شهادة الزور معناها: أن يشهد المرء بما لا يعلم عامدا ولو طابق الواقع، وقيل: هي الشهادة بالكذب. وتعتبر من أبشع الرذائل، وأشنع المعاصي، وأفحش الآثام، وأعظم الموبقات، وأكبر الكبائر.. ويكفي للدلالة على فظاعتها وخطورتها أن رب العزة سبحانه قرن النهي عن عبادة الأوثان في محكم القرآن، فقال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور). الحج: 30]. وقال جل وعلا في الآية: 72 من سورة الفرقان واصفا عباده المؤمنين المتقين : (والذين لا يشهدون الزور)، أي: لا يقيمون الشهادة الباطلة أو لا يحضرون محاضر الكذب. وفي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثا)؟»، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين»، وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزور وشهادة الزور، فمازال يكررها حتى قلنا ليته سكت». فجلوسه عليه الصلاة والسلام بعد اتكائه يشعر باهتمامه الكبير بهذه الآفة الخطيرة (شهادة الزور)، ويفيد تأكيد تحريمها وعظم قبحها. وسبب اهتمامه المتزايد بها كما قال أهل العلم هو: كونها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، والحوامل عليها كثيرة، كالعداوة والحسد وغير ذلك، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها. (انظر فتح الباري: 5/263 شاهد الزور من المفسدين وغير خاف ما يترتب على شهادة الزور من مفاسد وشرور، منها: مناصرة الظلم، وإبطال الحقوق، وشحن القلوب بالضغائن والإحن والأحقاد وحملها على استباحة الحرمات، وتوريث نار الخصومات بين الناس، وغير ذلك من ألوان الفساد الاجتماعي والفسوق الديني.. فشاهد الزور إنسان حقير دنيء سافل، قد فسدت طويته، وسقم ضميره، وذوي قلبه، وانحرفت فطرته، وارتكست نفسه، وصار مستعدا لأن يدوس كل القيم والفضائل، ليظفر ويحتفظ بما أبدله بدينه من حطام الدنيا الزائل. وشاهد الزور خوان أثيم، وله عند الله العذاب الأليم. قال تعالى: (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما)، النساء: 106]، وقا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له..» (أخرجه أحمد في المسند: 3/154 ،ابن حبان في صحيحه: كتاب الإىمان، باب فرض الإيمان، ح: 194). وشاهد الزور غشاش مكار كذاب، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «من غشنا فليس منا». (أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا"، ح: 102). ويقول عليه الصلاة والسلام: «... إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا». (أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب... ح: 2607). وشاهد الزور يجني على نفسه أولا، فيلبسها لباس الحزب والعار والذل والاحتقار، ويعرضها لعقاب المنتقم الجبار. ثم هو يجني على المشهود عليه بإلحاق الضرر به، وشهره وغلبته بالباطل، وحرمانه من حقه، ويغار صدره عليه.. والله تعالى يقول: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). (المائدة: 9). ثم هو يجني على المشهود مله بإعانته على الباطل والجور والعصيان، وربنا تبارك وتعالى يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) المائدة: 3). ثم هو يجني على المجتمع برمته، بحيث يسهم في إفساده وتخريبه وتهديد كيانه وإسقاطه من بين المجتمعات الراقية، ذلك أن أي مجتمع تنتشر وتتفشى فيه هذه الآفة الخطيرة هذه الجريمة الشنيعة إلا ويكون عرضة للارتكاس والانتكاس، والتقهقر والانحطاط، والانحدار والسقوط..!! وعموما، فإن شاهد الزور يعتبر مفسدا في الأرض، والله عز وجل يقول: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) البقرة: 59]، ويقول عز من قائل: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) يونس:81]. أبشع صور شهادة الزور في التصويت ومن أبشع صور شهادة الزور: أن يشهد شخص لمترشح غير مؤهل علميا ولا عمليا، وغير مرضي السيرة والسلوك، بالصلاح والاستقامة والإخلاص والكفاءة.. فبيعه صوته وذمته، وقد لا يكتفي بذلك، بل ينخرط معه في حملته الانتخابية المشبوهة، ويتعاون معه على الباطل بتحريض غيره من الناس وإغرائهم بالتصويت له مقابل الحصول على عرض من الدنيا تافه خسيس!! وربنا تبارك وتعالى يقول: (وأقيموا الشهادة لله) الطلاق: 2]. إن مما يؤسف له جدا أن نلفي فئات عريضة من أبناء وبنات مجتمعنا من الرعاع الجهلة الأغرار يستهينون بالأمانة، ويستجيبون لإغراءات شياطين الإنس، فيعطون أصواتهم لمن لا يستحقها، على أساس نفعي مصلحي محض، وقد يكون هذا الذي يزكونه ويمنحونه أصواتهم من الخونة الوصوليين الانتهازيين الذين لهم سوابق في الفساد والإفساد واللعب والضحك على الجماهير!!. ولعل من أسباب ذلك أن تلك الفئات من الأغبياء البلهاء لا يتعاملون، سلبا أو إيجابا، مع ما يبشر به ويروج له (المرشح) من مبادئ وأفكار، وما يطرحه من برامج ومقترحات عملية لحل بعض المشكلات التي تتخبط فيها البلاد، وما أكثرها، بل يتعاملون مع شخص المرشح، فإن كان ممن يرجى منه نفع مادي ومصلحة شخصية، فهو العدل المرضي الذي يستحق أن يزكى ويشهد له، أما إن كان على عكس ذلك، فهو الخائن المشهود عليه بالزور والكذب والافتراء، وإن كان من أزكى الصلحاء وأتقى الأتقياء!!، وصدق الشاعر إذ يقول: وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا! عقوبة شهادة الزرو هذا، ولما لم يرد من الشارع عقاب دنيوي معين ومحدد لجريمة شهادة الزور، تعين إدراجها في نطاق الجرائم الموجبة للعقاب التعزيري المفوض إلى اجتهاد الحاكم أو من ينوب عنه. وفي هذا السياق أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه عزر شاهد الزور بأنواع شتى من العقوبات التعزيرية، من ضرب، وحبس، وتشهير. فعن الأحوص بن حكيم عن أبيه: أن عمر رضي الله عنه مأمر بشاهد الزور أن يسخم وجهه أي يسود ، ويطاف به في القبائل، ويقال: إن هذا شاهد زور، فلا تقبلوا شهادته. (أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 8/327). وعن شريك عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر مقال: أتي عمر رضي الله عنه بشاهد زور فوقفه للناس يوما إلى الليل يقول: هذا فلان يشهد بزور فاعرفوه، ثم حبسه. ورواه أبو الربيع عن شريك عن عاصم، وزاد فيه: فجلده وأقامه للناس. وعن أبي نضرة عن أبي سعيد الخذري عن عمر رضي الله عنه أنه ظهر على شاهد زور فضربه أحد عشر سوطا.. وأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قضى أيضا بتعزير شاهد الزور تشهيرا، فقد روى عنه علي بن الحسن أنه كان إذا أخذ شاهد زور بعث به إلى عشيرته، فقال: إن هذا شاهد زور فاعرفوه وعرفوه، ثم خلى سبيله... كما أثر عن شريح القاضي أنه عاقب شاهد الزور بالضرب والتشهير، فقد روى عنه أبو حصين أنه كان إذا أتي به يطوف به في أهل مسجده وسوقه ويقول: إنا قد زيفنا شهادة هذا. (انظر السنن الكبرى للبيهقي: كتاب آداب القاضي، باب مما يفعل بشاهد الزور، ح: 20492، 20495، 20495، 20491). وفي رواية عن الجعد بن ذكوان أن شريحا أتي بشاهد زور، فنزع عمامته، وخفقه بالدرة خفقات، وبعث به إلى المسجد كي يعرفه الناس. (أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه: 2/336، وابن أبي شيبة في مصنفه: 5/532، وغيرهما). واستنادا إلى هذه السوابق القضائية من اجتهادات عمر، وعلي، وشريح القاضي رضي الله عنهم، قرر فقهاء المالكية ضرورة التشديد على شاهد الزور ومؤاخذته بالعقوبة التعزيرية الرادعة: ضربا، وحبسا، وتشهيرا، إضافة إلى رد شهادته وعدم قبولها أبدا على الأرجح. جاء في المدونة: 4/74: «قلت: أرأيت القاضي إذا أخذ شاهد زور كيف يصنع به وما يصنع به؟ قال: قال مالك: يضربه ويطوف به في المجالس..". وفي الذخيرة: 01/229: «يضرب شاهد الزور باجتهاد؛ لأنها كبيرة، ويطاف به في المسجد الحامع، ولا تقبل شهادته أبدا». وقال ابن جزي في القوانين الفقهية، ص 227: «إذا عثر على شاهد الزور عوقب بالسجن والضرب، ويطاف به في المجالس. وقال ابن العربي: يسود وجهه، ولا تقبل شهادته؛ لأنه لا تعرف له توبة». وقال برهان الدين بن فرحون: «إذا ثبت عند القاضي أن بعض الشهود يشهد بالزور، ويأخذ الجعل على شهادة الزور، عزر على الملأ، ولا يحلق له رأس، ولا لحية، ورأى القاضي أن يسود وجهه. وقال ابن عبد الحكم: يطاف به ويشهر في المجالس والحلق وحيث يعرفه الناس... ويسجل عليه، ويجعل من ذلك نسخا يودعها عند الناس ممن يثق به..». (تبصرة الحكام: 2/213، وينظر باب القضاء وأحكامه من "مختصر خليل" مع شروحه). وقرر غير المالكية كذلك معاقبة المرتكب لهذا الفعل الإجرامي الخسيس، لكنهم اختلفوا في كيفية تعزيره، فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : يكتفى بتشهيره، ولا يضاف إلى ذلك أي نوع من أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى، وهو مشهور المذهب وعليه الفتوى، وزاد الصاحبان (أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن والشيباني): أنه يوجع ضربا ويحبس. قال ابن الهمام في شرح فتح القدير: 6/38،48: «وإذا ثبت كونه شاهد زور، فقال أبو حنيفة رحمه الله: يعزر بتشهيره على الملإ في الأسواق ليس غير، وقالا: يوجعه ضربا ويحبسه»، ثم أورد مستند الرأيين معا ورجح اختيار الصاحبين. قلت: وهو مذهب الشافعية والحنابلة قال الإمام الشيرازي: «وإذا ثبت أنه شاهد زور، وراء الإمام... أن يشهر أمره في سوقه ومصلاه وقبيلته، وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه فعل...» (المهذب "مع شرحه المجموع" 22/ 226وانظر مغنى المحتاج: 6/288). وقال ابن قدامة في المغني 12/154 «فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنه شهد بزور عمدا عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم..» ومما يجدر التنبيه عليه أن الفقهاء قديما اجتهدوا في استحداث وإعمال وسائل شتى لتشهير شاهد الزور وغيره من الجناة، ومن ذلك: ما تضمنته النصوص المذكورة من الوسائل التي كانت تناسب وتلائم مستوى التطور الذي وصلت إليه المجتمعات وقتئذ، وكان توظيفها يؤدي إلى تحقيق الغرض من هذه العقوبة الرادعة. لاتتبعوا الهوى أما في عصرنا حيث تقدمت المدنية أشواطا بعيدة، وتطورت المجتمعات تطورا مذهلا، واستحدث تبعا لهذا التطور وسائل إعلامية كثيرة جدا، منها المرئي والمسموع والمقروء... فلم تعد تلك الوسائل التي كان يتوسل بها قديما مجدية، بل أصبح الأنفع والأجدر، والأوفى بتحقيق الغرض من التشهير في هذا العصر، هو: استخدام مختلف وسائل الإعلام المعاصرة التي تسهل وتيسر عملية النشر والإذاعة والإخبار والإعلام إلى حد كبير، كالإذاعة والتلفزيون والصحف والأنترنيت وغير ذلك... وفي الختام أذكر بقول رب العزة سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) النساء: 134]. الدكتور عبد المنعم التمسماني