استكمالا لمقال سابق في الرد على شبهات فرانسوا كزافيي فوفيل، مدير البحوث بالمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، حول حقيقة وصول ابن بطوطة إلى الصين، واستجابة لمجموعة من الرسائل التي وردتني من قراء هسبريس الكرام، إليكم دليلا آخر للتخلص من الشكوك بالاعتماد دائما على مقارنة بين ما أبلغنا به ابن بطوطة وما ورد في المراجع الصينية من الحقبة نفسها. خلال فترة ترحاله، والتي دامت 27 سنة، قضى ابن بطوطة ما يقارب سبع سنوات منها في الهند، امتهن خلالها القضاء خلال فترة تولي السلطان محمد ابن تُغْلُق (توغلوك في مصادر أخرى)، الملقب بأبي مجاهد، والذي عرف عنه الكرم والشجاعة وبعض من البطش. وإذا كانت دولة المغول (أسرة يوان في المراجع الصينية) بقيادة جنكيز خان قد اجتاحت جميع الدول ما بين المحيط الهادئ والبحر الأبيض المتوسط، إلا أن الهند احتفظت باستقلالها أمام الزحف المغولي، مع نشوب نزاعات بين الفينة والأخرى، خاصة في المناطق الحدودية بين بوذيي التبت ومسلمي الهند. وتجنبا لاندلاع حروب مدمرة بين القوتين، دأب أباطرة الصين وملوك الهند على إيفاد بعثات دبلوماسية من أجل حماية مصالح الدولة الموفدة ومواطنيها في الدولة المضيفة، وكذلك تنمية العلاقات التجارية بين البلدين. وعادة ما تكون هذه البعثات فرصة لتبادل الهدايا مما يزخر به البلدان آنذاك من منتجات ثمينة. حسب التاريخ الرسمي لأسرة يوان، أرسل إمبراطور الصين يوان شون دي سنة 1342 بعثة صينية من مدينة تشوانجو (مدينة الزيتونة) بحرا إلى الهند، محملة بهدايا ثمينة للسلطان محمد، تقدم فيها يوان شون دي بطلب للسماح للبوذيين الصينيين في المنطقة الحدودية بإقامة شعائرهم الدينية. يقول شمس الدين الطنجي، في كتابه تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار: "وكان ملك الصين قد بعث إلى السلطان أبي المجاهد محمد شاه مائة مملوك وجارية وخمسمائة ثوب من الكمخا، وخمسة أمنان من المسك، وخمسة أثواب مرصعة بالجوهر، ومثلها من التراكش مزركشة، ومثلها سيوف؛ وطلب من السلطان أن يأذن له ببناء بيت الأصنام بناحية جبل قراجيل، وإليه يحج أهل الصين". وينقل ابن بطوطة جواب السلطان محمد بن تغلق: "إن هذا الطلب لا يجوز في ملة الإسلام إلا لمن يعطي الجزية، فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه، والسلام على من اتبع الهدى". كما أورد ابن بطوطة وصفا دقيقا لمختلف أصناف هدايا سلطان الهند لإمبراطور الصين، وهي ثلاثة وعشرون صنفا "مائة من الجياد مسرّجة ملجمة، ومائة مملوك ومائة جارية مغنيات ورواقص من غير المسلمات، ومائة ثوب بيريمية، ومائة شقة من ثياب الحرير، ومائة ثوب من الثياب المعروفة بالصلاحية...وعشرة من السيوف، أحدهما مرصع بالجوهر..."، (الجرد الكامل للهدايا في كتاب تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق ذ محمد عبد الرحيم، الصفحة 292). وفي تحقيقه لتاريخ أسرة يوان ومراجع حروب المغول في جنوب شرق ووسط آسيا، قام الكاتب الصيني يانغ يو سيانغ (Yang Yu Xiang) بجرد لهدايا ملك الهند محمد شاه لإمبراطور الصين خلال الحقبة نفسها التي أشار إليها ابن بطوطة، وإليكم ترجمة حرفية لما جاء ذكره: "كانت هدايا ملك الهند أكثر عددا وقيمة من هدايا الإمبراطور يوان شون دي، وهي عبارة عن مائة فرس أصيلة، ومائة من العبيد، ومائة جارية تتقن الرقص والغناء، ومائة من ثياب البيسان (Buisam) ومثلها من حرير الهند". وفي تطرقه لهدف البعثة الصينية، أشار يانغ يو سيانغ إلى أن إمبراطور الصين طلب من ملك الهند الموافقة على إعادة بناء معبد بوذي في منطقة سامورال (Samural) كان الصينيون يحجون إليه قبل تدميره من طرف جيوش الملك محمد في حروب سابقة. من خلال هذه المقارنة، يظهر جليا أن هناك تطابقا تاما في وصف أصناف الهدايا وكميتها، وكذا أهداف البعثة الدبلوماسية، بين ما سرد ابن بطوطة وما تم تدوينه في تاريخ أسرة يوان؛ بل إن ابن بطوطة وكعادته أورد تفاصيل أكثر دقة يعتبرها الباحثون الصينيون ذات أهمية بالغة في فهم التراث الإنساني لأسرة يوان، نظرا لندرة الآثار والمراجع لتلك الفترة. وبالتالي إذا كان ابن بطوطة لم يصل إلى الهندوالصين كما شكك في ذلك العديد من المستشرقين، فكيف له أن يقدم وصفا دقيقا ومطابقا للمراجع الصينية من نفس الحقبة عن نوعية الهدايا وعددها، وكذلك الطلب الذي تقدمه به إمبراطور الصين لفائدة رعاياه في الأراضي الهندية المسلمة وهو مقيم في فاس أو الإسكندرية أو دمشق؟ التفسير العلمي الوحيد هو أن ابن بطوطة كان يحظى بثقة ملك الهند، ونظرا لولعه بالترحال اختاره السلطان محمد شاه كمبعوث خاص لدى الإمبراطور يوان شون دي. ويعتبر ابن بطوطة أول أجنبي لعب دورا دبلوماسيا مهما بين القوتين العظميين آنذاك، الهندوالصين، كسفير فوق العادة للسلم والتعايش بين الأديان. وهذا ليس غريبا على المغاربة، والذين بحكم موقع بلدهم الإستراتيجي في ملتقى الحضارات أتقنوا منذ القدم اللغات الأجنبية وتميزوا بحنكتهم في العمل الدبلوماسي. وأخيرا كأحفاد للشيخ ابن بطوطة الطنجي، وجب أن تتضافر جهودنا في تحقيق أسماء الأماكن والأشخاص والوقائع التاريخية، بالرجوع إلى المصادر الصينيةوالهندية المعتبرة؛ وبالتالي سنساهم في رد الاعتبار لهذا الرحالة المغربي الكبير، ولتستمر الأجيال القادمة في الاعتزاز بتاريخنا المجيد واقتداء طريق أعلامه النبلاء في مسيرة تحصيل العلم والبحث والمثابرة. رمضان مبارك كريم للأمة الإسلامية، وتمنياتنا أن تسترجع هذه الأمة حيويتها بعد سبات طويل دام عدة قرون. *أستاذ باحث في العلاقات الإفريقية الصينية بجامعة صن يات سين