غذ ّى حركات التحرير في كل القرون التاريخ له شأن في الحياة عظيم. والتاريخ قد يكون بالأمس القريب، وقد يكون بالأمس البعيد، وهو يتسلسل على الأيام، ويزيد الإنسان فهما للأحداث، وللأشخاص، وحتى للفكر والعادات، إذا هو أخذ يتفهمها بأن يسايرها من حيث بدأت إلى حيث انتهت. ولكن كيف تكون حالة من العيش، بين قوم كانوا ما كانوا، دون نظام يسودها؟ ودون قانون يقودها ؟ قالوا : إن النظام غير الحكومة، والنظام قد يسود الأسرة في بيتها وليس فيها من رجال الشرطة أحد. أما القانون، فقالوا إنه كان القانون غير المكتوب، وسموه "قانون الطبيعة" Natural Law. أما الرواقيون، فقبيل من فلاسفة اليونان اعتنقوا فلسفة وضع أسسها الفيلسوف اليوناني زينون، ولد في جزيرة قبرص، وتعلم في أثينا، وعلم فيها مدة طويلة وسميت فلسفته بالرواقية Stoicism لأنه بدأ يدرس أصولها لتلاميذه تحت رواق Stoic في أثينا والرواق سقف في مقدم البيت. واشتهرت الرواقية بنظرات في الخلق والخالق. فحياة الرجل الفرد عندهم ليس فيها من الخير غير الفضيلة. ولا قيمة للصحة، ولا للسعادة، ولا لما يمتلك الإنسان إلى جانب الفضيلة. وبما أن الفضيلة مقرها في الإنسان إرادة، فكل شيء يُحمد أو يذم في الإنسان إنما يتوقف على نفسه هو. وقد يكون من أهل الفقر، ومع هذا يظل بالفضيلة ذا فضل. وقد يودعه الحاكم الظالم السجن، ومع هذا يظل يحافظ على العيش في انسجام مع الطبيعة. وقد يحكم عليه بالموت، ومع هذا يتقدم إلى الموت مرفوع الرأس، بمثل ما مات "سقراط" وغيره... ودخلت الرواقية روما، ومازجت المسيحية دهرا. مازجتها بعض وجوهها. وبقي تأثيرها، كما ذكر العارفون، يعمل حتى وصل إلى شكسبير الإنجليزي، وكورني Corneille الفرنسي، وشلر Schiler وكانط Kant الألماني. وقامت الثورة الفرنسية فوجدت الرواقية، أو وجد بعض ما اعتنقت من الآراء، وجد سبيله إلى بعض رجال هذه الثورة. والذي يهمنا من أمر الرواقية هنا أنهم، في الفكر الإغريقي القديم، كانوا أول ما جاءوا "بالحالة الطبيعية" التي عاش عليها الناس، في سلام، قبل أن يكون حكم ويكون حكام، وجاءوا "بالقانون الطبيعي"، ذلك القانون غير المكتوب الذي ظلل أولئك الأقوام به في سعادة ووئام. قالوا، ونحن إنما نذكر ما قالوا: "إن الله ليس بالشيء الذي هو بمعزل عن الدنيا. إنه روح هذه الدنيا، كل منا به قبس من تلك الشعلة المباركة. وكل الأشياء إنما هي أجزاء من نظام واحد، ذلك النظام الذي أسميناه بالطبيعة. وكل حياة إنما تكون خيرا عندما تجري مع الطبيعة، في نَسق واحد، لأن إيجاد هذه الحياة إنما تم وفقا لقوانين الطبيعة". فالطبيعة كانت خيرة في إيجاد الإنسان، وهي كذلك خيرة بعد إيجاده. فالإنسان لا يحتاج للعيش في غبطة وراحة وعدل بين إخوانه إلا إلى أن يرد نفسه دائما إلى ما يعتمل في نفسه من قواعد الطبع الخيرة. ولقد قرأت لمن وصف هذا الحال الأول من الحكم بأنه "الفوضى الخيرة". لفهم العقل الإغريقي في الكثير من آرائه لابد أن ندرك أن المنطق الإغريقي كان من النوع الاستنتاجي الاستدلالي Deductive Logic. فهو يبدأ بأصول يراها ثابتة واضحة مستقرة كاستقرار الصخر في الأرض، لا تحتاج إلى برهان أو بيان، ثم هو يأخذ يبني عليها. إنه يبدأ بالفكرة يراها أصيلة الكِيان، وجذورها في الفطرة عميقة، وهي بعض الجِبلة وبعض الطبع والسليقة. وعلى هذه الفكرة يأخذ في البناء. ومن هذه الفطرة التي فطر الله عليها الناس: تلك التي أسماها الرواقيون "بالحالة الطبيعية" و"بالقانون الطبيعي". ومنها استخرجوا أشياء عن الحكم، من أولها تحرر الإنسان من الظلم، وأن الناس إنما خلقوا سواسية. ومساواة الناس في تلك العهود كانت على ما يظهر شيئا غير معهود، لاسيما في أثينا، وقد كانت موطن الأحرار وموطن العبيد. ومن الأغارقة انتقلت الرواقية إلى الرومان، وما قالت عن الحكم والحكام، وما استجدته من الحال الطبيعية للإنسان. ونراها فيما نرى، فيما كتبه الامبراطور ماركس أوريليوس فيما يختص بالحكم وحقوق الإنسان. تولى ماركس حكم الرومان من عام 161 بعد الميلاد إلى عام 180. ونشأ معتزلا حياة الترف. وقام على تعليمه مدرسون كُفاة، سقوه من الفلسفة، ومن الفكر الرواقي، الشيء الكثير. فلما تولى الحكم كان على غير ما عهد الناس في ذلك الزمان من حكام. وسود العقل، وسود الخير، وجاهد ليذهب عن الناس بالجهل الذي يقبع وراء الخوف والشهوة وصنوف المآسي والأحزان. وأحبه الناس، حتى المسيحيون من قومه، وقد وقف هو عند أبواب المسيحية يتنازعه الشك واليقين. وكتب، وهو في ساحة القتال، كتابه الشهير. إنها التأملات Meditations التي حوت من آرائه الشيء الكثير. وفي تأملاته ظهرت نزعته الرواقية خير ظهور، كما ظهرت في حياته، وفي سائر أعماله وتصرفاته. ووصف الدولة الحميدة في تأملاته بأنها الدولة التي يكون فيها القانون الواحد للجميع، وللجميع الحقوق المتساوية، وكذلك حرية القول، وبها الحكومة التي تحترم كل الحريات لكل المحكومين. وصف للدولة ما كان يمكن أن يتحقق في الامبراطورية الرومانية. وكان وصفا سابقا لزمانه، ومع هذا، قال المؤرخون انه كان له أثره الواضح في التقنين الوضعي، فارتفع بقيم النساء والأرقاء. إن القانون الطبيعي لم يمت أبدا. وجاءت النصرانية فدخلها. قال الكاتب الفيلسوف برتراند رسل Bertrand Russell، "ولكن بعد أن لبث ثوبها وتزيى بزيها". ولعل بقاءه، وحرص الناس على استبقائه، انه كان في تلك الأزمان لسانا للحرية عزيز المنال. قال اكويناس: كل قانون يصنعه الإنسان، لا يكون له من صفة القانون، إلا بالقدر الذي يستمده من قانون الطبيعة. فإذا هو تعارض معه في أي نقطة، لم تعد له صفة القانون. إنه إذن قانون زائف. اشتهرت الثورة الفرنسية بأنها الثورة الكبرى في العهود الحديثة لنيل الحرية. وهي بهذا غطت على ثورة سبقتها بنحو قرن كامل، تلك الثورة الإنجليزية، وهي الأخرى قامت في عام 1688م دفاعا عن الحرية، حرية الحكم، وسيادة الشعوب في أوطانها. وصف "لوك" الحال الطبيعية لبني الناس قال : "إن الناس تعيش فيها وفقا للعقل، وبدون رأس من فوقهم لأحد من أهل الأرض، إلا من سلطة تقضي بينهم عند الخصومات". فهو أدخل في الحال الطبيعية لبني الناس شيئين: العقل، وسلطة القضاء. وإن سكت الناس عن قانون الطبيعة، بحسبانه اسما يُذكر، فما سكتوا عما تضمنه من معاني للمساوات والحرية بحسبانهما شيئين لزما المجتمع الإنساني من يوم كان. فنرى أثر هذا القانون في الثورة الفرنسية، ونراه فيما تلاها من ثورات للسيادة القومية. وحقوق الإنسان التي نتحدث عنها اليوم ما كان لها في التاريخ من سند إلا هذا القانون، قانون الطبيعة، قانون المجتمع الأول. إن الإنسان يميل بفطرته المنطقية، أن يرد كل معتقد يعتقده إلى أصول عقلية مرضية. ولكن كثيرا ما تقوم فطرة الإنسان الساكتة الصامتة بالحكم الساكت الصامت الذي لا تسبقه حجة. ومع هذا يستقر في النفس مستقر الصخر في الرمل. أمور كثيرة تؤمن بها أوثق الإيمان ويعوزنا الدليل عليها. نحن نؤمن بأن الناس إخوة، ووجب أن يقوم بينهم التراحم. ولكن، ما دليلنا على أنهم اخوة، وانه وجب بينهم التراحم ؟ ونحن نؤمن بأن إعطاء الفقير من فضل ما عندنا خير. ولكن، ما الدليل على أن هذا خير، وأنت قد تحبس مالك عن الفقير فيكون فيه النفع لك ؟ ونحن نقول من الاثم أن يقتل الشبان الأشياخ إذا هم عجزوا عن عمل. ولكن ما دليلنا، وظاهر هذا العمل فيه كسب لقوم ؟ دليلنا في كل ذلك الفطرة. الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها. إنها فوق المنطق، وفوق الحجة، وفوق النقاش. وكذلك ما استنتجه الرواقيون واستنتجه من بعدهم الفلاسفة الآخرون، من حال للإنسان طبيعية زعموها، من حرية قامت فيهم، ومن مساواة تحققت بينهم، إنما دليلها جميعا ما في الفطرة الإنسانية من معان جميلة، طمسها بالوحل الزمان، وانتظر الناس الأجواء الماطرة التي تغسل عنها وحلها وتكشفها وتطهرها. ونحن في أحاديثنا الجارية كثيرا ما نذكر الطبع والطبيعة التماسا للحجج. يقول لك صديقك : إني استمعت اليوم لخطاب فلان فتأثرت حتى دمعت عيني. وتقول له: "هذا طبيعي". فأنت تريد أن تعزز ما وقع بأنه "طبيعي". ويقول لك صديقك: هل تحدث فلانا غدا فيما حدثتك فيه ؟ وتقول له: "بالطبع". تريد أن تؤمن على ما يطلب بأن تنسبه للطبع. والطبع والطبيعة سيان. بقي سؤال، نحن نعتمد على الطبيعة تبريرا لأمور. ولكن هل نحن راضون بكل ما تصنع الطبيعة. سؤال يخرج من اللسان ليقف عند الآذان حائرا مترددا. له لاشك جواب، ولكنه في حاجة إلى تدبير وتيسير. *--==*--==*--==--* والله الموفق 2014-12-19 محمد الشودري