القرآن منظومة متكاملة تكفل الله بحفظه لفظا ورسما ولا تكتمل دلالة الكلمة القرآنية إلا باستقراء الآيات القرآنية المتضمنة لتلك الكلمة . قال الله تعالى: « .. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» (2). فرسم القرآن توقيفي من عند الله وليس اصطلاحيا من عند كتبة الوحي: انظروا إن شئتم رسم بعض الألفاظ التي وردت برسمين مختلفين من قبيل إبرهيم- إبرهم، دعاء- دعؤا، بلاء- بلؤا.. أو رسم مخالف ومناقض للرسم المعروف يومذاك: جاؤوا- يتلوا،.. مما يؤكد أن الرسول عليه الصلاة والسلام -على الأقل منذ بداية نزول القرآن عليه- كان يعرف القراءة والكتابة، وإلا لكُتب القرآن بالرسم والإملاء المصطلح عليهما في ذلك الوقت دون هذه الفوارق الإعجازية. فالقرآن هو الكتاب المقدس الوحيد الموثوق في المكتبة الإسلامية المحكم في كليته المتشابه في بعض آياته: .«...كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ»?? (3) و «.. منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات..» (4). وتحديد بعض المفاهيم من قبيل ًالإسلامً ينبغي أن يتم من خلال المنظومة القرآنية كاملة ويستأنس ببيان وتفسير بعض الروايات.. ولا يكفي سياق الآية المتضمنة لتلك الكلمة وحده بل السياق القرآني برمته أي المنظومة القرآنية كاملة. فالفهم الشائع عن مفهوم ًالإسلامً متأثر بالتاريخ والأحداث السياسية مما يجعله مشوبا بعصبية العرب والمسلمين، ومصروفا إلى الرسالة الخاتمة فقط!.. لذلك أنتج الفقهاء مفاهيم من قبيل دار الإسلام ودار الحرب ..وفعلت رواية ًحد الردة ً المخالفة لصريح القرآن فعلها..وشرعت الحرب الابتدائية لنشر الإسلام رغم كون حروب الرسول عليه السلام كانت كلها دفاعية؛ وكان عمر بن الخطاب أول من سن الحرب الابتدائية في الإسلام. فلا غرو أن يشوب مفهوم ًالإسلامً بدوره شوائب وسط الأمواج المتلاطمة للتيار الجارف لإمبراطورية المسلمين الوليدة. يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا نستأنس ببيانه في بحثنا هذا عن الدلالة القرآنية لكلمة ًالإسلامً: « نحن معاشر الأنبياء أولاد علات أبونا واحد (أو ديننا واحد) وأمهاتنا شتى: أبونا الإسلام(أو ديننا الإسلام) وأمهاتنا شرائعنا»(5). فالقاسم المشترك بين الأنبياء هو الإسلام وخصوصية كل نبي شريعته، بمعنى أن الأنبياء يلتقون في أصل الدين الذي هو الإسلام.. فهل هذا ما ذهب إليه الكتاب الموثوق القرآن الكريم؟ وهل لمفهوم الإسلام في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم معنى خاص؟ وما مصير من لم يطلع على حقيقة المعنى الخاص للإسلام في شريعة محمد؟ ألا يكفيه المعنى الأصلي الذي هو الخضوع والاستسلام لله تعالى المعلوم من شريعته؟ وهل من أهل الأديان الأخرى -خصوصا أهل الكتاب- مؤمنون في يوم الناس هذا - هذه الأسئلة وغيرها سيأتي الجواب عنها في ما يلي من هذه المقالة.. سياق آية »إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ « ذي النفحة الحصرية والحاسمة.. نقرأه في الآيات من سورة آل عمران: » ..إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.. «(6). فبغي أهل الكتاب بينهم هو سبب اختلافهم في الدين ووراء إخفاء حقيقة الوحدة الدينية التي وضعها الله هدفا للناس مطالبون بمقاربتها والوصول إليها لكن باختيارهم وليس بناموس قاهر.. » إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ «(7). كما جاء في القرآن الكريم بمعنى قريب وبمفهوم المخالفة: » وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ«.. في سياق: » ..أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ. كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ? وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.«.(8) كأنه تعالى يقول إن الدين عند الله منذ الأزل هو الإسلام، وهو الدين الذي دان به ودعا إليه إبراهيم وإسماعيل وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وموسى وعيسى وسائر النبيين.. ولما كان الأمثل فهمُ الآية أولا من خلال سياقها، فإنه من خلال سياق الآيتين الآنفتين »إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ «، و» وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ« ينبغي أن تُفهم هاتان الآيتان.. وثانيا ينبغي أن تُفهما من استقراء الآيات القرآنية في الموضوع لأن القرآن كل لا يتجزأ؛ والإحكام هي صفة لمنظومة آياته وليس لآحاد آياته لأن منها المتشابهات( تقول ويقولون).. فالمنظومة القرآنية كلها تزخر بآيات أخر أكد من خلالها كل نبي أنه مسلم: فقد أخبرنا الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال في حوار مع قومه « فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّه وَأُمِرْت أَنْ أَكُون مِنْ الْمُسْلِمِينَ».(9) وإبراهيم كان مسلما: »وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ« (10).. وأبناء إبراهيم مسلمون: »وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ«(11).. وذرية يعقوب كذلك مسلمون:» أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ«(12).. وسليمان في كتابه لبلقيس » إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ«..(13) وجواب الملكة: » قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ«(14). ويوسف لما لبس الأحمر وفر إلى الصحراء وقال: » رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ«(15). والمسيح كان مسلما، ولذلك أشهده حواريوه: » وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ«(16). بل إن فرعون نفسه لما أدركه الغرق أعلن أنه مسلم ولكن هيهات: » حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ«(17). وأنبياء اليهود جميعا كانوا مسلمين: » إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ وَكَانُواْعَلَيْهِ شُهَدَاء«(18). الإسلام في المفهوم اللغوي، وفي معناه العام والجامع - أي المعنى الكلي- في الكتاب الكريم هو معنى الاستسلام لله ابتداء. واتباع شريعة النبي المعني ثانية؛ وقد يتواجد أكثر من نبي في فترة زمنية واحدة وفي بلدان مختلفة. وللإسلام في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم معنى خاص: ً أن تشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً (19)ً. هذه الشعائر يزينها خلق ً المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده..ً(20) و ً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة..ً(21). لكن من لم تتيسر له أسباب معرفة حقيقة الرسالة الخاتمة والمعنى الخاص للإسلام في الشريعة المحمدية فهو معذور وحَسْبُهُ قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهرقل: ً ..من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فاني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ فان توليت فعليك إثم الأكاريين (أو الأريسيين) - الفلاحين-..ً(22) فالإثم إذن على من حال بين الناس وبين حقيقة الرسالة الخاتمة من حكام وغيرهم.. لذلك يمكن لأهل الأديان السماوية أن يتحققوا بالإيمان في إطار سقف شريعتهم إن كانوا عن دراسة القرآن الكريم غافلين..وهو العذر الذي كان يقبله الله من الأميين العرب فيما لو نزل القرآن على أهل الكتاب من اليهود أو النصارى: » وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين.. «(23)؛ فلم لا يقبله - سبحانه - من أهل الكتاب-. إن الغفلة عن حقيقة الرسالة الخاتمة والجهل بشريعتها وحقيقتها لا ينفيان الإيمان بالله عن أتباع الأديان السماوية الأخرى فضلا عن أهل الفترة- أي على فترة من الرسل- والذين لم تصلهم أي رسالة.. ودليل ذلك: - » وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ... « (24). أرأيتم كيف أن الله سبحانه لم يدفع عصبيتهم بعصبية مماثلة ولم يكن رده تعالى على ضيق رحمتهم للناس بضيق رحمة مشابهة فلم يقل تعالى بلى المسلمون والمحمديون من أتباع النبي محمد هم فقط أهل الجنة بل قال كل من أسلم وجهه لله -وهو محسن- هو من أهل الجنة سواء كان نصرانياً أو يهودياً أو محمدياً أو .... - » لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً . وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً . وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً .« (25) ومن أجمل التعاليق على هذه الآيات ما جاد به قلم الكاتب الشهيد سيد قطب رحمه الله: ً ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء.. إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني. إنه يرجع إلى أصل ثابت، وسنة لا تتخلف، وقانون لا يحابي. قانون تستوي أمامه الأمم - فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر - وليس أحد تخرق له القاعدة، وتخالف من أجله السنة، ويعطل لحسابه القانون.. إن صاحب السوء مجزى بالسوء؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة. ولا محاباة في هذا ولا مماراة: ولقد كان اليهود والنصارى يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه). . وكانوا يقولون: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة). . وكان اليهود ولا يزالون يقولون:إنهم شعب الله المختار! ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس . وأن الله متجاوز عما يقع منهم . . بما أنهم المسلمون . . فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده. ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد. هو إسلام الوجه لله - مع الإحسان - وإتباع ملة إبراهيم وهي الإسلام . إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا..ً (26) فما على أهل الأديان الإلهية إلا أن يدبروا خلافاتهم الدينية والدنيوية بالحسنى، وأن يغلبوا الجانب الإنساني في طروحاتهم، وسيتكفل الله تعالى بالفصل النهائي يوم القيامة فيما اختلفوا فيه في دين الله الواحد الذي هو الإسلام: - » إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ? إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «. (27) - » إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ « (28) - » قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ * وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * « (29) فالإسلام إجمالا هو الخطوة الأولى في طريق الإيمان والكينونة مع الأمة الواحدة -أمة الأنبياء- التي قال الله عنها: » يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لّا يَشْعُرُونَ «(30). فوحدة الدين تقتضي وحدة الأمة.. والحزبية الممقوتة هنا بمعنى الحزبية الدينية التي تمزق الوحدة الدينية بين الناس وتقطع أمر دين الله ويذهب كل حزب مزهوا بما معه من مزقة دينية يفتخر على الآخر أنه يملك الخلاص لوحده. أما الحزبية السياسية الحديثة فهي من الحكمة التي اهتدى إليها الغرب.. » وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ« (31). جاء في أسباب النزول للإمام السيوطي: عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم، وأنزلت هذه الآية » لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ?لْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ?للَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ,وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ «(32). ظن الرسول عليه السلام أن لا أحد من أهل الكتاب يذكر الله في تلك الساعة وقال ذلك لأصحابه مباه بهم فتدخل الوحي بمنطوق الآية يمنع التعميم على أهل الأديان الأخرى ونفي ذكر الله عن المؤمنين منهم، وبمفهوم للآية أن المؤمنين من أهل الأديان موجودون حتى في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف بعد مماته لأن دعوة النبي الخاتم لم تغط الكرة الأرضية لا في حياته ولا بعد مماته!. ولا شك أن آيات الله التي يتلوها أهل الكتاب هي آيات الإنجيل والتوراة وليست آيات القرآن، وهو ذكر مأجور عند الله حسب هذه القصة. أما حقيقة التقوى فلا يعلمها إلا الله وليست جنسية دينية تخلع على صاحبها ما يأمل من أجر عند الله. إن إدراك حقيقة مفهوم ًالإسلامً في النصوص الدينية يمكننا من ضبط وتدقيق الحقيقتين الخطيرتين التابعتين له .. حقيقتي الإيمان والكفر: ف ًحينما ندرك أن الإيمان والكفر ?والحق والباطل- ليسا حدودا جغرافية بين الشعوب، وليسا سياقا تاريخيا مصبوغا بألوان الخصوصيات القومية، وليسا زمرا دموية تميز الأفراد عن بعضهم، وليسا مجرد ولادة جسدية في هذا الدين أو ذاك وفي هذا المذهب أو ذاك..حينما ندرك ذلك نكون قد اتجهنا نحو إدراك حقيقة الإيمان، وحقيقة الحق الذي أتت من أجله جميع الرسالات..ونكون قد وضعنا أنفسنا في سبيل الفكر الحي الذي لا تنتج ?في ساحته الفكرية- حدود مبهمة من مادة التاريخ واستثناءاته، ولا رؤى دون نور، ولا عقيدة تراثية دون عمق متماسك من البرهان والدليل..ً (33). لذلك نصت وثيقة المدينة التي استغرقت مفاوضاتها ما يقرب من سبعة أشهر بعد هجرة النبي - نصت بوضوح - على أن حرية الدين مكفولة.. أي حرية المعتقد.. التي رفضها حزب العدالة والتنمية المغربي في وقائع التعديل الدستوري 2011 وأعاد استنساخها بشكل تقليدي - ودون مزيد اجتهاد - المجلس العلمي الأعلى في بيانه المشيد بحد الردة في خرق بيّن للقوانين الجاري بها العمل في البلد، ورافضين فسح المجال أمام الناس ليجددوا دينهم خارج أية وصاية سياسية. فهل ننتهي من اتهامات التكفير والإلحاد والزندقة والردة فيما بيننا نحن المحمديون؟.. بعد ما تبيّن في نهاية بحثنا هذا أن الإسلام هو عنوان لدين الله الواحد؛ وأمة الأنبياء أمة واحدة تدين بعقيدة واحدة وتنهج نهجا واحدا: هو الاتجاه إلى الله دون سواه والخضوع له والاستسلام له، والعمل في حدود الشريعة المعروفة في أفق الاطلاع والاستيقان من الرسالة الخاتمة دونما إكراه أو جبر. لكن، ومع كل ذلك.. فقد تقطع أتباع الرسل أمرهم الواحد بينهم، كأنما اقتطع كل منهم قطعة أو أخذ مزقة وذهب بها. وثار بينهم الجدل، وكثر بينهم الخلاف، وهاجت بينهم العداوة والبغضاء.. وقع ذلك بين أتباع الرسول الواحد والرسول الخاتم حتى قتل بعضهم بعضا باسم الدين. والدين واحد، وأمة الرسل كلها واحدة.. ويا حسرة على العباد.. المراجع (1) سورة آل عمران الآية 19 (2) [سورة القيامة: 16-17-18] (3) افتتاح سورة هود -1- (4) سورة آل عمران -7- (5) تفسير الحافظ ابن كثير سورة الأنعام الآيات »ًإِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ.. «. (6) سورة آل عمران الآيات 19 و20 (7) سورة الشعراء الآية 4 (8) سورة آل عمران الآيات 82، 83 و 84 (9) [يونس/72]. (10) البقرة 131 (11) ...البقرة 132 (12) البقرة 133 (13) النمل 30و 31 (14) النمل 44 (15) المائدة 111 (16) يوسف 101 (17) يونس 90 (18) سورة المائدة الآية 46 (19) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان رواه البخاري في كتاب الإيمان (20) رواه البخاري في كتاب المظالم (21) رواه البخاري (22) فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله (23) سورة الأنعام 156 و157 (24) سورة البقرةالآيات 111 ، 112 و113 (25) سورة النساء الآيات 123، 124، و125 (26) في ظلال القرآن لسيد قطب (27) الحج 17 (28) سورة [البقرة: آية 62. (29) سورة المئدة الآيات 69، 70، 71 و 74.. (30) سورة المؤمنون الآيات 5-، 53 و 54 (31) المائدوة آية 48 (32) أسباب النزول للسيوطي أسباب النزول للسيوطي (33) كتاب المعجزة الكبرى للمهندس عدنان الرفاعي