كَثُر الكلامُ في الأسابيع الأخيرة، مِن وِجْهاتِ نَظرٍ مختلفةٍ وبحُجَجٍ مُتباينةٍ، حول اللغةِ الأنسبِ لتدريسِ العلومِ بالمدرسة المغربية. لكنَّ الموضوعية والمَنطق اللذيْن يُميِّزان العلومَ بامتيازٍ كانا حاضِران بشكلٍ باهِتٍ، بينما حضَرتِ العاطفة والإيديولوجيا بشكلٍ كاسِرٍ. بيْدَ أنَّ أوّلَ وأبسطَ شيءٍ يجبُ توفُّرُه قبل الخوضِ في "لغة العلوم" هو التحلي بالرُوح العِلمية، بعيداً عنِ المُزايَدةِ وصِراعِ الدِيَكة. هذا الشرطُ يَسبِقُ، في رأيي، شرطَ اللغةِ الأمِّ والرسميةِ والوطنيةِ، كما يَستبِقُ الحَنينَ إلى أمجاد وهميَّة ويُبطِلُ كلَّ تأويلٍ مَوهُومٍ للدُّستور. اللغة كَيانٌ حيٌّ طالَما بقيَتْ على قيْدِ الحياة، ويستحقُّ الاحترامَ لأنَّ في ذلك توقيرٌ لورَثتِها، وَيَستلزِمُ التعاملَ معه بدُونِ تمييزٍ، وما إلى ذلك مِن اعتباراتٍ موضوعيةٍ. ومع ذلك، لا ترقى اللغةُ أبداً إلى مَعبودةٍ باسْمِ مَزاعمَ دينيةٍ أو دُنيويةٍ؛ بلْ تظلُّ دَوْماً أداةَ تواصُلٍ في خِدمةِ الناس، إلى دَرجةِ العُبودية. ولا بأس، قبْل السؤالِ عنِ اللغةِ المناسِبة في سياقِ حديثِنا، أنْ نتساءل: أين نحنُ مِن العلوم؟ هل نُساهِم في بحثِ العلوم؟ هل تمتح حياتُنا وعقليتُنا مِن العلوم؟ هل نستثمر في العلوم؟ هل آفاقنا واعِدة في العلوم؟ الجواب يَعرفه الجميع. في المغرب، التعليمُ تعميماً وتعليمُ العلوم تخصيصاً مَريضٌ مَرَضاً عُضوياً مُزمِناً. فالمطلوبُ ألا نُشكِّكَ في هذا التشخيص وأنْ نُعَجِّل بالبحثِ عنْ وصفةٍ طِبيةٍ تُناسِبُ العليل، مستفيدين مِن أجْودِ الوصفاتِ المتوفرة، دُون أنْ يَعنينا مُخترِعُها أو ماضيها، ولا مدى حَلالِها أو حَرامِها. الهدفُ الموضوعي هو محاوَلةُ إنعاشِ المريض بإيقافِ النزيفِ وتعزيزِ مَناعتِهِ حتى يستعيدَ بَعضاً مِنْ عافيتِهِ فيَحيا حياةً كريمةً قدْرَ الإمكان، رغم الطابعِ المُزمِنِ لمَرضِه، وليس أنْ نَسعى لمُعالجتِه بدَجَلِ الأولياءِ أو طلاسِمِ الأجْدادِ، أو بالقتْلِ الرَّحيم. لِنبدأْ، على الأقلِّ، باختيارِ لغةٍ صالحةٍ لتدريسِ العلوم تكونُ مفيدةً في حلِّ مُعضلتِنا على المدى المتوسط والبعيد. النظرُ إلى الوراء بهذا الصددِ لا يُنتِج إلا خطاباً عقيماً يُضِرُّ بمستقبل التعليم وبمصلحة الأجيال المُقبِلة، وبموقعِ المغربِ ضِمنَ الدُوَل. فالوقتُ يَمضي والأحداثُ تتسارَع ولا خيارَ أمامَنا سوى النظر حوْلَنا لنعترفَ بأنَّ اللغةَ الإنجليزية هي ما تَفرضُه العلومُ، ويَفترضُه تدريسُها عبْر العالم. صحيحٌ أنَّ اللغة العربية لغة غنية وعالميّة، وكانت لغةَ العلوم خلال العصر الذهبي الإسلامي. فكانت أُممُ الدنيا تهتم بها وتتعلمها. لماذا؟ لأنَّ المحسوبين على اللغة العربية كانوا حُسَباء في مجال العلوم والمعرفة. أما اليوم فالصحيح أنَّ مكانة العربية في صِلتِها بالعلوم والمعارف أصبحتْ تحتلها اللغة الإنجليزية، وأنَّ نصيبَنا مِنْ هذه الأخيرة في منظومتِنا التعليمِية نصيبٌ هزيلٌ، وأنَّنا ابتُلينا ذاتَ "حِمايةٍ" بِلغة المُستعمِر فانعقد لسانُنا بالفرنسية منذ الاستقلال. لهذا، في مَغربِ اليوم، لغوياً ومَعرفياً، وتحسُّباً لعالَم الغدِ القريب، تنموياً وحضارياً، وَجب التسليمُ بأنَّ اللغة الفرنسية، وإنْ لم تعُد لها حُظوة كُبرى، شَرٌ لا بُدَّ منه. فهي أهونُ مَطيةٍ لدَينا في طريقِنا نحو تبنِّي اللغة الإنجليزية لتدريس العلوم بالمغرب، مع تحديدِ أجَلٍ مَنطقي (أقصاه عَشْر سنوات مَثلاً؟) لإنهاء تدريس العلوم بالفرنسية. تدريسُ العلومِ (والتكنولوجيا) بالفرنسيةِ لأجَلٍ مُسَمَّى، تعبيداً للطريقِ نحو الإنجليزية، خيارٌ مُرٌّ. ولكنَّ الخياراتِ الأخرى أكثرُ مَرارةً، باعتبارِها تُجادِلُ بالدِّيماغُوجْيا والسَّفسَطةِ أمام مريضٍ أوْشكَ على الاحتضارِ. والأهمُّ مِن ذلك أنَّ هذه الخطوةَ بْرَغْماتيةٌ: لا تَحمِلُ في طيّاتِها تحقيراً فِكرياً لِلغةِ العربيةِ أو لغيْرِها، ولا عُقدةً نفسِيةً إزاءَ الفرنسية. إنَّها خطوةٌ خاليةٌ مِنَ العاطفة، يُمليها العقلُ وتَفرضُها ضرورةٌ مُلِحَّة لإنعاشِ تعليمِنا المريض. علينا الحَسْمُ فوراً عبْرَ التخطيطِ الفِعلي وتحضيرِ الكفاءاتِ وجَدولةِ التقييمات بانتظامٍ وشفافيةٍ، بحيثُ تَظلُّ المُقاربةُ باديةً لكافة المواطنين مُنذ انطلاقِها، لِيطَّلِعوا على مَعاييرِها وآجالِها وأرقامِها. أمّا إذا سِرْنا على دَرْبِ "لُغة العلوم" بالشَّعبوية أو بِالطائفية فإننا سَنَسقُطُ في "لَغَط العلوم"، ونَعودُ مِنْ زيارةِ مَريضِنا بخُفَّيْ حُنَين. *أكاديمي ومترجم