مع بداية العمل الفدائي، واجهتنا مشكلة خطيرة كانت ستذهب بكل جهودنا أدراج الرياح، وكانت ستنذر بالقضاء على كفاحنا المسلح، والسبب هو أن الفدائيين بمدينة الرباط قاموا بعملية تصفية لأحد الخونة؛ ولكنه نجا من الموت، فقام بإخبار الشرطة الفرنسية بأسماء منفذي العملية. كما سقطت في يد الشرطة الفرنسية إحدى المنظمات في مدينة الدارالبيضاء، تتكون من ما يقرب من 60 فدائيا، وهي المنظمة التي اشتهرت ب"اليد السوداء" وعرفت قضيتها بقضية سينما "ريو"، واعتقل جل أفرادها بعد عثور البوليس الفرنسي على قائمة تضم أسماءهم في منزل أحد أفرادها، فاعترف للشرطة بعناوين رفقائه نتيجة التعذيب الوحشي الذي تعرض له. إذن، كيف سنتصرف مع الفدائيين الذين سيفتضح أمرهم لدى الشرطة الفرنسية، حتى لا يضعفوا تحت ضغط التعذيب، فيعترفون للشرطة بأسماء رفاقهم؟ كان هذا هو السؤال الصعب الذي اختلفنا في الإجابة عنه. كان من رأي المرحوم محمد الزرقطوني ومجموعة من الإخوان الآخرين تصفيتهم. وللحقيقة والتاريخ وبلا افتخار، والله يشهد على ما سأبوح به، فقد رفضنا هذه الفكرة أنا ومحمد الرحموني، وقلت بالحرف للمرحوم محمد الزرقطوني: "من العار أن نقتل إخواننا، فلنبحث عن وسيلة أخرى أشرف من التخلص من رفقائنا في الكفاح، وهذا التصرف سيخلق أزمة ثقة وحزازات بين الفدائيين، وإن حدث هذا فلن يجرؤ أي واحد من المواطنين على الالتحاق بالعمل الفدائي". ثم أضفت: "وهذا أغلى ما يتمناه المستعمر الفرنسي، ولا تنسى كذلك أننا في يوم من الأيام سنشرب من نفس الكأس، فاترك الأمر لكل الإخوان لمدة أسبوع، وسنجد إن شاء الله الحل". ولأن محمدا الزرقطوني كان يتحلى بفضيلة التواضع، وسعة الصدر، ولا يفرض أفكاره على أصدقائه، فقد أعطانا مهلة 10 أيام، لكي نجد حلا لهذه المعادلة الصعبة. اجتمعت أنا ومحمد الرحموني الذي كان يسكن معي، وبدأنا نفكر في الوسيلة التي ستحل بها هذه الإشكالية، فعجزنا عن إيجاد الحل. وقبل انقضاء المهلة المحددة بيوم واحد كنا سنستسلم، ونوافق على حل التصفية، ولكن بإلهام من الله سبحانه وتعالى، تذكرت أن محمدا الرحموني كان قد حدثني عن قريب له يسكن قرب "مولاي بوسلهام"، ويمارس مهنة تهريب الثياب والسلع من المنطقة الشمالية. قلت لمحمد الرحموني بلهفة: لقد وجدت الحل. فسألني مستغربا: وما هو؟ فقلت له: إنه عند قريبك الموجود في "مولاي بوسلهام"، فهو الوحيد الذي يستطيع أن يساعدنا في تهريب هؤلاء الفدائيين إلى المنطقة الشمالية. فأجابني: إنني لم أره منذ سنوات. فقلت له: وماذا سنخسر فلنسافر ونجرب حظنا معه، ولكن بشرط أن لا تخبره بحقيقة الأمر. ومن هنا انبثقت فكرة تهريب الفدائيين إلى المنطقة الشمالية.. قدمنا الاقتراح لمحمد الزرقطوني، فاقتنع به بشرط أن يستكشف الطريق بنفسه أولا، ويقوم بزيارة المنطقة ويلتقي بالإخوان في مدينة القصر الكبيروالعرائش حتى يطمئن على مصير الفدائيين ووصولهم بسلام. سافر محمد الزرقطوني ليختبر طريق الشمال متنكرا في اسم محمد الرحموني صحبة سليمان العرائشي الذي كان يتوفر على جواز مرور إلى المنطقة الشمالية، بعدما نجحنا في تزوير جواز مرور محمد الرحموني ليستخدمه محمد الزرقطوني بتبديل صورتيهما فقط، ولكن في "عرباوة" أوقفهما البوليس وسمح لسليمان العرائشي بالمرور واعتقل محمد الزرقطوني بعدما شكوا فيه واكتشفوا أمر تزوير جواز المرور، وتم نقله إلى مدينة الرباط لإخضاعه للاستنطاق. وقد تمكن بدهائه من رشوة بعض رجال الشرطة الفرنسية، فتم الإفراج عنه وعاد إلى مدينة الدارالبيضاء بعد فشل رحلته، مصمما على تصفية الفدائيين الذين افتضح أمرهم حفاظا على سرية أعمال المقاومة وإنقاذا لبقية الفدائيين. وبعد رجوعه من رحلته، زارنا محمد الزرقطوني من جديد في البيت، ليخبرنا بقرار الاستعداد لتصفية المقاومين المتورطين والتفكير معه في الوسيلة، قبل أن نتورط جميعا؛ لكننا لم نستسلم، ونجحنا مرة أخرى في إقناعه بأن يسمح لنا في أن نجرب حظنا. وبعد الاستفسار عن الوسيلة التي سنسافر بها والأسلوب الذي سنحاول به إقناع قريب محمد الرحموني، حددنا موعد السفر بعد يومين، فتمنى لنا التوفيق في مهمتنا، وطلب منا أخذ جانب الحيطة والحذر في تعاملنا مع قريب محمد الرحموني. ودع الشهيد محمد الرحموني، ونزلت معه من شقتي بزنقة تادلة، ففوجئت بسعيد بونعيلات ينتظره أمام باب المنزل، فسألته همسا: لماذا تركته هنا؟ فأجابني: رأيه معروف في هذه القضية، وهناك أشياء لا يحق للبعض الاطلاع عليها.. فودعته ورجعت. وقبل الاسترسال في الحديث، لا بد من التذكير أن الفدائيين اللذين ينتميان إلى مدينة الرباط وهما المحجوب التفنوتي وعبد القادر عسو قد تمكن الإخوان من تهريبهما وإخفائهما في ضيعة توجد ب"وادي ايکم" في ملكية صالح أوبراهيم، وكلف بالإشراف عليها محمد بوزاليم. كما تم نقل محمد المذكوري إلى نفس المزرعة، وكذلك سعيد ولد الحاج عبد الله الذي نجا من منظمة "اليد السوداء". بعدما سمح لنا محمد الزرقطوني بأن نجرب حظنا، استأجرت سيارة نصف نقل من نوع "بوجو 202" ب3.000 فرنك من صديق يسكن بدرب بوشنتوف مهنته خضار، أوهمته بأنني أريد السفر بأولادي لزيارة ضريح سيدي أحمد بنيشو، ورافقتني في هذه الرحلة زوجتي وولدي، كما صحب محمد الرحموني معه زوجته وابنته. وفي الساعة الرابعة صباحا كنا قاصدين دوار دكالة نواحي مولاي بوسلهام قرب جمعة لالة ميمونة، حيث يسكن علي الملاحي قريب محمد الرحموني. عند وصولنا إلى دوار دكالة سألنا عن منزل علي الملاحي، وعندما التقينا به لم يتعرف محمد الرحموني على ابن عمته لأنه لم يره منذ زمان. وعلى الرغم من ذلك، رحب بنا الرجل واستضافنا في بيته. وفي الغد، ذهبنا رفقة على الملاحي وزوجته وأولاده جميعا لزيارة مولاي بوسلهام. وبعد ذلك توجهنا إلى شاطئ البحر، فقضينا اليوم كله هناك. وعند رجوعنا، لاحظت أن أهل تلك المنطقة يهتمون بتربية الدجاج والبيض، فطلبت من محمد الرحموني أن يخبر ابن عمته بأنني تاجر مختص في بيع وشراء الدجاج والبيض ويترك باقي الأمر لي. وأثناء مسامرات الليل لاحت لي فرصة معرفة رأي علي الملاحي فيما نحن قدمنا من أجله، فقلت له: إن لي صديقين أحدهما يريد المرور إلى مدينة العرائش والثاني إلى مدينة تطوان من أجل إحياء صلة الرحم مع بعض أفراد عائلتيهما الذين يعملون هناك في التجارة؛ ولكنهما لا يتوفران على جواز المرور، فهل بإمكانك مساعدتهما؟ طبعا لم نكشف له شخصية الفدائيين؛ فأبدى علي الملاحي استعداده للقيام بهذا العمل الإنساني، وخصوصا أنه يقوم برحلتين في الأسبوع إلى المنطقة الإسبانية لجلب السلع والثياب، فاتفقنا معه على إحضارهما بعد يومين، فطلب منا أن لا نحضرهما إلى الدوار ويكون موعدنا عند التقاء طريقي سيدي بوسلهام وجمعة لالة ميمونة في مكان يقال له الدارالبيضاء على الساعة السابعة مساء. ودعنا علي الملاحي ورجعنا إلى مدينة الدارالبيضاء وبعد أن أرجعت السيارة إلى صاحبها، واعتذرت له على التأخير. قصدنا محمد الزرقطوني في مركز المنجرة، فوجدناه جالسا رفقة عبد الله الصنهاجي، فبشرناهما بنجاحنا في تأمين الطريق التي ستصبح مسلكا لتهريب الفدائيين إلى المنطقة الشمالية وأخبرناهما باستعداد قريب محمد الرحموني لمساعدتنا، فبارك محمد الزرقطوني خطتنا، وأكد أنه سيوفر لنا سيارة لسفرنا وطلب مني أن أذهب معه عند حسن النكريمي الذي كان يتاجر بدرب عمر، واستعار منه محمد الزرقطوني سيارته وهي من نوع "طونيس" التي يوجد بها مغير السرعة قرب المقود، فسألني محمد الزرقطوني إن كنت أعرف قيادة هذا النوع من السيارات، فأجبته أنها المرة الأولى التي سأسوق فيها هذه "الماركة" فاتصل بعبد الله الزناكي ليلقنني طريقة استعمالها. كما كانت لحسن النكريمي سيارة أخرى من نوع "فورد V8" كان المقاومون يستعملونها كثيرا. وبعد أن تأكدنا من سلامة السيارة من الناحية الميكانيكية، أوصلت محمد الزرقطوني إلى منزله بحي "گريگوان"، وحدّدنا موعد اللقاء في الساعة الواحدة ظهرا للسفر من مركز المنجرة. *صحافي، باحث في تاريخ المقاومة المغربية، شاعر وزجال [email protected]