نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/7 - بداية الحضارة الغربية تحت ردائها المسيحي ظهور المسيحية في بيئة غير يونانية ودخولها معترك الأفكار والمذاهب التي ميزت إقلاع الحضارة الغربية تحت الزعامة الرومانية، لا شك أنه كان حدثا تاريخيا بكل المفاهيم والمقاييس، بل يمكن القول إن انقلابا حضاريا طرأ على مسيرة الفكر الغربي الذي بدأت أسسه العقلانية تتراجع أمام تنامي قيم روحية تختلف شكلا ومضمونا مع المرجعية الهيلينية بشتى مكوناتها وتبايناتها. والسؤال الوجيه هو: ما مدى الانعكاسات الفعلية لهذا التحول في مسيرة الفكر هذه؟ موضوع من هذا الحجم لابد وأن تكون مناقشته قد تمت على أكثر من صعيد، ولكن بدون استخلاص لنتائج نهائية وحاسمة، نظرا لطبيعته البالغة التعقيد من جهة، ولكونه ربما لا يستدعي الحسم النهائي في مجال تكمن حيويته في انفتاحه المتواصل على مبدأ التساؤلات المتجددة. وعلى أي حال، فإن الأجوبة عن السؤال المطروح تعددت حسب خلفيات الجهات التي تقدمت بها. فهناك من يرى أنه لا أهمية لهذا الحدث على الإطلاق، لكن سرعان ما يتبين أن هذا الرد هو عبارة عن استراتيجية مبنية على احتمالين متعارضين: إما حفاظا على نقاوة المسيحية الإنجيلية وتعزيزا لفكرة الخلاص عن طريق المسيح، وإما ضمانا لاستقلالية النزعة العقلانية وتثبيتا لمشروعية استمراريتها. فالاحتمال الأول كان مطابقا لوجهة نظر المؤرخين البروتستانت الأوائل الذين كانوا يرون أن ما أضيف في القرون الخمسة الأولى على الإنجيل والقديس بول في مجال أصول العقيدة هو في الواقع مجرد إقحام، بل وإضافة خطيرة للعقلانية اليونانية. ويتجلى ذلك على وجه الخصوص في طبيعة "الكلمة" و"الثالوث". وأما الاحتمال الثاني فهو الذي قال به أصحاب نظرية التقدم التي تبلورت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، ومفاده أن الفكر الإنساني كان بالفعل دائما مرتبطا بالعلوم العقلية اليونانية بدون تأثير من المسيحية، ومنذ رياضيات بطولومى في القرن الثاني الميلادي إلى الثورة الكوبرنيكية في القرن الخامس عشر تمت هذه المسيرة العقلانية بمعزل عن الفكر المسيحي، وإذا كان هذا الأخير قد تدخل أكثر من مرة فإن ذلك لم يكن بهدف الدعم والمساندة وإنما بهدف العرقلة ليس إلا. وهناك من يرى أن المسيحية كانت بمثابة تصور جديد للكون وللعلاقات الاجتماعية، ومساهمة حقيقية في الفكر الإنساني. وتتجلى أصالتها في جانب لا يقبل الاختزال من الوجود، ويقصد بهذا الجانب كل ما يتعلق بالذات والقلب والعاطفة والوجدان. ويذهب هيجل على سبيل المثال إلى الإقرار بأن المثالية التي جعلت من الطبيعة الحميمة للذات مبدأ تطور لكل واقع ووجود ما كان لها أن تتطور لولا الحضارة المسيحية. وهذا لا يمنع من استدراك الإشارة إلى أن المسيحية في بداياتها لم تكن تأملية بتاتا، بل كانت تعبيرا عن مجهود تآزري وروحي أبان عنه معتنقوها بشكل مستميت طيلة أحقاب من الاضطهادات والانشقاقات. وأما البعد التأملي المتأخر، فلقد انضاف إليها نتيجة لاحتكاكها بالفكر اليوناني. لاسيما إذا علمنا بأن "الخطيئة" في منحاها التأملي كانت تبدو حاضرة بشكل من الأشكال في التصور الإغريقي قبل انتصار المسيحية وتطوير منهجها الفكري. وعلى مستوى آخر يبدو أن تيار العقلانية الهيلينية هو الذي أثر سلبا على انتشار المسيحية في القرون الأولى. فمثلا المذهب البيلاجي الانشقاقي كان متأثرا بالمدرسة الرواقية التي ترى أن أخطاء واستحقاقات الإنسان منوطة به هو نفسه وليس بغيره، لذلك كان بلاجيوس، مؤسس المذهب، يقول: "لو كانت خطيئة اَدم تضر حتى بأولئك الذين لا يقارفون الخطيئة، لتحتم أن يفيد عدل المسيح حتى أولئك الذين لا يؤمنون". ويوضح قائلا: "لا نستطيع أن نسلم بحال من الأحوال بأن الله الذي يغفر لنا خطايانا، يسند إلينا خطايا غيرنا". مواجهة بين المسيحية والفلسفة يستنتج مؤرخ الفلسفة، ايميل برييى، من تناوله لهذا الموضوع أن تطور الفكر الفلسفي لم يكن متأثرا بالمسيحية، ويذهب إلى أكثر من ذلك حيث يقول بعدم وجود فلسفة مسيحية. وهناك من المفكرين المسيحيين من يشددون على استحالة التوافق بين المسيحية والفلسفة اليونانية، ويتجلى التناقض بين هذين الاتجاهين على الخصوص في تعيينهما للألوهية نفس المنزلة التي تقتضي تراتب الوجود والموجودات. وللتذكير، فإنه بالنسبة لأفلاطون والرواقيين تشمل الماهية الإلهية ليس الله فقط بل حتى النفوس والعالم والكواكب باعتبارها كلها موجودات إلهية، بينما الألوهية المسيحية تقتصر تحديدا على الثالوث الأقدس وفي بعض الأحيان كانت المواجهة بين الفلسفة والدين تصل إلى حد الإنكار التام لأية علاقة. وكان ترتيليان، وهو من زعماء الكنيسة في الشمال الإفريقي الروماني في القرن الثالث الميلادي، ممن تحامل على الفكر الفلسفي اليوناني قاطبة، ولا يرى في اعتقاده أي ترابط ممكن بين أثينا وأورشليم، وكتب معبرا عن معارضته بلهجة لا تخلو من مبالغة: "إننا بريؤون من الذين ابتدعوا مسيحية رواقية أو أفلاطونية أو جدلية، بعد المسيح والإنجيل لسنا بحاجة إلى أي شيء". وهاجم الفلاسفة في أخلاقهم مدعيا أن خير ما في مذاهبهم يعود إلى التوراة، وأن البدع المسيحية والتيارات الانشقاقية سببها الوحيد هو الفلسفة عدوة الدين، وينعت أرسطو ب"الشقي". ويعيب ترتيليان على كل من اتخذ من الفكر الفلسفي منهجا. وابتكر هو شخصيا منهجا جديدا أسماه "استنطاق النفس"، وبالطبع يقصد النفس بمفهومها المسيحي التي تميل من صميمها إلى الدين وخاصة في أوقات الشدة، وهو منهج صار عليه كثير من المفكرين المسيحيين من بعده. واختصارا لكل هذا الجدال نطرح هذا السؤال: هل كانت المسيحية وبالا على تقدم الحضارة الغربية في نزعتها العقلانية، وبالتالي كارثة فكرية أجلت تقدم الإنسانية لقرون عديدة، أم على العكس من ذلك كانت بمثابة إضافة ثمينة إلى الزخم الفكري والتلاقح المنهجي الذي بفضله انقشعت أجزاء كبيرة من غيوم الجهل التي كانت تلف قطاعات واسعة من المجتمعات البشرية؟ الواقع أنه سؤال مركب تصعب الإجابة عنه بأسلوب اليقين. فمن الناحية التاريخية أكيد أن المسيحية أصبحت تدريجيا عنصر هوية لمجتمعات عريضة شرقا وغربا، تتقاسم الانتماء إلى قيم روحية مشتركة وتؤلف عالما مسيحيا بمده وجزره، مما شكل فرصا جديدة للتقارب والتفاعل بين مجتمعات هذا العالم الجديد وبقية المجتمعات غير المسيحية. أما من الناحية الثقافية والمعرفية فلقد تم ترسيخ مفهوم الدين كعقيدة ترتكز دائما على الإيمان في مقابل مفهوم الفلسفة كمنهج عقلي يركن غالبا إلى البرهان. وبالفعل جاءت عمليات الأخذ والرد بين المفهومين لتفتح آفاقا جديدة لإخصاب الفكر الإنساني عامة. وما كان لمسألة التركيز على العقل والإيمان أن تعرف تطورا ملحوظا لولا تلك النزعات والتساؤلات التي واكبت ظهور الفكر المسيحي في نمطه الحضاري الغربي، ومن البديهي أن ذلك من شأنه أن ينعكس سلبا أو إيجابا على مفهوم وممارسة حقوق الإنسان، فكلما حدث تغيير في مرجعية معينة إلا ونتج عنه بالضرورة إما تعديل جزئي وإما تحول كلي لمدلولاتها المفاهيمية وإجراءاتها العملية. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]