* معنى شهادة الزور وخطورتها : شهادة الزور معناها: أن يشهد المرء بما لا يعلم عامدا ولو طابق الواقع . وقيل : هي الشهادة بالكذب .. وتعتبر من أبشع الرذائل ، وأشنع المعاصي ، وأفحش الآثام ، وأعظم الموبقات ، وأكبر الكبائر .. ويكفي للدلالة على فظاعتها وخطورتها أن رب العزة سبحانه قرن النهي عنها بالنهي عن عبادة الأوثان في محكم القرآن ، فقال تعالى : ] فاجتنبوا الرجس من الأوثان ، واجتنبوا قول الزور ([1]. وقال جل وعلا – واصفا عباده المؤمنين المتقين - : ] والذين لا يشهدون الزور ([2] ، أي : لا يقيمون الشهادة الباطلة، أو لا يحضرون محاضر الكذب . وفي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله r : » ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثا) ؟ « ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : » الإشراك بالله وعقوق الوالدين « ، وكان متكئا فجلس فقال : » ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت « . فجلوسه عليه الصلاة والسلام بعد اتكائه يشعر باهتمامه الكبير بهذه الآفة الخطيرة (شهادة الزور) ، ويفيد تأكيد تحريمها ، وعظم قبحها . وسبب اهتمامه المتزايد بها – كما قال أهل العلم – هو : كونها أسهل وقوعا على الناس ، والتهاون بها أكثر ، والحوامل عليها كثيرة ، كالعداوة والحسد وغير ذلك ، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها [3]. وغير خاف ما يترتب على شهادة الزور من مفاسد وشرور ، منها : مناصرة الظلم ، وإبطال الحقوق ، وإيثار الصدور ، وشحن القلوب بالضغائن والإحن والأحقاد ، وحملها على استباحة الحرمات ، وغير ذلك من ألوان الفساد الاجتماعي والفسوق الديني .. - فشاهد الزور إنسان حقير دنيء سافل ، قد فسدت طويته ، وسقم ضميره ، ودَوِي قلبه ، وانحرفت فطرته ، وارتكست نفسه ، وصار مستعدا لأن يدوس كل القيم والفضائل ، ليظفر ويحتفظ بما أبدله بدينه من حطام الدنيا الزائل . - وشاهد الزور خوّان أثيم ، وله عند الله العذاب الأليم . قال تعالى : ] إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما [4]( ، وقال النبي الأكرم r : » لا إيمان لمن لا أمانة له [5]« . - وشاهد الزور غشّاش مكّار كذّاب ، ونبينا r يقول : » من غشّنا فليس منّا [6]« . ويقول عليه الصلاة والسلام : » ... إياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا [7]« . - وشاهد الزور يجني على نفسه أولا ، فيلبسها لباس الخزي والعار والذل والاحتقار ، ويعرضها لعقاب المنتقم الجبار . ثم يجني على المشهود عليه بإلحاق الضرر به ، وقهره وغلبته بالباطل ، وحرمانه من حقه ، وإيغار صدره عليه .. والله تعالى يقول : ] ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى [8]( . ثم يجني على المشهود له بإعانته على الباطل والجور والعصيان ، وربنا جل وعلا يقول : ] وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ([9] . ثم هو يجني أيضا على المجتمع برمته ، بحيث يسهم في إفساده وتخريبه وتهديد كيانه وإسقاطه من بين المجتمعات الراقية ، ذلك أن أي مجتمع تنتشر وتتفشى فيه هذه الآفة الخطيرة وهذه الجريمة الشنيعة يكون عرضة للارتكاس والانتكاس، والتقهقر والانحطاط ، والانحدار والسقوط .. !! وعموما ، فإن شاهد الزور يعتبر مفسدا في الأرض ، والله عز وجل يقول :] ولا تعثوا في الأرض مفسدين [10]( ، ويقول سبحانه : ]والله لا يحب المفسدين ([11] ، ويقول عز من قائل : ] إن الله لا يصلح عمل المفسدين([12] . - ومن أبشع صور شهادة الزور : أن يشهد شخص لمترشح ، غير مؤهل علميا ولا عمليا ، وغير مرضي السيرة والسلوك ، بالصلاح والاستقامة والإخلاص والكفاءة .. فيبيع له صوته وذمته ، ولا يكتفي بذلك ، بل يتعاون معه على الباطل بتحريض غيره من الناس وإغرائهم ببيع أصواتهم له مقابل الحصول على عرض من الدنيا تافه وخسيس !! وربنا تبارك وتعالى يقول : ]وأقيموا الشهادة لله [13] ( . إن مما يؤسف له جدا أن نلفي فئات عريضة من أبناء وبنات مجتمعنا من الرعاع الجهلة الأغرار يستهينون بالأمانة ، ويستجيبون لإغراءات شياطين الإنس ، فيعطون أصواتهم لمن لا يستحقها على أساس نفعي مصلحي محض ، وقد يكون هذا الذي يزكونه ويبيعون له أصواتهم من الخونة الانتهازيين الذين لهم سوابق في الفساد والإفساد واللعب والضحك على الجماهير .. !! . ولعل من أسباب ذلك أن تلك الفئات من الأغبياء لا يتعاملون ، سلبا أو إيجابا ، مع ما يبشر به ويروج له (المترشح) من مبادئ وأفكار ، وما قد يطرحه من برامج ومقترحات عملية لحل بعض المشكلات التي تتخبط فيها البلاد ، وما أكثرها ، بل يتعاملون مع شخصه ، فإن كان ممن يرجى منه نفع مادي ومصلحة شخصية ، فهو العدل المرضي الذي يستحق أن يزكى ويشهد له وتباع له الذمم ، أما إن كان على عكس ذلك ، فهو الخائن المشهود عليه بالزور والكذب والافتراء ، وإن كان من أزكى الصلحاء وأتقى الأتقياء !! ، وصدق الشاعر إذ يقول : وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا ! ولا يتوهمن أحد أنني أقصد بما ألمعت إليه الدعاية لحزب ما ، فهذا ليس في الحسبان ، بل غاية ما أرمي إليه هو بيان فظاعة وبشاعة وحرمة تلك السلوكيات التي بات يستمرئها الكثير من الغافلين والغافلات ، والتنبيه على ضرورة اعتماد المعايير الشرعية في التزكية والشهادة والاختيار ،بصرف النظر عن كون المزكى والمشهود له من هذا الحزب أوذاك ، وإلغاء وإنكار كل المعايير غير الشرعية التي هي المتحكمة الآن – للأسف الشديد - في إناطة الكثير من المهام والمسؤوليات بأناس ليسوا أهلا لها وأحق بها ، كما أسلفنا ، من مثل القرابة ، والصداقة ، والمصلحة ، والنفعية ، والزبونية ، وغير ذلك من الاعتبارات المرفوضة شرعا ، لما تفضي إليه من فساد وخراب ... * عقوبات شاهد الزور في الفقه الإسلامي : - هذا ، ولما لم يرد من الشارع عقاب دنيوي معين ومحدد لجريمة شهادة الزور ، تعين إدراجها في نطاق الجرائم الموجبة للعقاب التعزيري المفوض إلى اجتهاد الحاكم أو من ينوب عنه . وفي هذا السياق ، قرر الفقهاء معاقبة المرتكب لهذا الفعل الإجرامي الخسيس ، لكنهم اختلفوا في كيفية تعزيره : فقال أبو حنيفة – رحمه الله تعالى – : يكتفى بتشهيره على الملأ ، ولا يضاف إلى ذلك أي نوع من أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى ، وهو مشهور المذهب ، وعليه الفتوى . وزاد الصاحبان[14] : أنه يوجع ضربا ويحبس[15] . قلت : وهو مذهب الشافعية والحنابلة . قال الشيرازي : » وإذا ثبت أنه شاهد زور ، ورأى الإمام ... أن يشهر أمره في سوقه ومصلاه وقبيلته ، وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه فعل ... [16]« . وقال ابن قدامة : » فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنه شهد بزور عمدا ، عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم ... [17]« . وذهب فقهاء المالكية إلى ضرورة التشديد على شاهد الزور ومؤاخذته بأنواع شتى من العقوبات التعزيرية ، من ضرب ، وحبس ، وتشهير ، إضافة إلى رد شهادته وعدم قبولها أبدا على الأرجح . جاء في المدونة : » قلت : أرأيت القاضي إذا أخذ شاهد زور كيف يصنع به وما يصنع به ؟ قال : قال مالك : يضربه ، ويطوف به في المجالس .. » [18] . وفي الذخيرة : » يضرب شاهد الزور باجتهاد ؛ لأنها كبيرة ، ويطاف به في المسجد الجامع ، ولا تقبل شهادته أبدا [19]«. وقال ابن جزي : » إذا عثر على شاهد الزور عوقب بالسجن والضرب ، ويطاف به في المجالس . وقال ابن العربي : يسود وجهه ، ولا تقبل شهادته ؛ لأنه لا تعرف له توبة [20]« . وقال برهان الدين ابن فرحون : » إذا ثبت عند القاضي أن بعض الشهود يشهد بالزور ، ويأخذ الجعل على شهادة الزور ، عزر على الملأ ، ولا يحلق له رأس ، ولا لحية ، ورأى القاضي أن يسود وجهه . وقال ابن عبد الحكم : يطاف به ويشهر في المجالس والحلق وحيث يعرفه الناس ... ويسجل عليه ، ويجعل من ذلك نسخا يودعها عند الناس ممن يثق به ... [21]« . * مستندات هذه الأحكام العقابية : استند الفقهاء فيما قرروه من العقوبات التعزيرية المذكورة على جملة من السوابق القضائية المأثورة عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وشريح القاضي رضي الله عنهم . نوردها فيما يلي : - عن الأحوص بن حكيم عن أبيه : أن عمر رضي الله عنه أمر بشاهد الزور أن يسخّم وجهه ، أي يسوّد ، ويطاف به في القبائل ، ويقال : إن هذا شاهد زور ، فلا تقبلوا شهادته [22] . وعن شريك عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر قال : أتي عمر رضي الله عنه بشاهد زور فوقفه للناس يوما إلى الليل يقول : هذا فلان يشهد بزور فاعرفوه ، ثم حبسه . ورواه أبو الربيع عن شريك عن عاصم ، وزاد فيه : فجلده وأقامه للناس . وعن أبي نضرة عن أبي سعيد الخذري عن عمر رضي الله عنه أنه ظهر على شاهد زور فضربه أحد عشر سوطا ... . وأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قضى أيضا بتعزير شاهد الزور تشهيرا ، فقد روى عنه علي بن الحسن أنه كان إذا أخذ شاهد زور بعث به إلى عشيرته ، فقال : إن هذا شاهد زور فاعرفوه وعرفوه ، ثم خلى سبيله ... . كما أثر عن شريح القاضي أنه عاقب شاهد الزور بالضرب والتشهير . فقد روى عنه أبو حصين أنه كان إذا أتي به يطوف به في أهل مسجده وسوقه ويقول: إنا قد زيفنا شهادة هذا[23] . وفي رواية عن الجعد بن ذكوان أن شريحا أتي بشاهد زور ، فنزع عمامته ، وخفقه بالدرة خفقات ، وبعث به إلى المسجد كي يعرفه الناس[24] . - ومما يجدر التنبيه عليه أن الفقهاء قديما اجتهدوا في استحداث وإعمال وسائل شتى لتشهير شاهد الزور وغيره من الجناة ، ومن ذلك : ما تضمنته النصوص المذكورة من الوسائل التي كانت تناسب وتلائم مستوى التطور الذي وصلت إليه المجتمعات وقتئذ ، وكان توظيفها يؤدي إلى تحقيق الغرض من هذه العقوبة الرادعة . أما في عصرنا – حيث تقدمت المدنية أشواطا بعيدة ، وتطورت المجتمعات تطورا مذهلا ، واستحدث تبعا لهذا التطور وسائل إعلامية كثيرة جدا ، منها المرئي والمسموع والمقروء ... - فلم تعد تلك الوسائل التي كان يتوسل بها قديما مجدية ، بل أصبح الأنفع والأجدى ، والأوفى بتحقيق الغرض من التشهير في هذا العصر، هو : استخدام مختلف وسائل الإعلام المعاصرة التي تسهل وتيسر عملية النشر والإذاعة والإخبار والإعلام إلى حد كبير ، كالإذاعة والتلفزيون والصحف والانترنيت وغير ذلك ... وفي الختام أحب أن أذكر بقول رب العزة سبحانه : ]ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا[25]( . ***** [1] الحج : 30 . [2] الفرقان : 72 . [3] انظر فتح الباري : 5/263 . [4] النساء : 106 . [5] أخرجه أحمد في المسند : 3/154 وابن حبان في صحيحه : كتاب الإيمان ، باب فرض الإيمان ، ح : 194 . [6] أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الإيمان ، باب قول النبي r : "من غشنا فليس منا" ، ح : 102 . [7] أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب البر والصلة والآداب ، باب قبح الكذب ... ح : 2607 . [8] المائدة : 9 . [9] المائدة : 3 . [10] البقرة : 59 . [11] المائدة : 66 . [12] يونس : 81 . [13] الطلاق : 2 . [14] وهما : أبو يوسف القاضي ، ومحمد بن الحسن الشيباني . [15] انظر شرح فتح القدير ، للكمال بن الهمام : 6/83 ،84 . [16] المهذب" مع شرحه "المجموع" : 22/226 ، وانظر مغني المحتاج : 6/288 . [17] المغني : 12/154 . [18] المدونة : 4/74 . [19] الذخيرة ، للقرافي : 10/229 . [20] القوانين الفقهية ، ص 227 . [21] تبصرة الحكام : 2/213 ، وينظر باب القضاء وأحكامه من "مختصر خليل" مع شروحه . [22] أخرجه عبد الرزاق في المصنف : 8/327 . [23] انظر السنن الكبرى للبيهقي : كتاب آداب القاضي ، باب ما يفعل بشاهد الزور ، ح : 20491 ،20492، 20495 ،20497 . [24] أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه : 2/633 ، وابن أبي شيبة في مصنفه : 5/532 ، وغيرهما . [25] النساء : 134 . *عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وعضو مؤسس في المكتب التنفيذي للمنتدى المغربي للوسطية