اعتبر من سموا أنفسهم "الهيئة العليا لرابطة علماء المسلمين"، في بيانهم الصادر الأحد 24 / رجب / 1440 ه، الموافق ل 31 مارس 2019، "أن ما جرى في حفل استقبال بابا الفاتيكان بمعهد الأئمة بالمغرب من التلفيق بين الأذان الذي هو شعار الإسلام ودثاره، وعنوان التوحيد وبيانه؛ مع قُدَّاسِ النصارى وترانيم اليهود القائمة على معاني الشرك والوثنية؛ لمنكر من القول وزور؛ لا يجوز السكوت عليه من قبل أهل العلم أو إقراره". ووضحوا في بيانهم ثلاثة أمور سموها "حقائق": أولاً: إن ذلكم الذي وقع من التلفيق بين الأذان وشعائر الكفر "لأمرٌ محرمٌ شرعاً، بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع. بل هو تكذيب للقرآن والسنة في بطلان تلك الأديان، وحصرِ الحق والنجاة في الآخرة في (الإسلام)". ثانياً: يعد هذا الحدث الخطير ضرباً لثوابت الأمة في دينها وعقيدتها، بخلاف ما يظنه بعضهم أنه من قبيل نشر ثقافة التسامح والتقارب بين الأديان. ولا يُعد هذا من حوار أهل الكتاب الذي أمِرْنا به لأن الأصل الشرعي في الحوار مع أهل الأديان هو الدعوةُ إلى الله وبيانُ الحق وردُ الباطل بالأدلة الصحيحة. ثالثاً: "ندعو المجلس العلمي الأعلى ووزارة الأوقاف بالمغرب إلى تحمل مسؤوليتهم في بيان الحق ودعوة الخلق". يُعد هذا الإعلان من البيانات الخطيرة المعاصرة، التي صدرت عن هيئة دينية إسلامية عالمية، تدعي الاعتدال والوسطية في تمثيل علماء المسلمين وعامتهم. فزيادة على التسرع في كتابته، ولست أدري من تولى كبر تحريره، فهو ينزع نزعة طهرانية تفضيلية، ويحمل نفحة سلفية عنصرية متطرفة، تبطل جميع الأديان غير الإسلام، وتحصر الحق في الإسلام المحمدي دون ما عداه، وتجعل الجنة والنجاة في الآخرة للمسلمين دون غيرهم؛ مخالفة بذلك للنصوص القرآنية المؤسسة نفسها. إضافة إلى دعوة البيان التحريضية الواضحة ضد من يخالفون هذه الجهة رأيها، ويظنون أن ما جرى في لقاء جلالة الملك مع قداسة البابا، في معهد الأئمة، هو "من قبيل نشر ثقافة التسامح والتقارب بين الأديان. ولا يُعدُّ هذا من حوار أهل الكتاب الذي أمِرْنا به". وضدّ المؤسسة الملكية وأنشطتها، باعتبار ما جرى "منكرا من القول وزورا، لا يجوز السكوت عنه". إضافة إلى تحميل المجلس الأعلى ووزارة الأوقاف بالمغرب، طبعا في شخص علمائها، مسؤوليتهم في دعوة الخلق وبيان الحق في هذا الأمر. جميل أن تكون لدينا الجرأة لقول الحق وعدم الخوف في الله لومة لائم. لكنني أرى أن هذا البيان يحمل في ثناياه كثيرا من المسبقات غير العلمية، والمخالفة للحق والدين، ولسياسة البلد وملكها، الحكيمة والمنفتحة على الأديان بالحق. ونخشى أن يدخل هذا البيان فيما سماه صاحب الجلالة في خطابه أمام قداسة البابا ب"تحديات من نوع جديد"، حيث قال: "يواجه المجتمع الدولي، كما جميع المؤمنين، تحديات كثيرة. وهي تحديات من نوع جديد، تستمد خطورتها من خيانة الرسالة الإلهية وتحريفها واستغلالها، وذلك من خلال الانسياق وراء سياسة رفض الآخر، فضلا عن أطروحات دنيئة أخرى". إننا نعتقد أن بيان التنديد هذا هو أول تجل للتحديات المذكورة، بعد الخطاب الملكي، منساق وراء سياسة رفض الآخر وما يوازيها من أطروحات إقصائية دنيئة؛ جعلت المسلمين أولياء لله من دون الناس، وأصحاب الحق من دون العالمين، ولن يدخل الجنة إلا من كان منهم. وبالتأكيد فإن من كانت هذه خلفيته، ولو كان عالما، سيخون الرسالة الإلهية ويحرِّفها، ويستغلها لمصلحة من يرى أنهم أصحاب الحق وأصحاب الجنة من قومه، كما هي أمانيه. ولمناقشة ما ورد في البيان نقول وبالله التوفيق: التهليل الوارد في الاحتفال ليس أذانا، وإنما هو تغنٍّ بالشهادين، وهو أمر قائم في كثير من المناسبات الدينية والاجتماعية وغيرها، ومنه التغني بالصلاة على النبي في أعراسنا وأفراحنا ومناسباتنا المختلفة، وخلطه بالزغاريد وقراءة القرآن والأناشيد والأمداح والأدعية. وأما الأذان بشعيرة الصلاة فله صيغته الخاصة، ومنها الدعوة إلى الصلاة والفلاح، ولم يوجد في التهليل المذكور شيء من ذلك، ولا ظنّ أحد من الحضور الكريم أن المغني في الحفل كان يدعوهم إلى إقامة الصلاة. ومن ثَم فلا وجود لشيء اسمه شعيرة الأذان في هذا اللقاء، وبالتالي ليس هناك تلفيق بين الأذان وغيره. أما الأمر العجيب حقا فهو وصف ما جرى في اللقاء ب"شعائر الكفر"، على اعتبار أن " قُدَّاس النصارى وترانيم اليهود قائمة على معاني الشرك والوثنية". واحتجاجهم إنما هو على التلفيق بين ما سموه "شعيرة الأذان" و"شعائر الكفر" هذه. ويبدو أن السادة العلماء المنتدبين الذين كتبوا وثيقة الإدانة كانوا واهمين ومخطئين من وجوه: أحدها أن الحفل لم يكن أداء لشعائر دينية، سواء بالنسبة للمسلمين أو النصارى أو اليهود؛ ولكنه احتفال واستقبال رسمي، عبّر فيه المستقبلون باستحضار أمور دينية من الديانات الثلاث، تعبيرا عن التعايش والتثاقف والإخاء والمحبة والسلام، وهي التي ميزت هذا اللقاء؛ شأنهم في ذلك شأن أغلب الاحتفالات والأفراح عند جميع الأمم. ثانيها أن شعائر النصارى أو اليهود الدينية لم يسمها الله ولا رسوله ب"شعائر الكفر"؛ وإنما هي شعائر الإيمان والتقوى والذكر والصلاة. وفي ذلك يقول تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 40). ففي الصوامع أيضا يذكر الله كثيرا، ولذلك أذن أن ترفع ولا تهدم، إنها البُيُوتُ التي "أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (النور: 36-37). أما المشكلة الثالثة فهي خلفية البيان التي تعتبر أن شعائر النصارى واليهود شعائر كفر. وهو ما يحكم عليهم أنفسهم بالكفر. ولذلك فإن علماءنا لم يروا في السيد البابا ودينه وشعائره وكل ما يقوم به إلا علامة كفر. كيف إذن سيكون بناءً على هذه الرؤية التكفيرية ثقة للحوار والتواصل بين مؤمنين، وبناء جسور التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الاثم والعدوان؟ أين وجد أصحابنا شعائر الكفر في هذا الحفل؟ حتى ولو اعتبرنا التهليل الإسلامي بالشهادتين والمزمور اليهودي والترتيل المسيحي شعائر؟ والواقع أنها كانت مجرد احتفال وموسيقى دينية، لم يقصد فيها أي أحد إقامة شعيرة. ولم يكن في نص الدعاء الذي تقدمت به السيدة اليهودية ولا الترتيل الذي صدحت به السيدة المسيحية عن مريم العذراء أي شرك أو كفر. وإنما كانت كلها تمجيدا لله وأنبيائه ومريم الصديقة، وكذلك التهليل الإسلامي بالشهادتين، ففيه شهادة بوحدانية الله من غير شريك، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وهذه هي الإضافة التي حملتها اللوحة الجميلة البديعة، ولم ينتبه إليها العلماء. لست أدري من أين أتى السادة العلماء ب"شعائر الكفر"، التي نعتوا بها هذا اللقاء العظيم. وإن نعتهم هذا يعد من التكفير القبيح لضيف جلالة الملك، وباقي الضيوف الكرام؛ كما يعد تكفيرا للساهرين على النشاط الملكي والمنظمين له، وكذلك باقي المشاركين. ولعل قولهم هذا يكشف لنا حقيقة المشكلة، وهي كون علمائنا لم يرقوا بعد إلى مستوى الانفتاح والإنسانية الذي يتحدث عنه ملك البلاد وأمير المؤمنين. فهم لا يرون في الإنسان المسيحي واليهودي إلا كافرا، والحوار معه في أحسن أحواله إنما هو دعوة له للرجوع إلى الله والدخول في الإسلام. ثم أدرج البيان أمثلة لا علاقة لها بما جرى في لقاء الملك والبابا؛ يقول: "ومثله الدعوة الى إقامة الصلوات المشتركة في أماكن العبادة لمختلف الأديان؛ سواءً بابتداع صلاة يشترك فيها الجميع، أو بأن يصلي كل واحد صلاة الآخر وغيرها من الشعائر التعبديّة". يعد هذا القول بمثابة اقحام لا محل له في البيان، إذ أن النشاط الملكي الذي وسمه البيان ب"شعائر الكفر"، لم تكن فيه صلاة مشتركة ولا تبادل الصلوات، ولا إقامة الشعائر، لا إسلامية ولا مسيحية ولا يهودية ولا مشتركة؛ وإنما كان عبارة عن احتفال إنساني ولوحة إبداعية استوحت من الديانات الثلاث أجمل ما فيها، لتقرب الأديان بعضها من بعض، وتزيل عن القلوب بعض غشاوات الشنآن والكراهية التي رانت عليها منذ قرون، فحقق المنظمون بذلك بعض ما ورد في قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 64). ثم خرج البيان بفتوى تحريم ما جرى؛ قال: "لأمرٌ محرمٌ شرعاً". والملاحظ أن فتوى التحريم التي أصدرتها الهيئة غير مؤسسة علميا ولا شرعيا، وشعائر الكفر التي يتحدثون عنها لا وجود لها، ومفهوم الأذان الشرعي كذلك لا وجود له. أما إن كان السبب هو حرمة الموسيقى عندهم والغناء والتبرج وما ذكروه في تدويناتهم، فهذه أمور لا دخل لها في حرمة النشاط والاحتفال الملكي بمناسبة زيارة البابا أو حليته، لأن الناس يلبسون ما يروق لهم في هذه المناسبات ويتصرفون وفق أعرافهم الخاصة والعامة، ولن يستطيع المنظمون أن يفرضوا عليهم شيئا في لباسهم أو سلوكهم؛ وليس من حق لهؤلاء المفتين أن يصدروا بيانات إدانة وفتاوى تحريم، لأمر ما، بناء على سلوكات وأعراف تعم بها البلوى، وإلا فعلينا تحريم كل الحياة الاجتماعية والدنيوية التي نعيشها، سواء أحضر البابا ومن معه أو غابوا؟ كما علينا أن ننصب هيئة العلماء المسلمين هذه، لتحديد حلّية الأنشطة التي يقوم بها الناس وحرمتها، انطلاقا من مذهب فقهي لشخص منهم أو جماعة. بما في ذلك ما يقوم به أمير المؤمنين نصره الله؟! استند البيان في تحريمه إلى ما سماه أدلة التشريع؛ قال: "بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع". الحرمة إذن، حسب البيان، قائمة بالقرآن والسنة والإجماع، لكن أصحابنا لم يوردوا لنا هذه الأدلة في بيانهم. أي قرآن يقول إن التغني بالشهادتين إذا رافقته أدعية من المزمور وتراتيل من الإنجيل تتحدث عن العذراء، وخلفية موسيقية، يُعدُّ شركا أو شعائر كفر، ويعتبر حراما؟ في أية سورة أو حديث أو رأي جاء هذا؟ وكيف يكون هناك إجماع على أمر ليس فيه نص مؤسس؟. ثم استدرك البيان ليقول: "بل هو تكذيب للقرآن والسنة في بطلان تلك الأديان، وحصرِ الحق والنجاة في الآخرة في (الإسلام)": ولعل هذا هو بيت القصيد الذي بنى عليه المنددون تنديدهم. فهم ينسبون إلى القرآن والسنة إبطال الأديان الأخرى، وحصرِ الحق والنجاة في الآخرة في (الإسلام). وينسبون إلى ما جرى في حفل استقبال البابا تكذيب القرآن والسنة في هذين الأمرين. وسؤالنا إلى السادة العلماء هو: أين أبطل القرآن الأديان الأخرى؟ وكذلك السنة؟ ومتى حُصر الحق فيما عند المسلمين، ومن جعلهم أصحاب النجاة في الآخرة دون غيرهم؟ (يمكن الرجوع إلى مقالاتنا في هذه المواضيع على صفحات هسبريس؛ منها "أماني" و"المغضوب عليهم والضالون ليسوا اليهود والنصارى" و"مفهوم الإسلام")، وغيرها للجواب عن هذا السؤال. ومهما كان جوابهم، فإن القرآن الكريم جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومصدقا للأنبياء الذين جاؤوا بالكتب؛ ومؤكدا أن المؤمن الحق هو الذي يؤمن بجميع الكتب والرسل من غير تفريق بينهم. وهذا التصديق معناه الاعتراف بأن هذه الأديان غير باطلة، ولذلك صدّق الله ما فيها؛ بقرآنه الكريم ورسوله الخاتم، وتحدث سبحانه عن كتبها باعتبارها منزلة من عند الله بالحق والهدى والنور والرحمة، وطلب من أهل الكتاب أن يقيموا ما فيها، فإذا فعلوا نالوا الأجرين؛ وكانوا على الصراط المستقيم. قال تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (آل عمران: 68-69)". والملاحظ أن الآية الكريمة نصت في خاتمتها على كون اليهود والنصارى والصابئين وكذلك المؤمنين، من آمن منهم بالله واليوم الآخر، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومعناه أنهم من الناجين يوم القيامة، وهو يفيد بأن الحق ليس حصرا في المسلمين، وأن الجنة ليست خالصة لهم من دون الناس. وبذلك يبطل الأساس العقدي المسبق الذي انطلق منه البيان. وقد ردّ القرآن الكريم على مثل هذا الادعاء بالنسبة لأهل الأديان جميعا، عندما قال سبحانه في سورة النساء: " لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)". والملاحظ أن القرآن قد بين بشكل متساو أن الجزاء في الآخرة غير مربوط بأماني المسلمين ولا بأماني أهل الكتاب، وإنما هو جزاء على أعمال الناس في هذه الدنيا وإيمانهم فيها، كانت سيئة أم حسنة" "من يعمل سوءا يجز به" و"من يعمل من الصالحات من ذكر وأنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا". وعليه يبطل ادعاؤهم بأن حدث الاحتفال يُكذِب ما جاء في القرآن والسنة من بطلان الأديان، وحصر الحق والنجاة في الآخرة في الإسلام. ويبطل ادعاءهم نسبة هذا الإبطال إلى القرآن والسنة. كما يثبت أنهم جهلة بالدين وقرآنه، وأنهم يفترون على الله الكذب وعلى رسوله، ويحرِّفون دينه وكتابه. وبالتالي فلا يحق لهم تمثيل هذا الإسلام الحكيم الرحيم، والتحدث باسمه وباسم علمائه، وهم يتقولون على الله ويحرفون كلمه عن مواضعه، وينسبون إليه ما ليس فيه. لم يورد أصحاب البيان إلا ما اعتبروه دليلا من القرآن، وهو آية الإسلام، قال تعالى: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران: 85). ويقول تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ" (آل عمران: 19). ودون أن نطيل في مناقشة معنى الإسلام، الذي خصصنا له مقالا منذ سنين، على صفحات هسبريس، وسمناه ب"مفهوم الإسلام"؛ وخلاصته أن مفهوم الإسلام شامل لكل المبادئ والقيم العظيمة التي جاء بها الأنبياء جميعا وذُكرت في الكتب المقدسة، ومفادها إسلام الوجه لرب العالمين. قال تعالى: "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد" (20). وهذا الإسلام هو الذي جاء به الرسل والأنبياء جميعا، يصدق بعضهم بعضا، ويكمل بعضهم بعضا؛ إلى أن ختم الله الدين برسالة النبي الخاتم المرسل رحمة للعالمين، قال تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". وقد ذكر القرآن أن هذا الإسلام دين الأنبياء السابقين جميعا ودين أتباعهم، في غير ما آية؛ منها: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج: 78)". وأما ما اعتبروه دليلا من السنة فهو حديث جاء فيه: "كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل". وهو حديث ينتمي إلى ثقافة بلاد الحرب وبلاد الإسلام، والأرض المباحة هي وأهلها، والأرض المحرمة هي وأهلها وأموالهم ودماؤهم. فمن شهد بشهادة الإيمان وكفر بما يعبد من دون الله، فهؤلاء يُحرَّم مالُهم ودمُهم وحسابهم على الله. ونريد أن نسأل هؤلاء العلماء عن الآخرين الذين قصَّروا في هذا الأمر، ما حكمهم؟ إن لم يكونوا ضمن المُحرَّمة أموالُهم ودماؤُهم فأين يكونون؟ أليس مفهوم المخالفة في هذا الحديث يؤدي بنا إلى تجريد المخالفين غير المؤمنين من حق الحياة الطبيعي الإنساني، وحق الملكية الطبيعي الإنساني؟ هل هؤلاء الذين هم في دار الإسلام أو في "دار الكفر" مستباحة أموالهم ودماؤهم، وحسابهم بدل أن يكون على الله يوكل به غيره؟ إن هذا الحديث الذي استشهد به هؤلاء العلماء "المعاصرون" في هذا البيان هو فتح لباب استباحة أموال الناس ودمائهم من طرف المتطرفين، الذين خرجوا على شعوبهم ومجتمعاتهم بالقتل والسرقة والعدوان، باسم الله الذي أباح لهم ما يقومون به. وعليه نعتقد أن السادة العلماء في هذه الهيئة ينتمون إلى تاريخ مضى، بتراث ومصادر انتهت صلاحيتها، وليس لتمثيلهم لعالمنا الإسلامي المعاصر أي معنى؟ لم يصدر هذا البيان من "هؤلاء العلماء" إلا بسبب موقف مخالف ل "آخرين" مخالفين لهم يظنون أن هذا "من قبيل نشر ثقافة التسامح والتقارب بين الأديان." بينما لا يرى أصحاب البيان ذلك، إذ "لا يعد هذا من حوار أهل الكتاب الذي أمِرْنا به لأن الأصل الشرعي في الحوار مع أهل الأديان هو الدعوةُ إلى الله وبيانُ الحق وردُ الباطل بالأدلة الصحيحة". والملاحظ أنه موقف رافض لموقف الآخرين الناشرين لثقافة "التسامح والتقارب بين الأديان". وانطلاقا من موقفهم هذا نسألهم عن مكمن الخطورة الذي قالوا عنه: "يعد هذا الحدث الخطير ضرباً لثوابت الأمة في دينها وعقيدتها"؟ ونسألهم عن مخالفيهم وما ينشرونه، هل هم من يقوم ب"ضرب ثوابت الأمة في دينها وعقيدتها"؟ هل هو اتهام للمخالفين في الرؤية والمنهج و"الظن"، بكونهم أعداء هذه الأمة وأعداء دينها وعقيدتها؟ ما داموا يضربون في كل ذلك، ومنهم جلالة الملك أمير المؤمنين الداعي إلى هذا اللقاء؟ وجميع الكتاب والمفكرين الأحرار، المنتمين والمستقلين، المخالفين لهم في رأيهم؟ أما اعتبارهم أن الأصل الشرعي في الحوار هو الدعوة إلى الله وبيان الحق ورد الباطل بالأدلة الصحيحة، فكله مرتبط بعقدة امتلاك الحقيقة المطلقة، وتمثيل الله في الأرض، والتحدث باسمه إلى العباد، لإخراجهم مما هم فيه من جهل وضلال مقابل ضلال المخالفين وجهلهم وبطلان ما عندهم. والحوار إنما هو لنقل هؤلاء المخالفين من الظلام والضلال والباطل الذي هم فيه، إلى النور والهدى والحق الذي يعيش فيه السادة الكرام البررة؟ وتلك هي آفة الآفات مع حراس الدين وحماة العقيدة المنددين بالحفل الملكي لاستقبال قداسة البابا. وأخيرا فإننا لا نرى في وثيقة هذا البيان إلا مظهرا من مظاهر التطرف والتشدد ونشر روح الصراع والكراهية والتحريض على العنف والاضطرابات، خصوصا لصدورها ممن يُعتبرون عند عامة الناس وجمهورهم الأعلم بالدين. ولا نرى فيها إلا عرقلة أمام نشر ثقافة التسامح والتعايش والمحبة والخير والرحمة والسلام والتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، واستثمار ما أسسته الأديان، والذي ينبغي أن يكون هو رسالة عالِم الدين إلى الناس اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، المأمور بأن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن، أو لا يجادلهم البتة، قال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن". واقتداء به عليه الصلاة والسلام باعتباره الأسوة الحسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".