التزكية في لسان العرب تعني المدح والثناء، والثناء قد يكون بالنفي: أي نفي الفسوق والعصيان والتبرؤ منهما، أو بالإثبات: أي إثبات الصلاح والطهارة وادعائهما، وقد يكون بالنفي والإثبات معا. والتزكية نوعان: تزكية النفس، وتزكية الغير؛ ولكل منهما حكم شرعي مؤصل. وتُعد التزكية بنوعيها أسلوبا من الأساليب المعتمدة للوصول إلى مصالح ذاتية أو جماعية، ومن ضمنها طلب الإمارة. وفي هذا المقال سأحاول إن شاء الله تعالى أن أعرّج على نصوص الشرع التي تؤصل لحكم التزكية بنوعيها، ولحكم طلب الإمارة. ولقد هداني إلى صرف الهمة إلى هذا الموضوع ما لاحظت من أهل زماني من غلوٍ في ابتكار أساليب التزكية سواء للنفس أم للغير، وذلك طمعاً في الإمارة وتكالباً عليها، إلاَّ في الأقل. حكم تزكية النفس: "لا تُزَكُّوا أنفسكم." بهذه العبارة المختصرة التي تفيد الإطلاق والعموم، نهى الشرع الحكيم في نصوص من القرآن والسنة عن تزكية الإنسان نفسه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه في الغالب، وإذا استقرينا نصوص الشرع التي وردت في التزكية ألفيناها مادة غزيرة تدل مضامنها على أن تزكية النفس شيمة من شيم المنافقين ، وصفة من صفات اليهود المارقين ،فقد زكى المنافقون أنفسهم بقولهم:(آمنا بالله وباليوم الآخر)، ولم كانوا كما قالوا، وقد زكى اليهود أنفسهم بقولهم أيضا:(إنما نحن مصلحون) مع أنهم كانوا مفسدين ، وقد زكى اليهود أنفسهم بقولهم:(نحن أبناء الله وأحباؤه)، وقولهم (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى). كما زكوا أنفسهم بنفي صفة الإفساد والمعصية والإذناب عن ذواتهم. هذا فضلا عن ثناء بعضهم على بعض، فجاءت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة للكشف عن الحقيقة ببيان أن التزكية الحقَّة: ما كان عنواناً صادقا لصالح الأفعال لا شعارا لِمَا دلَّت عليه معسول الأقوال، ومن ثمة فإن العبرة بتزكية الله عزوجل لمن يشاء من عباده، وهو الذي يعلم المفسد من المصلح، قال تعالى(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً). النساء/49. وفي صحيح مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم". فجاءت هذه النصوص لبيان أن المرجع الحقيقي في التزكية إلى الله عز وجل، لأنه هو الأعلم بحقائق الأمور وغوامضها؛ فهو الذي يوفق أهل الخير إلى الخير، ويهيئ لهم أسباب ذلك، وبذلك فإن العدل الحق من زكاه الله تعالى بأن هداه إلى الصراط المستقيم، وحال بينه وبين الكبائر والصغائر، تزكيةٌ ربانية قوامها التطهير والتوفيق: تطهير من ذميم الأقوال والأفعال، وتوفيق إلى أحسن الخطاب وأصلح المعاملات، يقول الإمام الطبري:"والله يزكي من يشاء من خلقه، فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معاصيه إلى ما يرضاه من طاعته" . هذه بعض النصوص الشرعية الدالة على عدم جواز تزكية المرء لنفسه، لِمَا في تزكية النفس من الحماقة والمُراءاة والغرور والإعجاب بالنفس، غير أنه إذا اقتضت الضرورة ذلك، جازت تزكية النفس حينئذ، للمصلح التقي أن يزكي نفسه فقد زكى يوسف عليه السلام نفسه عند الملك العزيز لما دعته الضرورة إلى ذلك، إذ قال عن نفسه(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف/55]. وفي هذه الآية دليل ناطق على جواز وصف الإنسان نفسه بما فيه من علم وفضل . وقد زكى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في أكثر من حديث شريف، ومنها الحديث الذي أخرجه الإمام مالك وغيره:»والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم مثل سمر تهامة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا»، وتأملا في هذا الحديث يقول ابن عبد البر النمري"وفيه جواز مدح الرجل الفاضل الجليل لنفسه، ونفيه عن نفسه ما يعيبه بالحق الذي هو فيه وعليه، إذا دفعت إلى ذلك ضرورة أو معنى يوجب ذلك فلا بأس، ومثل هذا كثير في السنن وعن علماء السلف، لا ينكر ذلك إلا من لا علم له بآثار من مضى" . من هنا يتبين أنه ليس على المكلف جناح أن يمدح نفسه إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وعلى هذا استقر قول أهل العلم، يقول العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام:"ولا يمدح المرء نفسه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك مثل أن يكون خاطباً إلى قوم فيرغبهم في نكاحه، أو ليعرف أهليته الولايات الشرعية والمناصب الدينية ليقوم بما فرض الله عليه عينا أو كفاية وقد يمدح المرء نفسه ليُقتدى به فيما مدح به نفسه وهذا مختصُّ بالأقوياء الذين يأمنون التسميع ويُقتدى بأمثالهم" . حكم تزكية الغير: لم يكتف الشرع الحكيم بالنهي عن أن يزكي المرء نفسه، وإنما حذر أيضا من تزكية المرء لغيره ومدحه له مع الإفراط في ذلك، كل ذلك سداً للذريعة وحتى لا يوصف الإنسان بما ليس فيه فيفتتن به. فقد أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال:» مدح رجل رجلا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، مراراً، إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه، إن كان يعلم ذاك، كذا وكذا». وإنما حذّر الشرع هذا التحذير حتى لا يكون ذلك سبيلا إلى تحذير الناس لأكل أموالهم بالباطل، أو تمهيداً لمصلحة ذاتية متوقعة. غير أنه إذا دعت الضرورة إلى مدح الغير وكان ذلك مما تتوقف عليه مصلحة من المصالح النبيلة، ولاسيما العامة منها، فلا حرج في أن يزكي الرجلُ الرجلَ، وليس هذا بدعا من الفعل، فقد نقل القرآن الكريم ثناء بنت شعيب على موسى عليه السلام تُزكِّيه عند أبيها بقولها(يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، القصص/26، وهي تعني بقولها"إن خير من تستأجره للرعي، القوي على حفظ ماشيتك والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها، الأمين الذي لا تخاف خيانته فيما تأمنه عليه" . وقد مُدح النبي صلى الله عليه وسلم بمنظوم الخطاب ومنثوره ولم يُنكِر على أحد صنيعه ما دام ذلك لم يتعد حدود المعقول، وزكَّى عليه الصلاة والسلام أصحابَه في أكثر من مناسبة، كما زكى الصحابة بعضُهم بعضاً، وكذلك التابعون ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين، وكُتُب الرجال والطبقات والتراجم طافحة بأقوال العلماء في الجرح والتعديل. وبالجملة فإن العلماء أجمعوا على جواز تزكية الغير إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وهذا ما عبّر عنه الإمام القرطبي بقوله:"فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمدح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه، وهذا راجع إلى النيات" . هذا باختصار حكم الشهادة للغير. حكم الشهادة على الغير: أما الشهادة على الغير فتجوز تشهيراً بالفاسق وبمن في معناه، كائنا من كان، وذلك بالكشف عن معايبه بنية التحذير منه ومن أمثاله ممن حصل الشرُّ منهم سابقا، أو هو متوقع الحصول لاحقا، ومن لم يفعل من الغيورين عددناه من المتساهلين في الدين، الغاشين لعوام المسلمين. ولاسيما إذا تاقت أنفس هؤلاء السفهاء إلى تولي المسؤولية، فإن المسؤولية أمانة، والسكوت عن سفه السفيه وفجور الفاجر وفسق الفاسق، ولو كان ذا قربى، تمكين له، ومن مكًّنه فقد أحب أن يُعصى الله في أرضه، ومن أحب ذلك كان ظهيرا للمجرمين، وجزاؤه عند رب العالمين، وهو القائل في محكم التنزيل(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ)، البقرة/140، والقائل أيضا (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم)، البقرة/283. وحتى يتأتى من تزكية الغير المَأْتى النبيل الذي توخاه الشرع من هذا الترخيص، فلابد من اعتبار شرطين اثنين في التزكية: أولهما: أن تكون التزكية عن اطلاع ومعاينة: فلا ينبغي أن يُكتفى في تزكية الغير بالفِرَاسة، فإن الفراسة لا تفيد في هذا المقام شيئا، بل لابد من الاطلاع المباشر: مشاهدة ومعاينة لصالح أعمال المزكى وجليلها، ومدى مواظبته على ذلك، وكلما طالت الصحبة كان ذلك أفضل لتحري الدقة والصواب، ولا سيما إذا كانت هذه التزكية من الأسباب التي تتوقف عليها مصالح الأمة، فإن كثيرا من المرتزقة والوصوليين لا يألون جهدا أن يتصنعوا الورع في مواسم بعينها فيرتدون لباس الزُّهّاد لا لشيء إلاّ ليُنظر إليهم بعين الصلاح، فيُقدَّمون بناء على ذلك، وما أكثر هؤلاء في زماننا. وفي كل الأحوال فإن تحري الدقة والحق والصواب أولى، حتى لا تكون شهادة الشاهد زورا وبهتانا، فتنقلب على صاحبها حسرة وخسرانا، فإن شهادة الزور كبيرة من الكبائر، وموبقة من الموبقات المهلكات. وكي تكون التزكية صادقة، لا بد أن يكون الصلاح سجية معهودة، وعادة مألوفة يشهد بها القريب والبعيد لاستفاضتها بين الناس، فقد شهد رجل بشهادة عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، فأت بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، فقال عمر: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل. قال: فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال فمعاملك في الدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال لستَ تعرفه ولا علم لك به، ما أراك إلاَّ رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد. ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك . والشرط الثاني: ألا يُتجاوز بالتزكية حدودَ المعقول: بمعنى أن يتم الاقتصار على ذكر ما في المزكى من الصفات المحمودة، وتنزيهه عما ليس فيه من الصفات المذمومة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في المدح والثناء، إذ قال فيما أخرجه الإمام البخاري:+لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله؛. فقد نهاهم أن يمدحوه فيصفوه بما ليس فيه. وإذا كان الغلو في الثناء ممنوعا في حقه عليه السلام، وقد زكاه الله تعالى من فوق سبع سماوات، فإنه في حق مَنْ دونه من المكلفين أمنع، يقول الإمام القرطبي تأملاً في الحديث السابق:»وهذا يقتضي أن من رفع أمراً فوق حده، وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم، لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلا يجوز لأحد أن يبالغ في الثناء على غيره فضلا عن أن يستعير له ألقاباً مكذوبة، أو أن يتخذ له أبواقا تنعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، ولنتدبر صنيع بنت شعيب فإنها لما زكَّت موسى عند أبيها لم تزد على قولها:"القوي الأمين"، ولمَّا طُلب منها تفسير تزكيتها لم تزد على وصفها إياه بما رأت منه رأي العين من جليل الأفعال لا بما سمعته منه من معسول الأقوال، حيث قالت لأبيها»أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما الأمانة فإنه نظر إليَّ حين أقبلت إليه وشخصت له، فلمَّا علم أني امرأة، صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك، ثم قال لي أمشي خلفي وانعتي لي الطريق، فلم يفعل هذا إلا وهو أمين؛». فلم تشهد إلا بما رأت وعاينت، وتلك هي الشهادة الحق. حكم طلب الإمارة: جرت العادة في زماننا أن ترتبط التزكية المنظمة بطلب الإمارة، فكان الكلام في الثانية جزءاً لا يتجزأ عن الحديث في الأولى. وتأصيلا لحكم طلب الإمارة أقول: وردت في السنة النبوية الشريفة نصوص عدة في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لمن يسأل عنده الإمارة، وفي أغلبها نهي صريح عن طلب الإمارة والحرص عليها، ومن هذه النصوص: ما رواه الشيخان عن عبد الرحمان بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:»يا عبد الرحمان لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها». ما رواه الإمام مسلم عن أبي موسى قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه"، وفي رواية متفق عليها: «لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده". ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني. قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". دلت هذه النصوص الحديثية الصحيحة دلالة صريحة على أن الإمارة مسؤولية عظيمة ورسالة جسيمة. شروط الإمارة الإمارة تعطى ولا تسأل، يكلف بها ولا يتشرف بها، فإن أعطيت فلا تعطى لمن يسألها، بل تعطى لمن يقوم بحقها، فإنها أمانة تقوم عليها حقوق العباد وحقوق رب العباد ،ومن أعطيت له فليتق الله في أداء الأمانة بالحق، والحكم بين الناس بالعدل والقيام على مصالح الأمة بالقسط. فلا تعطى للضعيف في دينه ولا للإمعي التابع لغيره في التفكير والإرادة والنفوذ. ولا ينبغي أن يتجرأ على حمل الأمانة إلا من كان من أهلها على جميع المستويات، غير أنه إذا دعت الضرورة لتقليد منصب ما، جاز لمن يأنس من نفسه قدرة عليها أن يطلبها، فإن الأمر إذا ضاق اتسع، ولا سيما إذا أدرك المرء أن الإمارة فرض متعين عليه لخلو الزمان والمكان ممن هو أهل لها، فقد طلبها يوسف عليه السلام من العزيز حيث قال له (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) (يوسف/55). وهذا نص قرآني صريح في جواز طلب الإنسان عملا يكون أهلا له إذا دعت الضرورة الشرعية إلى ذلك،كأن يزهد الناس في المسؤولية جميعا قيعدم من يقبلها وإن عرضت عليه، أو أن يكثر المتكالبون عليها ممن لا يقدّرها حق قدرها ولا يرى فيها إلا المصلحة الذاتية، أو على أكثر تقدير مصلحة جماعة تتعارض اختياراتها مع مقاصد الدين ومصالح المسلمين، فإن قطع الطريق على هؤلاء قدر المستطاع هو الأحوط في نظرنا والأصلح لديننا والأرشد لدنيانا، وليس هذاالصنيع مما يختص به أهل زمان دون زمان أو أهل مكان دون مكان، بل هو سنة متجددة غي سائر الأزمنة والأمكنة، يقول الإمام القرطبي- تعليقا على صنيع يوسف عليه السلام-"«إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإن لم يكن هناك غيره وهكذا الحكم اليوم: لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه ،ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك... فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها، وعلم بذلك فالأولى ألاَّ يطلب... فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك» . تكاليف الإمارة وتبعاتها وفي كل الأحوال فمن ابتلي بالإمارة فليأخذ ما آتاه الله بقوة، وليكن حفيظا لما استودعه الله من أسباب حراسة الدين وسياسة الدنيا، وليكن عليما بمصالح البلاد والعباد مراعيا لها، وليكن كله جدا واجتهادا، فلا يتهاون ولا يتكل ولا يتكاسل، وليعلم يقينا أن الله عز وجل سيسأله عن حقوق المخلوقات يوم القيامة، وأن خصمه دون الناس محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا لم تثبت له حجة عند الخصومة كان من الخاسرين. وليكن خبيرا بما يحاك ضد قضايا دينه ووطنه وأمته جمعاء، ولا يقصر في شيء من ذلك، ولا يتوانى في إبداء بالقول والفعل معا ما اقتنع به من النزاهة والفضل والبراءة، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، فإن ذلك من إظهار الدين وتمكينه. وبكلمة جامعة، فإنه لا يحل لأحد أن يأخذ منصبا وهو غير أهل له، ومن وصل إلى منصب وهو له أهل فإنه يجب عليه أن يجرد نفسه من كل شهوة، وأن يعدل بين الناس بكل معنى العدل، بصرف النظر عن قريب وأجنبي وعدو وصديق، ومن حكم وعدل كان له عند الله أحسن المثوبة، ومن حكم وجار وفجر كان له عند الله أسوأ الجزاء، ومن عجز عن إقامة العدل وجب عليه أن يترك المنصب للقادر على العدل، وإلا غضب الله عليه، ولم يشفع له عجزه؛ عندما ينطق السفيه في أمور العامة ومع كل ما ذكر، فقد ظن من لا خلاق لهم من بني البشر أن تولي مناصب الأمة أمر هيّن، وعمل رهين بمعطيات مادية صرفة، فلا ينبغي في نظرهم أن تمنح إلا لمن يستحقها، والاستحقاق عندهم إرث يورث أو مال يكتسب، وبهذه المفاهيم المغلوطة والشعارات المكذوبة تسرب إلى قيادة الأمة وتقليد مناصبها في شؤون الدين والدنيا سفهاء لا يؤبه لهم ولا حظ لهم في استقامة الدين، أو سلامة المذهب، ولا حظ لهم في الصدق والأمانة، وهذا من علامات الساعة مما أخبر به الصادق المصدوق، فعن أنس رضي الله عنه بسند صحيح مستفيض أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:»إن أمام الدجال سنين خداعة يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة". قيل وما الرويبضة؟ قال:"الفُوَيْسِق يتكلم في أمر العامة»، وفي رواية:"السفيه ينطق في أمر العامة"، وفي رواية أخرى:"المرء التافه يتكلم في أمر العامة". وما أكثر الرويبضات في زماننا، وما أكثر السفهاء ممن يتوقون إلى تولي شؤون أمتنا في دنياها، وامتلاك الوصاية عليها في دينها، والنظر في مصالحها، والتصرف في أموالها، والتحكم في تشريعاتها، مع أن أقل ما يمكن أن يقال عن هؤلاء: إنهم أتباع غيرهم، وإن تبرأ منهم الذين اتُّبعوا، إنهم منسلخون من هوية أمتهم، متنكرون لعقيدتها ومبادئها، معرضون عن دينها، طاعنون في تاريخها وأمجادها، مستصغرون لعظمائها، مُجِلُّون لأقزام الأمم، ناظرون إليهم بعين الإكبار والإجلال، مُيَمِّمو وجوههم تارة نحو أهل الشرق، وتارة نحو أهل الغرب، يقتاتون من فُتات موائدهم منبهرين بكل ما عندهم من الرذائل مقلدين لهم فيها فهؤلاء الرويبضات، ليست قضايا الأمة واهتماماتها، وتطلعاتها وطموحاتها، إلا ناقة حلوبا بالنسبة لهم فإذا كانت الأمة بحاجة إلى العلم علّموها الجهالة، وإذا كانت بحاجة إلى الصناعة أو التجارة، سعوا لها في الارتزاق والبطالة، وإن كانت بحاجة إلى الأخلاق التي لا تنجى أمة بدونها، جلبوا لها الوقاحة والإباحية، والدعارة، وإن كانت بحاجة إلى التسديد والتوجيه، أضلوها وأخفوا عنها معالم الطريق، فتعيش الأمة نتيجة تصرفات هذا النوع من البشر غثائية على جميع المستويات، فتتحلل وتنقرض شيئا فشيئا" ، إلى أن يذهب ريحها شَذَرَ مَذَرَ بين الأمم، وما هذا بالأمر المستغرب إذا أسندت الأمور إلى غير أهلها. الدكتور ميمون باريش