإفتخار بوالدهم، فهو مقاوم ووطني يدافع عن حرية بلده، وأن ليس لهم ما يخجلون منه، بل عليهم أن يرفعوا دوما رؤوسهم عاليا. كانت "مدام مولاي"، تعرف أن زوجها مهدد بالإعتقال، هو الذي كان يتهيئ للسفر ضمن شبكة رفاقه إلى الشمال، بعد أن بلغه في صباح ذات اليوم، خبر اعتقال صديقه ورفيقه محمد منصور مع أحد مساعديه في محله التجاري. فكان الإتفاق مع الشهيد الزرقطوني هو ترتيب أمور تسفيره إلى الشمال هو وكل المجموعة المبحوث عنها. وقبل نزوله مع الشرطة، همس إليها أن تخبر الدكتور عبد الكريم الخطيب، أنه مستهدف بدوره، كما أخبره بذلك الزرقطوني. في الصباح الموالي توجهت "مدام مولاي" صوب عيادة الدكتور الخطيب وأخبرته أن مولاي العربي اعتقل وأنه كلفها بإخباره بأنه هو أيضا مبحوث عنه. كان رد الدكتور الخطيب، كما يحكي في شهادة صوتية مسجلة بحوزة أصغر أبناء مولاي العربي الشابي، مولاي يوسف الشابي الشتوكي، أنه حاول أن يتذاكى على "مدام مولاي"، قائلا لها: "لم اعتقل؟ هل مولاي العربي في المقاومة؟". رمقته "مدام مولاي" بنظرة غضب، وردت عليه بحزم، بما يفيد أنه عليك أن لا تستبلدني، قائلة له: "كلفني زوجي أن أنبهك. وأنا نبهتك". وكانت النتيجة، هي أن الدكتور الخطيب سيغلق عيادته، ونسق أموره للإلتحاق بتطوان. كان بيت مولاي العربي في الصباح الموالي ممتلئا بنساء كثيرات زائرات تضامنا، في مقدمتهن السيدة عايدة، زوجة المقاوم محمد منصور، التي اعتقل زوجها 18 ساعة قبل مولاي العربي. وقبل أن تغادر صوب عيادة الدكتور الخطيب، أوصت ابنتها زينة قائلة: "إذا جاء الزرقطوني أو عبد الله الصنهاجي أو أي صديق لوالدك قولي لهم إنه اعتقل من قبل الشرطة". والذي حضر فعلا، هو الصنهاجي، الذي غادر مسرعا، حيث التحق بسعيد بونعيلات وبنموسى وتمكنوا من العبور بعد أيام، مثل الدكتور الخطيب، إلى تطوان. فيما بقيت "مدام مولاي" بقوة شكيمتها، تبحث عن زوجها المختفي طيلة شهرين بولاية الأمن المركزية القديمة (الكائنة بشارع الروداني بالدارالبيضاء، حاليا). هناك تعرض لتعذيب وحشي، من خلال الكي بالكهرباء وإطفاء السجائر في مناطق مختلفة من جسمه، وتعليقه مقلوبا وغطس رأسه في إناء ماء وسخ لخنقه لأسابيع، وكان يشرف على التحقيق معه ضابط شرطة شهير حينها، إسمه أندري مارتينيز. كان التحقيق مركزا حول دوره في عملية تفجير القطار بالرباط، الرابط بين الدارالبيضاء والعاصمة الجزائر. ثم عملية المارشي سنطرال (السوق المركزي)، ثم عملية بناية البريد وبناية الطرود البريدية، التي نفذت كلها يوم 24 دجنبر 1953. وكيف أنه سخر سيارته "الستروين التراكسيون" لتنفيذ كل تلك العمليات. ورغم كل الوحشية التي عومل بها مولاي العربي، والتعذيب الفظيع الذي كان موضوعا له، فقد أجمع رفاقه، خاصة شهادة محمد منصور الدائمة عنه، أن الرجل لم يعترف ولو باسم واحد من رفاقه. أغلقت كل محلاته التجارية بأمر من السلطات الإستعمارية، ما عدا محل بيع الصحف والتبغ، الأمر الذي رفضته "مدام مولاي"، قائلة للشرطة: "إما أن تغلقوا كل شئ، أو تتركوا كل شئ مفتوحا". فتم إغلاق كل محلاته، مما جعل العائلة بدون أي مصدر رزق لشهور. حينها اكتشفت زوجة مولاي العربي معدن الرجال، حيث الكثيرون من رفاق الحزب وقفوا إلى جانب العائلة، بينما البعض الآخر، ممن أفضال مولاي العربي كبيرة عليه، كان يغير الطريق حين يلمحها قادمة رفقة صغارها (بعضهم اليوم أصبح من أغنياء المغرب).