في الصقيع لا فرق بين لاجئ ومهاجر ومواطن، فكل من يفترش السماء يتخبّطه الليل بالبرد القارس وتختلف أضلاعه بحثا عن الدفء، ولا يختلف في ذلك صقيع ليل التوقيع على "الميثاق العالمي للهجرة"، عن برد "اليوم العالمي للمهاجرين".. تتقاطع بالمغرب مسارات الآملين في طيِّ صفحة القارة العجوز، وحطّ الرحال في قارة الأحلام، عبر القفز من الأسلاك الشّائكة التي تفصل "الحلم الأوروبي" بالثَّغرين المحتلّين التابعين للتاج الإسباني، سبتة ومليلية، عن "الواقع الإفريقي"، أو عن طريق امتطاء شاحناتِ نقل البضائعِ أملا في سهو أو تقاعس المراقبين، أو الزحف داخل أنابيب الصّرف الصّحيّ التي تربط، اضطرارا، بواطن المدن المتحدّثة بالدارجة المغربيّة بالمدينتين المتحدّثتين بالإسبانية، أو برمي النّرد وامتطاء "قوارب الموت" واضعين نصب أعينهم الظّفر أو المجهول. وفي خضمّ التدفق المستمر لأخبار توقيف أفراد أو شبكات تتّجر بالبشر، أو تزور الوثائق الإدارية بهدف التهريب، وأخبار إنقاذ عشرات المهاجرين السريّين في عرض البحر، أو "استقبال" أعداد من المهاجرين وطالبي اللجوء، هاموا شهورا في "رحلات عذاب" مشيا على الأقدام، تحضر الإحصاءات ويغيب إدراك حجم الفاجعة التي تمسّ كل فرد يحلم بحياة أخرى في واقع أفضل. أليمو، مهاجر غيني، محمد، مرشّح مغربي للهجرة السرية، عبد الله، لاجئ يمني بالمغرب، "مامة عيشة"، مهاجرة كاميرونية، عثمان، قاصر مغربي مرشّح للهجرة السرية، تتعدّد قِصصهم وتجاربهم، ويشتركون في أمرين: فقدان الأمل في القارة الإفريقية، وتعليق كل الآمال والأحلام على الهجرة إلى الضفة الأخرى: أرض الميعاد الأوروبية. طفولة موؤودة "بكل رجولة لو أعطوني جنسية -أجنبية- وقالوا لي لا ترجع إلى المغرب لن أرد عرضهم ..ولو "غُرّبت" ومرّت بجانبي أمي فلن أتكلّم معها..أتمنى أن يحدث ذلك"، بهذه الجمل المتقطّعة عبّر عثمان، قاصر مغربي مرشّح للهجرة، عن مدى أمله في الوصول إلى مليلية. عثمان ترك مقاعد الدراسة في السنة الثانية إعدادي، وتخلّت عنه أمّه هو وأخوه الأصغر بعدما "نجحت" في الاستقرار بإسبانيا، بعد انتقالها، في بداية الأمر، للعمل في جني الفراولة. القاصر المغربي تخلّى عنه، أيضا، جدّه الذي كان في كنفه، بعدما علم بمحاولات تسلّله إلى مليلية التابعة للحكم الإسباني. عثمان مراهق مغربي مازالت تفصله سنة عن إتمام ربيعه الثامن عشر، ويرى في إسبانيا "جنّة"، حسب تعبيره.. يؤلمه "الاحتقار المتجلّي في ما يلقاه باستمرار من ضرب، وبصق، وسبّ.."، وتعكس الحكايات التي يستشهد بها خوفه من أن يصبح من "المذَلِّين والمُهانين". يقول عثمان إنه التقى رجلا في عمره 45 سنة، لم يتزوَّج بعد، ويجُرُّ عربة متحرِّكة ويبحث في صناديق القمامة، فأشفق عليه وتخوّف من أن يصبح مثله، ثم أجاب نفسه دون انتظار أيّ رد فعل، قائلا: "أنوي أن أذهب إلى هناك -المناطق الإسبانية- وأشتغل في أي عمل كان، المهمّ ألا أبقى في هذا البلد". تُرَى على يَدَي وساقَي القاصر المغربي ندوب "مخاطراته" التي من بينها إيشاك ساقه على التهشم تحت شاحنة لنقل البقر، وهراوات حارسي المعابر الحدودية، والمطبّات التي تكاد تحطّم قفصه الصدري الطّري لتشبّثه بالهيكل السُّفلي للشاحنات. ولم يجد عثمان تعبيرا يجمل فيه الحديث عما يعيشه يوميا بمدينة الناظور إلا قول: "توجد ميتة واحدة". وسيعني نجاح عثمان في دخول مليلية انضمامه إلى "3000 قاصر مغربي لا يصاحبهم أحد، ويعانون من انتهاك حقوق الطفولة بشكل مركّب، بمليلية المحتلّة"، حسب التقرير السنوي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب سنة 2017، الذي صدر في أكتوبر من سنة 2018. عنصرية.. "حُكَرَة".. وأشياء أخرى "ماما عيشة"، مهاجرة كاميرونية خمسينيّة تقسّم حياتها بين عملها، منزلها، ومنظمة "شرق غرب" التي تعمل على إدماج المهاجرين، والكنيسة التي تنقطع فيها عن العالم صباح كل أحد بتشغيل "وضع الطيران" على هاتفها؛ رغم قولها بنبرة صادقة: "وضعيتي جيدة جدا بالمغرب لأن هناك مغاربة ساعدوني كثيرا"، إلا أنها استدركت مستنكرة بانفعال احتدم على حين غَرّة: "هناك مغاربة عندما ندخل إلى سيارات الأجرة يغلقون أنوفهم بأيديهم، أو يختارون عدم الركوب معنا في السيارة نفسها..وكأنّنا نحن من اخترنا هذا الجلد، وكأننا طلبنا من الله أن يخلقنا سودا؛ ورغم أننا جميعا أفارقة، إلا أنهم لا يحبّوننا". وتسترسل المهاجرة الكاميرونية، التي قضت سنتين بالمغرب، معبّرة عن كون مشكل غياب فرص الشغل بالمغرب يثير التوتّر، لأنه لا يوجد عند المهاجرين ما يقومون به من أجل الحصول على ما يمكّنهم من أداء كراء منزل، وعندما يعملون في النظافة بمنازل المغاربة يعامَلون كالآلات، دون ترك فرصة للاستراحة، ثم تجمل قائلة بلكنة حاسمة: "لسنا عبيدا، بل نحن أُناس؛ فلماذا سأعمل لأتقاضى 2000 درهم وأحصل معها على 2000 مرض؟". هذه "التصرّفات العنصرية" الصادمة بالمغرب نبّهت تونداي آشيم، المقرّرة الخاصة للأمين العام للأمم المتّحدة المعنيَّة بالأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتّصل بذلك من تعصب، إلى تمظهرات أخرى لها في تصريح نهاية مهمّتها بالمغرب في 21 من شهر دجنبر بالعاصمة الرباط، بعد إبلاغ بعض المهاجرين واللاجئين لها "خصوصا ذوو الأصول السوداء، جنوب الصحراوية، عن حوادث عنصرية، كارهة للأجانب وتنميطية عند الولوج إلى الضمان الصحي، والتعليم، والتشغيل...". أليمو، مهاجر من جمهورية غينيا كوناكري، يقضي نهاره متجوّلا ومتحدّثا مع زملائه المهاجرين في شوارع الرباط والدار البيضاء، ويعمل عندما تكون الفرصة سانحة، ويفترش الأرض ليلا. أليمو سبق أن قطن بشمال المغرب، ووصف ما حدث في طنجة من "تنقيل قسري" للمهاجرين إلى الأقاليم الجنوبية للمملكة بكونه "أمرا مرعبا"، ثم استرسل قائلا: "تم تكسير للأبواب، وتكبيل المهاجرين؛ كأنّنا مجرمون، لكننا تقبّلنا ذلك لأننا لا نستطيع القيام بأي شيء، ودبلوماسيونا بالمغرب وممثّلونا لا يقومون بأي شيء". بدورها تحدّثت رجاء مارسو، طبيبة بجمعية الأيادي المتضامنة، في لقاء مع هسبريس، عن "الخوف من الترحيل" الذي لمسته عند المهاجرين بعد طردهم بأمر من الشرطة من منازلهم بمدينة تطوان، وترحيلهم بالحافلات، والدخول إلى قلب الغابات التي يستوطنُونَها، والاعتداء عليهم بالضرب. كما استحضرت "طبيبة المهاجرين" وقوفها مشدوهة عندما كانت الجمعية التي تعمل معها تقوم بحملة تطبيب وتوزيع مساعدات على المهاجرين، فظهرت السلطة على حين غيرّة وبدأت في ضرب المهاجرين.. ومن بين المشاكل التي اشتكى عبد الله، لاجئ يمني بالمغرب، من المعاناة منها بالمغرب "ابتزاز المهرّبين" الذين يعتدون على اللاجئين إذا لم يدفعوا لهم ويأخذون هاتفهم أو جواز سفرهم من أجل ابتزازهم بهم. مواطِنو عبد الله، الذين يعدّون ثاني أكبر جنسية لاجئة بالمغرب، بعدد بلغ 736 لاجئا حسب أحدث أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في شهر نونبر، سبق أن تعرّضوا لاعتداءات السماسرة وضربهم وابتزازهم، واعتداءات بعض أفراد الشرطة في البوابة، واحتجازات تصل في بعض الأحيان ل10 ساعات، أو يوم كامل دون أكل أو شرب. وَلَهٌ من طرف واحد! شهدت مدينة مراكش المغربية سنة 2018 التّصديق رسميا على "الميثاق العالمي للهجرة الآمنة والمنظّمة والمنتظمة"، الذي له عدّة أهداف، من بينها: جمع واستخدام بيانات دقيقة ومصنَّفة كأساس للسياسات القائمة على الأدلّة، وتقليص الدوافع والعوامل الهيكليّة السلبيّة التي تضطرّ الناس إلى مغادرة بلدهم الأصلي، وإنقاذ الأرواح وتنسيق الجهود الدولية بشأن المهاجرين المفقودين، وتعزيز التدابير عبر الوطنية لمكافحة تهريب المهاجرين، ومنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته والقضاء عليه في سياق الهجرة الدولية، وإدارة الحدود بطريقة متكاملة وآمنة ومنسَّقة، وعدم اللجوء إلى احتجاز المهاجرين إلا كملاذ أخير والعمل على إيجاد بدائل عنه.. هذا الميثاق لم يلق ترحيبا من طرف جميع الأطراف السياسية والحقوقية التي تدعو إلى "سياسة للهجرة تحترم حقوق الإنسان"، فقد قدّم حزبا "النهج الديمقراطي"، المغربي، و"اليسار الموحّد الإسباني" إعلانا مشتركا دعيا فيه إلى "التعبئة ضده، لأن قراءة نصِّه تؤكد الرؤية الحذرة والحمائية والأمنية والنفعية التي تنتشر في جميع أنحاء العالم وتُترجم تصاعد النزعات اليمينية المتطرِّفة والفاشية والمُعادية للمهاجرين". كما عبّر الحزبان عن رفضهما "للشروط المفروضة على البلدان النامية في المفاوضات حول الهجرة، وربط قبول عمليات الإخلاء بتلقي الأموال في إطار ما يسمى "التعاون الدولي" أو "المساعدة على التنمية". ومن نماذج "أموال التعاون الدولي" هاته تخصيص المفوضية الأوروبية، مؤخرا، ميزانية قدرها 148 مليون أورو للمغرب دعما للإستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء، رغم عدم تحويلها بعد. من جهتها أشادت تونداي آشيم، المقرّرة الأممية، في تصريح نهاية مهمّتها، بالإجراءات المغربية "المؤسَّسة على حقوق الإنسان"، التي من بينها: قرار المغرب الأخير الرافض لمحاولات الاتحاد الأوروبي وضع مراكز لمعالجة طلبات اللجوء في الخارج، أو مراكز "للنزول الإقليمي" داخل الأراضي المغربية، وقراره الرافض ل"تخزين" المهاجرين في مراكز احتجاز، مقرّرا بدل ذلك، بشكل عام، اعتماد سياسة رسمية تهدف إلى إدماج المهاجرين في مجتمعه. واستخلصت آشيم أن "الوضع المتقلّب للمغرب مرتبط ارتباطا وثيقا بوضعه كدولة عبور إلى أوروبا، تزداد شعبيتها"، داعية إياه إلى "أن يظل حازما في مقاربة متجذّرة في حقوق الإنسان، ترفض أي دور في القيام بعمل أوروبا القذر". فردوس موعود محمد، شاب من مدينة سطات، كان يعمل بائعا على الرصيف، وبعد حملة احتجاز للسلع استلّت منه قوتَ عيشه، قرّر محاولة العبور إلى الضفّة الأخرى، ليصبح حلمه هو: "الذهاب إلى الخارج لأنه لم يبق ما يفعله هنا"، وهو ما خلص إليه بصوت أجش وعين دامعة، بعد دقائق من تجاذب أطراف الحديث حول عزمه ترك المغرب. اختيار الشاب الذي قارب الثلاثين محاولةَ الانتقال إلى المناطق الإسبانية عبر القفز على السياج الحدودي الذي يفصل بني انصار، المدينة التي تقع داخل تراب إقليمالناظور بالريف، عن سبتة التابعة للحكم الإسباني؛ لا ينفي اختيار 11529 مغربيّا ومغربية محاولة بلوغ "الفردوس الأوروبي" عبر قوارب الموت التي تخوض عبابَ طريقِ غربيِّ البحر الأبيض المتوسّط، حسب أحدث التقديرات الرسميّة للوكالة الأوروبية لمراقبة وحماية الحدود الخارجية (فرونتيكس). أليمو، المهاجر الغيني، أمل من الله أن يساعده ليدخل أوروبا؛ "لأنه هناك تكون حياتك في أمان، وتعيش بإنسانية، وكرامة، ولا يمكن أن تبقى نائما كما هنا في الشوارع، ويمكنك أن تتابع تكوينات". وجدّد الشاب العشريني تأكيده على دعوته حتى يتحقّق ذلك، وصلاته من أجل أن يساعده الله على دخول القارة الأوروبية، من أجل "مساعدة عائلته ولو بالقليل". "مامة عيشة"، بدورها، عبّرت عن رغبتها في الهجرة إلى أوروبا رغم "عيشها بهناء بالمغرب"، لأسباب صحية تتجلّى في عدم توفّر بعض الأدوية، التي تحتاجها من أجل تعافيها، داخل المملكة، مؤكّدة أنه "لو لم يتعلّق الأمر بصحّتي فسأبقى هنا". اللاجئ اليمني عبد الله ذكر من جهته أنه سبق أن اشتغل مع جمعيات إنسانية في اليمن قبل هربه من الحوثيّ وتطوّع مع جمعية لإدماج المهاجرين في الصومال قبل استهدافه من طرف "ميليشيات الشباب"، مضيفا أنه "شاب لا يستطيع العيش في بلده، ولا خارج أرضها، وجاء إلى المغرب حتى يدخل مدينة مليلية، وراكم في سبيل ذلك ديونا، وباع الغالي والنفيس؛ وكل هذا من أجل الوصول إلى بر الأمان: "دولة أوروبية تستقبلنا ونطلب فيها اللجوء، حتى نعيش". وفي مطلع العام الجديد 2019، مازال أليمو يفترش برد شوارع المملكة، ومازال عبد الله يأمَلُ تمكينَهُ من الولوج إلى مليلية ليضع طلب لجوئه، ومازالت "ماما عيشة" تتمنّى الظّفر بصحة أفضل في عالم آخر. ولا نعرف هل نجح عثمان ومحمد في دخول "الفردوس الأوروبي"، لكن ما نتيقّن منه هو أنه كل حسابات تجعل من الإنسان رقما داخل كومة إحصاءات، ستنتج وضعيات إنسانية أكثر ألما..