لقد كانت الفلسفة في العصر الوسيط تَهتمُّ بالعلاقة بين الفكر والإيمان، وفترةُ العصر الوسيط بدأت بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الرابع ميلادي. واستمرَّت هذه الفترة إلى حدود القرن الرابع عشر، إلى أنْ انتهت ببداية عصر النهضة في إيطاليا. لم تكن للعقل القدرة على الاشتغال خارج ميدان الدين في العصر الوسيط، لأنَّ الكنيسة قد هيمنت بشكلٍ كبير في هذه الفترة، وقد أدت سلطة الكنيسة إلى جعلِ الإيمان إيماناً ساذجاً أي خالياً من التعقُّل، كما يمكن القول أنَّ جل المَواضيع التي طُرِحت في ظلِّ هيمنة الكنيسة هي مواضيعٌ لاهوتية بالدرجة الأولى. وقد عرفت الفلسفة الغربية خصوصا (المسيحية) فلاسفة كِبار على رأسهم: القدِّيس "أوغسطين"، "توماس الأكويني"، "أنسليم". كيف ساهمت الفلسفة الغربية في تطوير الديانة المسيحية؟ وهل كان القديس أوغسطين هو القفزة النوعية في تطور الفلسفة الغربية؟ إنَّ أوروبا في العصر الوسيط عانَت كثيراً من الهيمنة والسلطة القاهرة التي فرضتها الكنيسة، فالباباوات اعتبروا أنفسهم وسطاء بين البَشر والإله، إلى أنْ جاء الإصلاح الديني ونزعَ طابع القداسة من الكنيسة لتُصبحَ العلاقة بين الإله علاقة فردية وشخصية دون الحاجة لأي وسيط. إنَّ الفلسفة الوسطوية على نمطٍ من التفكير الفلسفي الذي انبثق في الربع الأول من القرن الثالث عشر مع ولادة الجامِعات وظهورِ نوعٍ من المُثقفين اللاهوتيين، فكانت هذه الفترة هي فترة انعطاف الفكر الوسطوي مع ازدهار الجامعات. بعدها ستتمُّ مُراقبةُ بعض الجامعات كجامعة (بولوني، باريس، ….)، هذه المراقبة كانت من طرفِ بعض الملوك، إلى أنْ قرَّر البابا "إنانوست الثالث" الشروع في تدريسِ فلسفة أرسطو، هنا حدث تحولٌ كبير في الفِكر الأوروبي في تلك الفترة. في عصرِ القدِّيس "أوغسطين" نجدُ التماهي (تقليد الأعمى) مجسَّداً، مثلاً الحضور الفِعلي للمسيح والقربان المُقدَّس كتحول الجوهر (الخبز يتحول إلى لحم). لقد رفض "بيرونجي" وبشدة مسألة تحول الخبز إلى لحم، وتحول الدم إلى خمر عند المسيح، لكون هذا التحول غير عقلي بل هو وثني. المقصودُ هنا بالجوهر هو كلُّ ما يتقوَّمُ به الشيء، وهناك جوهرٌ آخر هو المادة بلا صورة. إنَّ عقيدة تحول الجوهر قادت إلى طرح سؤال حول إمكانية التمييز بين الحَقيقة والمظهر، فتحول الدم إلى خمر ضربٌ من الجنون، لذلك يجبُ إخضاع الحقيقة باعتبارها معيار للتمييز بين الخطأ والصواب. للحديثِ عن نماذج من فلاسفة العصر الوسيط، لابُّد أنْ نقِفَ عند القدِّيس "أوغسطين" (430-350) المُنحدر من شمالِ إفريقيا. إنَّ "أوغسطين" قد كان من عصر الآباء، لكن فكرهُ هيمنَ بشكل كبير في العصر الوسيط لأنَّه هو الذي وضعَ أسس العلاقة بين الدولة والكَنيسة، كما وَضَعَ أيضاً الإطار اللاَّهوتي للكاثوليكية. لقد طَرَحَ القدِّيس "أوغسطين" سؤالاً شائكاً: "ما هو أصل الشر؟". هذا السؤال تشبَّع به "أوغسطين" عندما كان تحت تأثير الديانة المانوية، وهذه الأخيرة هي ديانةٌ ثنائية (إله النور، إله الظلام). ومن أجل الإجابة عن ذلك السؤال الجوهري، اتجه إلى الكتب المُقدَّسة فَلَمْ يجد فيها شيئاً، ثم انتقل إلى المانوية مرةً أخرى التي كانت تؤمنُ باللذة الحِسية فَلَمْ يجد فيها شيئاً، لينصرفَ إلى الرياضيات التي وجدَ فيها حقائق يقينية؛ ليشكَّ بعد ذلك في الديانة المانوية ولكنه لم يستَطِع أنْ يشك في المسيحية. فاستخدم الحدس والوجدان من أجل الوصول إلى المعرفة. لقد شكَّ القديس "أوغسطين" في التجربة الحسية، وهذا الشك دفعهُ إلى اعتماد الحدس كطريق للوصول إلى المَعرفة، فأصبحَ يؤمنُ بالحقائق الدينية التي كانَ يرفضُها عندما كان مُتأثراً بالمانوية. لقد ظهرت الفلسفة اليونانية متمركزةً حول العقل، في حين أنَّ المسيحية قد ظهرت كمذهب للحب والخَلاص والخطيئة، وكانت لأوغسطين فكرة عن الكنيسة الأبدية (المسيحُ في القلب)، هذه الفكرة جعلتهُ يعتبرُ أنَّ الخطيئة مُتعلقة بالفرد وليست متعلِّقة بالكنيسة، لأنَّ الكنيسة هي التي تُحققُ الخلاص، فالخلاص لا يتحققُ بالشعائر الدينية بل الله هو الذي يحققُ الخلاص للفرد عندما يُخطئ. يؤكدُ "أوغسطين" أنَّ الخلاص يتمُّ بحبِّ المسيح، أي عندما يكون المسيح في قلبِ المؤمن، أمَّا رأي "جيلاجيوس" الذي رفضَ فكرة الخَطيئة الأصلية فقد اعتبر "أوغسطين" هذه الفِكرة مُجرَّد هرطقة. إنَّ اللغة عند أوغسطين في "مُحاورة المعلم" هي عاجزةٌ عن بلوغِ الحقيقة، وقد استبدل اللغة بمنهجٍ حدسي وهو بمثابةِ نورٍ إلهي يؤدي إلى المعرفة المُباشرة للحقائق. إنَّ المعرفة المُباشرة هي لغةٌ جديدة واستشراقية بها نرى الإله في الأشياء والموجودات. لقد تم طرحُ سؤال فلسفي جديد: هل أؤمن ثم أفهم، أم العكس؟ أجاب القديس "أوغسطين" قائلاً: إذا لم تكن تعتقِد، فإنَّك لن تفهم". ثم قال مُعلِّقاً: افهم كي تعتقِد، واعتقد كي تفهم". الحالة الأولى يكون الاعتقاد ضرورياً لفهم حقائق الدين باعتبارها حقائق مُقدَّسة، أمَّا الحالة الثانية فإننا أمامَ حالة هيرمونطيقية يتبادلُ الفهمُ والاعتقاد دوراً ربما نكونُ أمام فهمٍ إيمانيٍّ واعتقادٍ معقول. الإيمانُ حسب أوغسطين لا يُلغي العقل ولا يمنعهُ من الفحصِ ضمن دائرتهِ مادامَ الاعتقادُ إيماناً يوجدُ في العقل، وهناك حقائق إيمانية مقبولة عقلاً، وأخرى غير مَقبولة، ومن تمَّ فإنَّ القول "أفهمُ كي أتعقَّل" معناهُ إخضاع حقائق إيمانية لميزانِ العقل. لقد ساهمت الفلسفة الغربية بشكلٍ أو بآخر في تطويرِ الديانة المسيحية، كما لعِبَ القديس "أوغسطين" دوراً هاماً في تطور الفكر الأوروبي، فأوغسطين يمثلُ البداية والنُّضج الفِعلي للفلسفة الغربية، إلى أنْ جاء المُخضرم الآخر "توماس الأكويني" المتأثرِ بأرسطو، فأصبحت الفلسفة الغربية تعيشُ على عتبةِ الاكتمال الفِعلي. هؤلاء المفكرون (أوغسطين، أنسليم، توماس الأكويني، أومبرواز …) ساهموا كثيراً في خروجِ العقل الأوروبي من قوقعة الدين والكنيسة، فتمَّ فتحُ حدودٍ جديدة للفكر.