على الرغم من كل ما يمكن أن تقدمه الترجمة وتضفيه من زخمٍ في دنيا الأدب وأوساط الثقافة، فإنها على المستوى المحلي خصوصا، والعربي عموما، تنتبذُ مكانا قصيّا، ولا تأخذ حظها من الاهتمام إلا فيما ندر.. والنادر لا حكم له. صحيحٌ أن تشجيع الترجمة من خلال إطلاق بعض المشاريع المؤسساتية والمبادرات الثقافية، وحتى بعض الجوائز العربية، على قلّتها، جعل عدد الترجمات من اللغات العالمية إلى العربية يتزايد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة؛ إلا أنّ رفعَ الترجمة إلى مكانتها الحقيقية لا يزال يحتاجُ بذل مزيد من الجهد رسميا، ومدنيا، وحتى إبداعيا. نجيب مبارك، إلى جانب كونه شاعراً وقاصّاً وكاتباً، هو أحد المترجمين المغاربة الشباب الّذين ينشطون بقوّة في مجال الترجمة الأدبية. بطاقةٍ لا تنضب وحماس وفيرٍ قلّ نظيره، لا يكفّ مبارك عن ترجمة نصوص يختارها بعناية فائقة، تُنشر في مجلات ومواقع ثقافية مغربية وعربية مختلفة، وأحياناً على صفحته في الفيسبوك. صدر له حتى الآن في مجال الترجمة الأدبية كتابان هما: رواية بعنوان "مستودع الطفولة" للفرنسي باتريك موديانو، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2014، عن دار منشورات ضفاف ببيروت، ورواية أخرى بعنوان "المبدأ" للكاتب الفرنسي جيروم فيراري، عن دار مسكيلياني بتونس. حول هموم الترجمة والإبداع عموما، كان لهسبريس مع نجيب مبارك الحوار التالي.. أعرف أنك شاعر في الأصل، وسبق أن حصلت على جائزة اتحاد كتاب المغرب في الشعر سنة 2004، وهذا يدفعني إلى سؤالك مباشرة: كيف بدأت علاقتك بالترجمة؟ وأي شعور ينتابك وأنت تترجم لشاعر آخر؟ كيف تستطيع أن تنزع قبعة الشاعر وتلبس قبعة المترجم؟ وكيف تتمكن، والحالة هاته، من ممارسة "الخيانة الجميلة"؟ ترجمةُ الشعر بالنسبة إلي شغفٌ قديم يعود إلى أيّام الدراسة في الثانوية. واهتمامي بالترجمة بدأ بالموازاة مع نشر أولى قصائدي في الصحف الوطنية. لهذا، يصحّ القول إنّني جرّبتُ القبّعتين معاً منذ البداية: قبعة الشاعر وقبعة المترجم، ولم أجد يوماً تناقضاً أو تنافراً بين كتابة نصّ شعري بالعربية أو ترجمة آخر من لغة أجنبية. أذكر أنّني في تلك الفترة حاولت أن أترجم بعض القصائد القصيرة الّتي كان يتضمّنها كتاب "القراءة" الفرنسي، ومنها قصائد لرامبو وبودلير وهوغو ولامرتين ومالارميه، من باب حبّ الاطلاع على تجارب هؤلاء الشعراء الكبار، وهي محاولات لم يكن الغرض منها النشر، وبقي معظمها مسودات غير مكتملة؛ لكنها على الأقلّ حقّقت المطلوب منها، وهو الاستئناس بالشعر الفرنسي. أمّا عن إحساسي كشاعر عند ترجمة شاعر آخر، فهو في الحقيقة إحساس مَن يلتقي بصديق قديم، تجمع بينهما ذكريات مشتركة بعيدة، يجلسان رأساً لرأس على طاولة مقهى، ويتجاذبان أطراف الحديث في شؤون وشجون الإبداع الشعري. هكذا أتصوّر الأمر، وأعتبر كلّ شاعر ترجمتُ له نصاً أو نصوصاً بمثابة صديق، وليس في الأمر "خيانة" ولا هم يحزنون. هناك ربّما، على العكس، استقبال واحتضان لنصّ مهاجر وتوفير الظّروف المناسبة له للإقامة الكريمة والدّائمة في لغة أخرى، مثلما هناك وفاء وامتنان وعرفان بالجميل: أن تلتقي بنصّ شعري جميل، وينال إعجابك إلى درجة أن تقرّر "إعادة كتابته" بلغتك، فهذه دعوة صداقة من شاعر لم يعد غريباً. بالحديث عن الترجمة، وأنت تنشر في الصحافة منذ سنوات طويلة، كيف ترى نصيب الترجمة الثقافية عموماً، الأدبية خصوصاً، في وسائل الإعلام المغربية ثم العربية؟ أظنّ أن نصيبها أفضل بكثير من السابق، وحظّها اليوم أوفر ممّا كان عليه الحال قبل عقود. ربّما يرجع ذلك بالأساس إلى انتشار الأنترنيت وسهولة الوصول إلى النصوص الأجنبية، مثل: الأعمال الإبداعية الكلاسيكية العالمية، وجديد الإصدارات الأدبية والثقافية، والمكتبات الإلكترونية، والمواقع المتخصّصة، والمجلات الأدبية...وغيرها. أما بالنسبة إلى حضور الترجمة في الإعلام المغربي، فأظن أن الأمور تسير بالمقلوب: حين كان هناك زخم كبير في الترجمة، نقداً وفكراً وإبداعاً، خصوصاً في الثمانينيات وبداية التسعينيات، انعكس ذلك بقوّة في الملاحق والمجلات الثقافية الوطنية؛ لكنّنا اليوم نشهد تراجع هذا الحضور للترجمات الأدبية، وإن تزايد في المقابل عدد المترجمين المغاربة وتنوّعت الترجمات في أجناس أدبية كثيرة، والسبب هو أنّ أغلب المترجمين المغاربة يفضّلون نشر إنتاجهم في الخارج، لأسباب عديدة. في هذا السياق، ماذا يمكنك أن تقول عن الجوائز العربية التي تخصص للأعمال المترجمة؟ الجوائز مهمّة في أيّ حقل من حقول الإبداع الإنساني. وهي لا يجب أن تُطلب لذاتها، وإنّما يجب أن يكون دورها هو التشجيع والاعتراف بمجهود المترجم وتحفيزه وربما ضمان انتشار أعماله على نطاق واسع؛ لكنها في العالم العربي لا تؤدّي هذا الدور للأسف، لندرة هذه الجوائز وافتقادها للتخصّص من جهة، وغياب رؤية استراتيجية واضحة لمؤسّسيها من جهة ثانية. هذا إضافة إلى الخلط بين ترجمات الأعمال الإبداعية والأعمال النظرية أو الفكرية، وحشرها في صنف جائزة واحدة للترجمة، وتشكيل لجان تحكيم عشوائية تستقبل أحياناً أعمالاً مترجمة من أكثر من لغة عالمية دفعة واحدة، ويغيب عن عضويتها المتخصصون في مجال الترجمة أو الجنس الأدبي أو الحقل المعرفي موضوع الجائزة. من خلال تجاربك في نشر الترجمات، هل ترى أن دور النشر العربية ترحب بالترجمات؟ أي نصيبٍ بها في نظرك في خضم ما يُطبع وينشر؟ هل يتم منحها تمييزا خاصا أم أنها تعامل كباقي مشاريع المؤلفات؟ لا أعتقد أنّ الناشرين العرب يميّزون كثيراً بين الترجمات وباقي مشاريع المؤلفات، أو يفضّلون الأولى على الثانية. صحيح أنّ الترجمات، خصوصاً منها الروايات، تلقى رواجاً في السنين الأخيرة لدى القرّاء العرب؛ لكن ربّما هذه النظرة تبدو مبالغاً فيها، لأنّ هناك أعمالاً لكتّاب عرب تلقى الرّواج نفسه أو أكثر. ثمّ إنّ وظيفة الناشر الحقيقية يجب أن تكون هي نشر المعرفة بكل أشكالها، وليس الاقتصار على الترجمات فقط، لكن من المسلّم به هو أنّ البحث عن هامش الربح يمثّل الهاجس الأوّل لكلّ ناشر، وأحياناً على حساب جودة وإتقان هذه الترجمات ووفائها للنص الأصلي. وفي هذا المجال، يمكن بسهولة للقارئ الحصيف، خصوصاً إذا كان يتقن لغة أجنبية، أن يقف على كوارث ترجمية تعدّ ولا تحصى، تسبَّب فيها مترجمون هواة، بتحريض من بعض المحسوبين على مجال النشر من الكُتبيين وتجّار الورق. تترجم من الفرنسية والإسبانية إلى العربية، ومن خلال متابعتي لترجماتك أشعر بأنك تتذوق الأشعار أو القصص قبل أن تترجمها. فما المعايير التي تعتمدها قبل اختيار عملٍ ما لترجمته؟ بالفعل، لا أترجم من النصوص إلا ما يستفزّني ويجذبني بقوّة إلى القراءة وإعادة القراءة، بما يصاحب ذلك من دهشة واستغراق ومتعة اكتشاف. حين أعثر على نصّ شعري أو قصصي جميل أستمتع كثيراً بقراءته، وأكتشف أنه لم يُترجم بعد، أتحمّس تلقائياً لترجمته وكأنّني بصدد كتابة نصّ إبداعي خاصّ. ثمّ إنني أجد في الترجمة متعة تضاهي أو تفوق أحياناً متعة الكتابة، دون الحديث عمّا يقدمه هذا الجهد من تيسير وصول بعض النصوص المجهولة إلى القارئ العربي أينما كان. لذلك، فمعظم ما أترجمه ينبع من اختيارات ذاتية، توافق ذائقتي وتفضيلاتي الجمالية في القراءة، ومن النادر جدّاً أن أترجم نصّاً تحت الطلب. أصدرت ثلاثة دواوين شعرية مقابل روايتين مترجمتين.. هل يعني هذا، بمنطق الأرقام، أن الشاعر داخلك لا يزال ينتصر على المترجم؟ ولماذا اخترت ترجمة رواياتٍ وليس أشعاراً؟ لا أؤمن كثيراً بمسألة تنازع الأدوار بين الشاعر والمترجم، أو انتصار أحدهما على الآخر؛ لأنّ لكلّ واحد منهما مجاله المحفوظ الذي لا يتطاول فيه عليه الآخر. ثمّ إن حضور الشاعر مثلاً لا يُقاس بعدد الدواوين التي يصدرها، لأنّ وتيرة النشر تختلف من شاعر إلى آخر. وإذا اختار الشاعر أن يترجم، في مرحلة ما من مسيرته، فهذا لا يعني خروج الشعر من دائرة اهتمامه أو نفاد ذخيرته الشعرية. الشعر بالنسبة إلي يبقى مصدر كلّ إبداع أدبي، مهما اختلفت الأجناس وتعدّدت الاختيارات. ولكن بمنطق الأرقام نعم، ربّما قد يتفوّق المترجم على الشاعر على المدى المتوسّط. لأنّني بصدد العمل على الكثير من مشاريع الترجمات: في الشعر، القصة والرواية. وبالنسبة إلى اختيار الرواية حتى الآن، فالأمر مصادفة فقط، وربما يعود إلى سهولة ترجمة عمل واحد منسجم ومسترسل مقارنة بالقصص القصيرة أو القصائد الشعرية، الّتي تحتاج إلى مجهود مضاعف في الاختيار والترجمة. بين الشعر والرواية يقعُ برزخُ القصّة القصيرة.. وقد قمت باجتيازه أيضا من خلال مجموعة "الأعمال الكاملة للزومبي" الصادرة عن دار الأمان بالرباط. ألا يؤدي هذا بشيطان شعرِك إلى الارتباك وأنت تتنقل بين أجناس أدبية مختلفة، بلهَ الحديث عن الترجمات؟ كما أشرتُ في الجواب السابق، لا مجال لتنازع الأدوار بين الترجمة والأعمال الإبداعية، سواء كانت شعرية أو نثرية كالقصص القصيرة مثلاً، لأن لكلّ منها مجاله المحفوظ. حين لا أكون بصدد كتابة نصّ شعري أو قصصي أو مقالة، أقوم بالاشتغال على الترجمة أو تصحيحها ومراجعتها. هناك تناوب بين العمليتين إن صحّ التعبير. وبالنسبة إلى الترجمة، فالأمر يشبه ورشة مفتوحة على العديد من النصوص بالفرنسية والإسبانية، في انتظار أن يتوفّر الوقت والمزاج والرغبة في استئناف ما سبق أن شرعتُ في ترجمته من نصوص، أو ترجمة نصّ جديد طارئ ومُلحّ لا يقبل التأجيل.