نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/5 - الرواقية وتأثيراتها على القانون الروماني الكتابات حول الرواقية في مراحلها الأولى غير مضبوطة على وجه الدقة، وكل ما هو معروف عن المذهب الرواقي في بداياته يعود إلى مصادر غير مباشرة تتسم إما بانتقائيتها وإما بمعارضتها لهذا التيار. هذا، وقد نشأت الفلسفة الرواقية مع نهاية القرن الرابع وبداية القرن الثالث قبل الميلاد، واستمرت تعاليمها في الانتشار إلى حدود القرن السادس الميلادي. وخلافا للمدارس الفلسفية اليونانية الأخرى المعاصرة لها، والتي كانت في مجملها سجينة لدائرة الفكر الهيليني، فإن المدرسة الرواقية فتحت الباب على مصراعيه أمام تأثيرات خارجية ومنها تأثيرات الديانات الشرقية. وبفضلها ارتقى الفكر اليوناني من مجاله المتوسطي الضيق إلى مستوى العالمية، ولم تعد مسألة المواطنة مرتبطة بالمدينة وإنما بالعالم. لقد أكد زينون، واضع أصول الرواقية ومؤسسها الأول، على أن البشر لا يجوز لهم أن يتفرقوا إلى مدن، لكل منها قوانينها الخاصة، فالبشر جميعا أبناء وطن واحد، إذ أن حياتهم واحدة والكون الذي يعيشون فيه واحد، مثلهم مثل قطيع الأغنام الذي يوحده انقياده لقانون واحد. فالأرض وطن للجميع والخير يجب أن يكون الغاية المنشودة للجميع. ومعظم أقطاب المدرسة الرواقية هم من غير اليونانيين، بدءا بمؤسسها الفينيقي زينون. لهذا لا يمكن اعتبار الرواقية مجرد امتداد للمدارس السقراطية، حتى وإن كانت تجمعها بها بعض الخصائص المشتركة في الشكل والمنهج. إنها منطلق جديد لنسق فكري عقلاني أخلاقي. بمعنى أن الفعل الأخلاقي هو ما يصدر عن العقل وبملء إرادة الإنسان، والفضيلة كل لا يتجزأ ولكن له جوانب متعددة، مثلا: الشجاعة هي الحكمة فيما يجب احتماله، والعدالة هي الحكمة في توزيع الحقوق، والعفة هي الحكمة في اختيار الأشياء. ومن أقوال زينون: "إن العالم كل عضوي، تتخلله قوة الله الفاعلة، وإن رأس الحكمة معرفة هذا الكل، مع التأكيد أن الإنسان، لا يستطيع أن يلتمس هذه المعرفة، إلاّ إذا كبح جماح عواطفه، وتحرر من الانفعال". وأما الاهتداء إلى قواعد السلوك والوصول إلى السعادة، فإنه يمر وجوبا عبر تصور عقلاني للكون، مفاده أن الحياة الإنسانية تحاكي الطبيعة، وهذا هو منطلق المعرفة عند الرواقيين. أسس الفلسفة الرواقية الطبيعة بالمفهوم الرواقي تعني "اللغوس" أي ذلك العقل الكوني الذي يعد العقل الإنساني جزءا منه، وكل ما يحدث هو بالضرورة ناتج عن هذا العقل. ويبدو أن منهاج التربية الرواقية قد نال ارتياح الأثينيين، والدليل على ذلك أنه جاء في مرسومين منحهما الشعب الأثيني مكافأة لزينون: "علم زينون الفلسفة لسنين عديدة في مدينتنا، وكان رجلا صالحا، دعا الفتيان الذين يترددون عليه إلى الفضيلة والعفة، وأخد بأيديهم إلى جادة الصواب، وكانت القدوة التي أعطاها للجميع هي حياته بالذات، وكانت مطابقة للنظريات التي شرحها لهم". وتعريف الفلسفة عند الرواقيين يعني "علم الأشياء الإلهية والبشرية". إلا أن الله عندهم ليس هو إله الأساطير الشعبية، ولا ذلك الخير المطلق الأفلاطوني أو العقل المطلق الأرسطي، بل هو إله موثوق الصلة بالبشر، إنه صانع الكون الذي تتجلى قوته في كل شيء. وعلى الحكيم الرواقي أن يقبل بطبائع الأشياء وينسجم مع إرادة صانعها بكل ما أوتي من قوة في الفهم والإدراك. أما المنطق الرواقي فينبني على الصورة النفسية المستمدة من الواقع بعد تصديق إرادي غير مغلوط، وهذا ما يطلق عليه الرواقيون مصطلح "التمثل المحيط"، أي القدرة على إنتاج الحكم الصحيح. وتعريف زينون للتمثل المحيط هو كالتالي: "تمثل منطبع في النفس، منبثق عن موضوع واقعي، ومطابق لهذا الموضوع، بحيث ما كان ليكون له وجود لولا صدوره عن موضوع واقعي". بمعنى آخر أن التمثل هو عبارة عن شروط موضوعية مستقاة من الواقع بهدف إنتاج إدراك صحيح. والتركيز هنا على الوظيفة وليس على الماهية. فالتمثل المحيط إذن هو بداية اليقين التي يتساوى فيها الحكيم بالجاهل، ولكن التفاوت بينهما يتضح حتما بزيادة هذا اليقين ليصبح علما عند الحكيم، أي بمثابة "الإدراك الصلب والثابت والراسخ بقوة العقل". ونستنتج من ذلك أن التمثل المحيط إطار عام غير مضبوط ولكن من شأنه أن يدفع للتصديق، والتصديق للإدراك، والإدراك للعلم. والجدل الرواقي ليس جدلا بجوهر الأشياء وإنما بمنطوقاتها، إما كاذبة وإما صادقة. وهذا ناتج عن نظرة عقلانية مبنية في الأساس على ترابط الوقائع الكونية وعلى كمال الكون نفسه. فكل شيء موجود في هذا الكون يشغل مكانا معينا في النظام الكلي، بما في ذلك الزمان والحركة التي هي فعل وليست انتقالا إلى الفعل. وحتى لا تقع في تناقض تؤاخذ عليه، أفرزت الرواقية مبدأ "المزيج الكامل" أو الانصهار التام بين جسمين دون فقدانهما لخواصهما، كرائحة البخور التي يحملها الهواء عند استنشاقنا لها مثلا، أو كالقهوة التي نشربها وهي متحللة في كتلة الماء الممزوج بها. وهكذا يمكن سريان العقل عبر المادة دون الإخلال بمكونات أو خصائص عناصرها. ومن هذا المنظور، فإن الرواقية تجنح إلى مزيج من المادية والروحانية، وهي نظرة كوسمولوجية تفيد إعادة الأشياء إلى نقطة بدايتها بصفة لا متناهية في التكرار. وعليه فالرواقيون يعتقدون أن العالم سينتهي باحتراق كلي، وينصهر كل شيء في الجوهر الإلهي ثم ينطلق من جديد إلى ما كان عليه من قبل، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. فالعالم إذن نظام إلهي، وإذا كانت أجزاؤه غير كاملة، فلأنها على صلة بالكل ولا وجود لها في حد ذاتها. وأما قانون الوجود فحتمي، يستحيل معه أن يقع أي حدث خارج الكيفية التي وقع بها فعلا. وما يسمى بالقدر هو في الواقع رابطة بين العلل وليس ترابطا بين العلل والمعلولات، بمعنى أنه بداية لكل تطور جزئي مهما كان. ورغم هذا الطرح المغالي في الحتمية، فإن الرواقيين لا يقولون بالإذعان والانسياق وإنما يحثون على المسايرة الإيجابية بقولهم: "يجب أن نوفق إرادتنا مع الأحداث بحيث يأتي ما يطرأ منها موافقا لمشيئتنا". وتتم هذه المسايرة وفقا لما تميله الطبيعة، لكن هذا لا يعني انعدام حرية الفرد كمعيار للميول التي زودته الطبيعة بها، لذلك تبرز الخصوصيات الفردية كطبيعة ثانية مرتبطة بالطبيعة الكلية ومنسجمة معها، وتاركة في نفس الوقت هامشا من الحرية لإرادة الإنسان، وفي ذلك قولهم: "لا ريب في أنه يتعين علينا ألا نأتي شيئا مخالفا للطبيعة الكلية، ولكن يبقى لزاما علينا، بعد امتثالنا للطبيعة الكلية، أن نتبع طبيعتنا الخاصة، وحتى لو وقعنا لدى غيرنا على ما هو أفضل، فحتما علينا أن نقيس إرادتنا بضبطها وفق طبيعتنا الخاصة". وهذا هو التعبير عن الحرية الرواقية المرتبطة بالشعور الديني والخاضعة لسلطة العقل، بحيث أن العلاقة بالله يميزها الالتزام بما قرره الله، والمتجلي في كل شيء، وليس الطاعة من أجل الطاعة. وخلاصة ذلك هو أن الرواقية عمل بمبادئ أخلاقية مستوحاة من ثالوث هو: الله، الطبيعة، العقل. القانون الروماني والرواقية اشتملت تأليف شيشرون الروماني المتأثرة بالمذهب الرواقي على كثير من الإحالات والنصوص الرواقية في قضايا متعددة، وخاصة تلك المتعلقة بالقانون الطبيعي، يقول شيشرون في أحد مؤلفاته بهذا الصدد: "هناك قانون حق، إنه العقل المستقيم الذي تصدر عنه أوامر مطابقة لهذا القانون الحق، والتي تدفعنا بإلحاح إلى القيام بواجباتنا، وتمنعها من اللجوء إلى الغش وتصرف أنظارنا عنه... إن هذا القانون الصادر عن العقل في مرتبة أعلى من السلطة". كما أن الفقيه الروماني المشهور أولمبيان، والذي يعود له الفضل في جمع نصوص القانون الروماني لتكون أساسا لمدونة جستينيان، لم يتردد في اعتماد التعريف الرواقي للعدالة، وهو: "الرغبة الدائمة والثابتة في إعطاء كل ذي حق حقه". إلا أن هناك من مؤرخي القانون الروماني من ينكرون أي تأثير للفلسفة الرواقية على الفكر القانوني الروماني، اعتقادا منهم بأن هذا القانون تبلور عمليا في استقلالية شبه تامة عن الدين والأخلاق، وحتى بالنسبة لسيادة الدولة يبدو أن أسس القانون الروماني كانت تتميز باستقلاليتها عنها. وهناك من يرى أن فكرة القانون الطبيعي نفسها، كما تطورت في العصر الروماني كان مصدرها رومانيا محضا. والواقع أن هذه مجرد إشكالات مدرسية، لأن الرواقية تسربت بالفعل إلى أصناف كثيرة من الفكر النظري والعلمي على حد سواء، وكانت بحق مصدرا بادر الرومان إلى امتتاح تعاليمه ولو نسبيا. لقد كانت نظاما أخلاقيا تربويا وفلسفيا متكاملا، هدفها مكافحة الرذائل وفعل الخير مهما صعبت ظروف الحياة، يجسد ذلك قول التاجر الذي اعتنق الرواقية عندما أفلس، مصرحا: "الآن وقد أصبحت بدون عمل، فإني سأهتم بعمل الخير". وفي نظر الرواقيين أن المجتمعات البشرية لا تمتاز عن المجتمعات الحيوانية بروابط العقل واللغة فقط، بل كذلك بمقاومة اللذة. ومن النصائح الرواقية في تهذيب النفس والسمو بها إلى عالم الفضيلة، مساءلة المرء نفسه كل مساء قبل النوم: "أي داء شفيت اليوم؟ أي رذيلة قاومت؟ بما أنا اليوم أفضل مني بالأمس؟" إنها أسئلة موجهة للإنسانية في كل العصور... *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]