لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. لا يمكن عمليا، فهم قصة ميلاد خلايا المقاومة المسلحة المغربية ضد الإستعمار (خصوصا الفرنسي)، في شكلها المنظم، دون استحضار إطاران مهمان، هما الإطار التنظيمي السياسي الحزبي، ثم الإطار المهني والقرب الجغرافي. لأنه بالعودة إلى تفاصيل خيوط حركة المقاومة المسلحة، كما انطلقت، منظمة ونوعية بالدارالبيضاء، سنجد أن كل الخلايا قد حكمها هذان الإطاران. دون أن يسقط ذلك الرؤية التحليلية الإجتماعية عن تلك الحركة، كونها تقدم بعضا من الجواب، عن معنى التحول في وعي الفرد المغربي لعقدي الأربعينات والخمسينات، الذي هو وعي جديد تماما في السلوك الإجتماعي للمغاربة، متصالح مع ما أصبح يفرزه نظام المدينة، من أشكال تأطيرية، بلورت من خلالها شرائح المجتمع ما تراه مناسبا من شكل لممارسة الحياة، بكرامة وحرية واستقلالية. وهم بذلك، لو انتبهنا قليلا، إنما يتساوقون مع زمنهم العالمي، زمن المقاومة المدينية المنظمة، ضد كل أشكال الإحتلال والإستعمار، سواء في الهند الصينية، أو في فرنسا حين احتلتها النازية، ونفس الأمر تحقق في بلجيكا وهولندا وبولونيا، أو في إفريقيا. هذا يعني أن تلك المقاومة كما تطورت مدينيا، من خلال أفراد مغاربة فتحوا أعينهم على نظام المدينة، بمعناه العالمي، إنما يقدم بعضا من الدليل على شكل التحول الإجتماعي في الوعي لدى الفرد المغربي بعد صدمة الإستعمار. بالتالي، مهم هنا، لإدراك وتمثل أهمية ذلك، التوقف عند نموذجين، هما مجموعة المدينة القديمة "اليد السوداء" بأشهر شهدائها (أحمد الراشدي ومولاي الطاهر، اللذين أعدما بسجن العادر قرب الجديدة يوم 4 يناير 1954)، ثم مجموعة درب السلطان، بقيادة الشهيد محمد الزرقطوني. المجموعة الأولى، التي تشكلت أصلا من خلايا حزبية، يعرف بعضهم البعض نضاليا وعائليا، كان أمر السرية فيها غير مضبوط كفاية، مما جعل كل عناصرها تقع في حملة أمنية واحدة. بينما المجموعة الثانية، فقد اكتسبت تجربة ميدانية تنظيمية أكثر حرصا على الجوانب الأمنية، بدليل أن الشهيد الزرقطوني كان على علاقة بالكثير من العناصر بالمدينة القديمة (مثل مجموعة "القانون المحروق" لسنة 1948، التي كانت تضم إضافة إليه كلا من سعيد المانوزي، محمد صدقي، بوشعيب شجاع الدين وآخرين)، ونفذت عمليات بالمدينة القديمة، دون أن تتمكن الجهات الأمنية من اعتقال أي عنصر منها. بل إنه، سيدخل السرية منذ 18 نونبر 1952، دون أن تتمكن أبدا السلطات الأمنية الفرنسية من وضع اليد عليه، حتى وهو يتحرك بيسر كامل في كامل المغرب. إن قوة مجموعة درب السلطان، هذه، إذن، كانت كامنة في إطارها التنظيمي، وأيضا في نوعية عملياتها المسلحة العنيفة، التي نفذتها ضد مصالح إستعمارية مختارة بعناية وفي تواريخ مفكر فيها، ذات رمزية عند المستعمر الفرنسي. وأنها بلورت قيادة مركزية، تشرف على خلايا متشعبة جغرافيا، في مختلف مناطق المغرب وفي أروبا. ومتشعبة مهنيا من خلال تخصصات مهنية وحرفية متعددة (كان من ضمنها، حتى خلق خلية ضمن جهاز الشرطة الفرنسية بالدارالبيضاء مشكلة من 5 عناصر من رجال الأمن المغاربة، أشهرهم وأشجعهم كبور والعطفاوي. وكذا خلق خلية ثانية متكونة من 12 من العسكريين المغاربة ضمن ثكنة بورنازيل، أشهرهم "بويفادن" المكوني ). لكن، حين يقوم المرء، بتجميع تفاصيل مجالات تحرك تلك القيادة المركزية، سيجد أنها متقاربة تنظيميا على المستوى الحزبي لحزب الإستقلال، ومتقاربة جغرافيا ومهنيا أيضا، دون أن يؤثر ذلك على فعالية عملها وتنظيماتها السرية. ضمن هذا الإطار يجب موضعة تحرك مولاي العربي الشابي الشتوكي ضمن قيادة المقاومة تلك، حينها، إلى جانب الزرقطوني، منصور، دا بلعيد، بونعيلات. بدليل أن إعادة رسم خريطة تحرك مولاي العربي الشابي، مثلا، بعد استقراره بالدارالبيضاء، في النصف الثاني من سنة 1952 (عمليا بعد شهر ماي)، سيجعلنا نكتشف أن المجال الجغرافي لمنطقة درب السلطان، كان هو الحاضنة الكبرى، لأعماله التجارية، لسكنى العائلة، وأيضا لعلاقاته الحزبية والنقابية وعلاقاته في المقاومة المسلحة. فبيت الشهيد محمد الزرقطوني بدرب القريعة، غير بعيد عن بيته سوى ب 800 مترا، وكذا بيت المقاوم الوطني محمد منصور (الذي سترتبط زوجة مولاي العربي "مدام مولاي" الإسبانية الأصل، بعلاقة قوية مع زوجته "السيدة عايدة"، الإيطالية الأصل). مثلما أن عيادة الدكتور عبد الكريم الخطيب بكراج علال، وكذا عيادة الدكتور عبد اللطيف بنجلون، بشارع الفداء، ليست ببعيدة سوى ب 750 مترا. مثلما أن مقهاه ومخبزته الجديدة قرب سينما "أطلس" قد كانت إلى جوار محل بيع الخشب للشهيد الزرقطوني ومحل محمد منصور، قبالة القصر الملكي مباشرة، وتفصلهما سكة القطار عن معمل شنوف للسكر، الذي هدم في الثمانينات، والذي كان فضاء لتأطير نقابي عمالي قوي حينها، للشهيد إبراهيم الروداني وحميدو الوطني وإبراهيم التروست دور كبير فيه. بل، إن أحد محلاته التجارية للمواد الغدائية بشارع الفداء (شارع السويس سابقا) قد فتح بالشراكة مع الوطني دا بلعيد، العائد بدوره من فرنسا. مما يعني أن فضاءات تحرك، مولاي العربي الشابي الشتوكي، جغرافيا ومهنيا، بين سنتي 1952 و يناير 1954، تاريخ اعتقاله، كانت ممتدة، بين درب القريعة، مرورا بساحة السراغنة، وبوشنتوف، ودرب كريكوان، وكراج علال، وانتهاء بالحي الجديد حينها، غير بعيد عن الثانوية التقنية "الخوارزمي" جنوبا، وقبالة القصر الملكي شمالا، حيث سينما "أطلس". هذا يعني، أن مولاي العربي، كما لو أنه وجد ذاته وسط عائلة جديدة، موسعة، وكذا زوجته، منذ عودتهما من فرنسا (بينما أطفاله الثلاثة الأوائل: زينة، فاطم، لحسن، كانوا لا يزالون يدرسون بمدرسة جسوس بالرباط ضمن نظامها الداخلي في الموسم الدراسي 52/ 53. ووحده الصغير مولاي عبد القادر من كان معهم ببيت العائلة بالدارالبيضاء). هنا، في هذين الفضائين، الحزبي والنقابي والحرفي، ولد مولاي العربي الشابي، آخر جديد. لقد تطور وعيه السياسي بالشكل الذي جعل منه، عنصر ارتكاز، في بلورة صناعة القرار النضالي، ليس في الدارالبيضاء وحدها، بل على الصعيد الوطني، وبالعلاقة مع الجالية المغربية المهاجرة بفرنسا. لأن حنكة الرجل، قد بوأته، أن يصبح رجل ارتكاز تنظيمي، حزبيا ونقابيا، وأيضا ضمن قيادة المقاومة الوليدة. بدليل ارتباطه مباشرة بقيادة حزب الإستقلال من خلال علاقته الوطيدة جدا مع أحمد بلافريج، عبد الرحيم بوعبيد، الحاج عمر بن عبد الجليل، امحمد الديوري، بالرباط، ثم بوشتى الجامعي بالدارالبيضاء. وكذا ارتباطه بشبكة الحرفيين والتجار المغاربة القوية بالدارالبيضاء، من خلال علاقته بالشهيد محمد الزرقطوني، محمد منصور، الشهيد إبراهيم الروداني، دابلعيد، عبد لله الصنهاجي، عبد العزيز الماسي، أحمد شنطر، بن إبراهيم الباعمراني وكريم محمد (هنا شهادة الوطني محمد بنسعيد آيت يدر حاسمة ومهمة). ثم أخيرا، ارتباطه بشبكة المقاومة المسلحة، المركبة والمعقدة، بالدارالبيضاء، من خلال نواتها الصلبة المركزية الأولى المشكلة أساسا من الزرقطوني، منصور، بونعيلات، دابلعيد ومولاي العربي الشابي، قبل سقوطها في يناير 1954، واستشهاد الزرقطوني يوم 18 يونيو 1954، حيث ستبرز مجموعة القيادة المركزية الثانية، التي كان فيها الفقيه البصري، وحسن صفي الدين الأعرج، والتهامي نعمان وحسن العرايشي والحسين برادة. لابد من التذكير هنا، بمعطيين تاريخيين مهمين. الأول، مرتبط بسيارة مولاي العربي "الستروين تراكسيون أمام 15/ 6" الجديدة، الضخمة الكبيرة، التي عاد بها من فرنسا في ماي 1952، التي كانت لا تتوفر سوى للشخصيات الهامة. فهي ذات السيارة التي ستلعب أدوارا حاسمة في كل عمليات المقاومة المسلحة، سواء في الدارالبيضاء أو مراكش أو آسفي (لا يزال يحتفظ بها مصونة في حالة جيدة، كبلورة نادرة، إبنه مولاي يوسف الشابي بالدارالبيضاء). فيما الثاني، مرتبط بالشهيد حسن الصغير المسفيوي (من مسفيوة بالأطلس الكبير قرب مراكش)، أول مقاوم تناول حبة السم، بدرب عمر بالدارالبيضاء، وتوفي في سيارة الشرطة في نفس الشارع الذي يحمل اليوم اسمه، بين ساحة درب عمر وشارع الجيش الملكي، حين كان يطبع بليل منشورا رفقة المقاوم الوطني التطواني، الحسين العرايشي رحمه لله، متضمنا لصورة محمد الخامس في إطار على شكل قلب، قبل أن يبلغ عنهما شرطي فرنسي كانت شقته فوق المطبعة. فالشهيد حسن الصغير، الذي مهم تفصيل القول في قصته هذه، كان على علاقة قوية بمولاي العربي وعائلته.