لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. كانت سنة 1953، سنة حاسمة في تاريخ الإستعمار الفرنسي بالعالم. لأنها سنة التصعيد العسكري والقمعي ضد شعوب المغرب العربي، وضد الحركات الجنينية للمطالبة بالإستقلال في مستعمراتها الإفريقية السوداء جنوب الصحراء. التي دشنت لمسلسل تحول في استراتيجيتها الإستعمارية، انطلق عمليا، منذ سنة 1946، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، واستعادة باريس حريتها من الإحتلال النازي الألماني سنة 1945. إذ، علينا الإنتباه، أن فرنسا، خلال المرحلة ما بين 1946 و 1954، كما لو أنها تخلت، عن مستعمراتها البعيدة (المكلفة جدا من الناحية اللوجيستية، أمنيا وعسكريا وماليا)، في البلاد الهند ? صينية، وفي المشرق العربي، كي تتفرغ أكثر لعمقها الإستراتيجي، القريب منها جغرافيا، الذي هو بلاد المغرب العربي (الجزائر أولا، ثم المغرب وتونس ثانيا) ودول إفريقيا الغربية من السنغال حتى التشاد والنيجر مرورا ببلاد شنقيط (المغربية أصلا) ومالي. هكذا نجدها، تنسحب من سورية ولبنان في نهاية سنة 1946 (سورية في 17 أبريل، ثم لبنان في 31 دجنبر). مثلما انسحبت من اللاووس يوم 22 أكتوبر 1953، ومن الكمبودج يوم 9 نونبر 1953 (بعد استعمار فرنسي دام 90 عاما، منذ 1863). ثم انسحبت، مكرهة، سنة بعد ذلك من الفيتنام، بعد هزيمتها الشنيعة أمام قوات الزعيم هوشي منه والجنرال جياب، الذي كان يعلن دوما أن أستاذه في حرب التحرير الشعبية هو البطل المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي. أقول، بعد هزيمتها في معركة "ديان بيان فو" يوم 8 ماي 1954. في مقابل ذلك، فإنها ستصعد المواجهة في كل بلدان المغرب العربي في ذات الفترة الزمنية (1952/ 1953/ 1954). أولا في الجزائر، من خلال مواجهة الحراك السياسي القوي لحزب "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" الوليد عن حزب "الشعب الجزائري" بزعيمه التاريخي مصالي الحاج، والذي تأسس بعد مجزرة مدينة سطيف سنة 1945 (التي خلفت أزيد من 42 ألف قتيلا). وهي المواجهة الجديدة، التي تمت بعد فوز ذلك الحزب الجديد بانتخابات المجالس البلدية لسنة 1948، التي عمليا جمدتها باريس، وأدت إلى حدوث انقسام وشرخ فيه سنة 1953، مما سرع من انطلاق العمل المسلح، سنة 1954. ثانيا، في تونس، حين اعتقلت الحبيب بورقيبة يوم 31 يناير 1953، بعد اغتيال فرحات حشاد يوم 5 دجنبر 1952. ثم، ثالثا، في المغرب، حين شرعت تضغط بقوة على الملك الوطني محمد الخامس لفك ارتباطه بالحركة الوطنية وإرغامه على توقيع الظهائر الجديدة المؤبدة للإستعمار (وليس للحماية) الفرنسي، تحت طائلة التهديد بعزله عن العرش منذ 1950، والذي نفذ يوم 20 غشت 1953. ضمن هذا الجو العام، كان مولاي العربي الشابي، ورفاقه الجدد بدرب السلطان بالدارالبيضاء، ضمن التنظيم الحزبي لحزب الإستقلال، وضمن الأنوية النقابية، التي للتجار، مع عمال مناجم الفحم الحجري والفوسفاط وعمال الجوطونا بميناء الدارالبيضاء، الدور المحوري فيها (رفاقه الجدد أولئك، هم: محمد الزرقطوني، إبراهيم الروداني، محمد منصور، سعيد بونعيلات، دا بلعيد، عبد الله الصنهاجي، عبد العزيز الماسي). ضمن هذا الجو العام، كان وعيهم السياسي يتبلور في اتجاه الخيار المسلح، خاصة وهم يتتبعون عبر الصحف وأساسا عبر الإذاعة (خاصة إذاعة البي. بي. سي. اللندنية، ثم إذاعة "صوت العرب" القاهرية التي انطلقت يوم 4 يوليوز 1953)، أخبار الحركات النضالية التحررية الشعبية المماثلة لنضال المغاربة عبر العالم، في آسيا والمشرق العربي وإفريقيا. في مقابل، التضييق الذي كان يمارس على كل صوت وطني سياسي أو إعلامي مغربي، من قبل السلطات الإستعمارية، بدليل حجم المقالات الممنوعة من النشر حينها في جريدة "العلم" والتي كانت تصدر بإطارات فارغة، مطبوعة عليها عبارة "حذفته الرقابة". بينما أطلقت اليد لصحافة "ماس"، المتكونة من صحف "لافيجي" و "لوبوتي ماروكان"، بمؤطرها الدكتور إيرو (الذي سيتم اغتياله أسبوعين بعد استشهاد الزرقطوني سنة 1954)، لنشر أخبار ومقالات تمس بالمشاعر الوطنية للمغاربة. وكانت مرة أخرى، "مدام مولاي" قارئة ومترجمة أغلب تلك المقالات الفرنسية لمولاي العربي ورفاقه، مثلما كانت تفعل من قبل مع العمال المغاربة والجزائريين بسانتيتيان. ضمن هذا الجو العام، إذن، الذي هو جو مواجهة، وتصعيد واحتقان، مغربيا ومغاربيا وعالم ? ثالثيا، أصبح انخراط مولاي العربي الشابي في تيار المقاومة، ضمن فريق الحركة الوطنية، انخراطا كليا، بأبعاد تمتد على ثلاث واجهات: 1) واجهة العمل التنظيمي السري، العملياتي، الذي انطلق بطبع المناشير السرية، وإحراق عدد من المصالح الفرنسية الإقتصادية. 2) واجهة العمل النقابي ضمن شبكة التجار والحرفيين المغاربة، خاصة التجار السوسيين، وجعلهم مصدر دعم مالي لوجيستي حاسم. 3) ثم واجهة شبكة العمال والتجار المهاجرين المغاربة بفرنسا، التي بقي على علاقة وثيقة بهم، وكانوا مصدرا حاسما للدعم المالي وللسلاح. بالتالي، فقد كانت الشهور الست الأولى من سنة 1953، شهور احتقان بالمغرب، ضاعف منها الدور الذي أصبح يلعبه القواد والباشوات الكبار، مثل الكلاوي بمراكش والبغدادي بفاس (أحرقته جماهير الرباط بعد عودة الملك محمد الخامس من منفاه عند أسوار القصر بالعاصمة)، ضد الحركة الوطنية وضد الملك الوطني محمد الخامس، بشكل منسق ومرتب له مع الإقامة العامة بالرباط. فأصبحت كل مصالح مولاي العربي في خدمة انخراطه النضالي الجديد (كما قال بذلك في شهادته الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في حق عائلة مولاي العربي، أنه وزوجته لا يكتفون بالخطابة والتعاطف بل يضعون كل ما يملكون على الطاولة من أجل القضية الوطنية). فمحلاته التجارية أصبحت فضاء لاجتماعات سرية متعددة، فيما بيته خلفية للإعداد لاجتماعات وطنية، وسيارته الجديدة أداة للتنقل وتنفيذ مختلف المهام الوطنية. وحين تصاعد الهجوم الإستعماري ضد الحركة الوطنية، وضد رمز السيادة المغربية، الملك الوطني محمد الخامس، خلال تلك الأسابيع الحاسمة من شهر يوليوز وغشت من سنة 1953، سنجد أن مولاي العربي منخرط بقوة في كل العمليات الميدانية للمقاومة المغربية، بالتنسيق الكامل مع قيادتها التي تبلورت بالدارالبيضاء، المشكلة من المجموعة المركزية الأولى، التي تضم عناصر محددة، هي: الشهيد محمد الزرقطوني، المرحوم محمد منصور، دا بلعيد، سعيد بونعيلات، عبد الله الصنهاجي، مولاي العربي الشتوكي، إبراهيم الروداني، بتفريعاتها المتشابكة في اتجاه فاسومراكش وتطوان وطنجة وآسفي وخريبكة ووجدة. وهي المجموعة المركزية الأولى، التي ستتلقى ضربة موجعة بعد اعتقالات يناير 1954، إثر افتضاح المخبأ السري ل "ضيعة يكم" بضواحي الرباط في آخر دجنبر 1953. لنقدم أدلة ملموسة على ذلك. لقد أكد لي الوطني الكبير، سي محمد بنسعيد آيت يدر، في شهادته حول مولاي العربي الشابي، أنه حتى قبل عزل الملك الوطني محمد الخامس وتنصيب بن عرفة بدلا عنه سلطانا على المغرب، يوم 20 غشت 1953، فقد أكد له المقاوم المغربي كريم محمد بنبراهيم، أنه بتاريخ 8 غشت 1953، سيتوجه فريق من المقاومين من الدارالبيضاء في سيارة مولاي العربي الشابي الشتوكي صوب مراكش لتصفية بن عرفة. متكون من كل من مولاي العربي الذي يسوق سيارته الستروين الفخمة والقوية، كريم محمد، عبد العزيز الماسي، حسن العرايشي، أحمد الفكيكي. لكن تلك المهمة لن يكتب لها النجاح، بسبب نصيحة في آخر لحظة من الباشا التهامي لكلاوي لبن عرفة بعدم الذهاب إلى مسجد الكتبية. نفس هذه المعلومة، سيؤكدها لي مصدران آخران، منذ سنوات، هما عبدان التيباري والمرحوم الفقيه البصري. اللذين أكدا أنه إضافة إلى مجموعة سيارة مولاي العربي، فقد سافرت مجموعة ثانية برئاسة الزرقطوني عبر القطار، وأن الجميع التقى بمراكش، مما يعني أن القرار مخطط له بدقة. وهي العملية التي اشتهرت بجلبة مسجد الكتبية، حين ابتدع الشهيد الزرقطوني فوضى إطلاقه صرخة "شد، شد"، التي أحدتث تدافعا وفوضى كبيرة. لقد أكدت شهادة كريم محمد، لبنسعيد آيت يدر (نشرت بعض تفاصيلها ضمن شهادة لآيت يدر بجريدة "أنوار سوس" عدد يوليوز/ غشت 2004)، أنهم أخدوا طريقا ملتوية عبر سيدي بوعثمان، بعيدا عن الطريق الوطنية بين الدارالبيضاء ومراكش، حتى لا يقعوا في أي كمين للشرطة الفرنسية. بل، أنهم في منطقة خلاء جربوا مسدساتهم التي بحوزتهم، قبل الوصول إلى مدينة سبعة رجال، وتواصوا في ما بينهم حول أهلهم وعائلاتهم، في حال قتل أي واحد منهم. مثلا أوصى عبد العزيز الماسي، مولاي العربي أن يمنح كل ممتلكاته لابن أخيه عبد الله الماسي (تجدر الإشارة هنا أن علاقة مولاي العربي القوية مع الماسي ومع دابلعيد، راجعة إلى أنهما كانا مثله مهاجرين بفرنسا، وعادا إلى المغرب مثله في بداية الخمسينات، من هنا درجة الثقة العالية بينهم). بينما أخبرهم حسن العرايشي أنه طلق زوجته وترك ابنه عزام العرايشي عند أخته. مثلما ستقع حكاية أخرى لمولاي العربي الشابي، بذات سيارته، رفقة الشهيد محمد الزرقطوني بين الدارالبيضاء وآسفي، قبل العمليات الكبرى للمقاومة بالدارالبيضاء، تستحق تفصيلا مدققا.