سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حوار مع الراحل محمد الميموني ينشر لأول مرة:أنا مغربي الهوى، عربي الانتماء، لا أحب أن أنتمي إلى جهة القصيدة لا تحتاج إلى المناهج فهي تجيز لنفسها أن تنتقل إلى الحقيقة، وإلى جوهر ما وراء الأشياء التي تبدو واقعية
نلتقي في هذا الحوار مع الشاعر الرحل المغربي محمد الميموني (81 عاما) الذي غيبه الموت صباح الخميس 12 أكتوبر 2017، وهو الحوار الذي لم يسبق له أن نشر، وأجري في وقت سابق. ويعد من بين الأسماء الأساسية في الشعر المغربي، وواحد من مؤسسي الحركة الشعرية المغامرة بأسئلتها وقلقها وتياراتها المتعددة، وبالتالي فإن هذا الشاعر له اطلاع واسع وانفتاح على الثقافة الاسبانية، منها القديم والحديث والمعاصر، ترجمة ودراسة. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الحوار امتد أكثر من جلسة مع الشاعر محمد الميموني، من أجل سبر أغوار جوانب الإبداع عنده، ثم من أجل دواعي الإنصات إلى تجربته العميقة من خلال سيرته الذاتية مع الكتابة، سيما أنه مفتون حد العشق بغرناطة، وفي هذا السياق أكد بأن « الشاعر الحق هو ذلك المستعد المتنبه للاستمرار مع كل جديد، ولكن يجب أن نقول بأنه قد يساعدك التواصل أن تضطلع على الجديد». ومن هذا المنطلق نعتبر هذا الحوار شرفة من أجل الإطلالة على المشهد الشعري المغربي المعاصر في بداية القرن الحادي والعشرين والعلامات التي أصبحت ملازمة لهذا الشعر، في المتخيل العام، وفي الوعي الحالي، أي من منذ تأسيس القصيدة المغربية مع روادها في بداية الستينيات، ضمن نسق تاريخي وثقافي، من أجل تبوث شرعيتها المغربية التي لا تقل عن نظريتها المشرقية. وفي مقابل هذا التوازي يقول الناقد الأدبي صبحي حديدي : «تبدو القصيدة المغربية وكأنها قطعت المسيرة المعقدة اللازمة للوصول إلى أكثر من حقل واحد لجماليات التعبير الشعري وصياغات الحقيقة الشعرية»
– كيف تأتيك القصيدة … لكي تكون لك مجالا يتحقق فيه الحلم والخيال بالإبداع ؟ – أنا في الحقيقة أصبحت عندي لحظة بداية كتابة القصيدة هي لحظة ما ، علمتني السنون والتجارب أنه كان يقال لنا بأن الشعر موهبة وإلهام ، وهذا كان من الخطأ والجهل بحقيقة الشعر ، فقد تلقينا في بداياتنا الأولى معلومات خاطئة في مجال الإبداع، أي إبداع القصيدة، حتى كتبنا الصفراء، وغير الصفراء – القديمة – وحتى «ألف ليلة وليلة» غالبا ما تكون مبدوءة بعبارات من قبيل : « وأنشأ يقول… فرد عليه…» – أثناء حوار ارتجالي يأتي – ، فهذه الصور توحي بأن ذلك الشاعر الذي يقال له قل الشعر فينطلق، حقيقة هذا ينسجم مع بنية العرب التي هي ارتجالية، وحتى الذين كانوا يحفظونها حقيقة عن ظهر قلب، ليظهروا أمام المتلقي أنهم حقيقة يرتجلونها، وفي نظرهم فإن عملية الارتجال تعتبر هي الميزة التي تميز ما بين شاعر وشاعر لا يستطيع الارتجال الذي هو ليس بشاعر، و ليس قويا، وقد حصلت لي تجربة في قلب الوطن العربي في دولة عربية قحة، حيث طلب مني أحدهم، كنت حينها أحضر مناسبة أدبية أن ألقي قصيدة، فقلت له ليس معي لا ديوان ولا قصيدة ، فرد علي : «ألا تحفظ قصائدك ارتجالا « ، فأحسست بأنه يعتبر أنه من القيم الشعرية أن يكون الشاعر قادرا على إلقاء القصائد، وفي نظري هذا من عيوب الفهم الشعري عندنا، فنحن لم نزل لا نميز ما بين الفكر والشعر، بينما الثقافة الأوروبية والعالمية الآن انطلقت من فهم آخر، التي انطلقت من فهم كتاب أرسطو الذي تكلم عن الشعر في كتاب الفلسفة، بينما العرب لم يعرفوا كيف يترجمون كتاب الشعر ل : أرسطو ، حيث نجدهم ترجموا ما يتعلق بالمسرحيات، ولما أرادوا ترجمة الشعر أخطأوا فترجموا المأساة بالهجاء ، فهم لم يفهموا بصفة عامة ومطلقة ماقصده أرسطو في كتاب الشعر، وهو يتكلم عن حقيقة الشعر، أو قل عن ماهية الإبداع ، ففي الشعر خارجا عن الفكر في مسيرة الثقافة العربية هناك علم الكلام، الفقه و الفلسفة، لكن الشعر وحده لم يكن يسير في توازي مع تطور الفكر بل بقي معزولا، أما الآن فمن معالم الحداثة الأساسية هو رجوعنا إلى هذا الكتاب . الشعر العربي يتناقل شفهيا أي ينتمي إلى العهد الشفهي، وقد مر من هذه المرحلة الشفهية إلى المرحلة الكتابية، ولكننا نحن لازلنا إلى حد الآن لم ننتقل بصفة مطلقة إلى مرحلة الكتابة، لازلنا في المرحلة الشفهية، ولازلنا نقول إن العلم يؤخذ من أفواه الرجال، وراحت بعض الأشياء في أننا نتلقى المعرفة شفهيا ، ونحن في قضية الشعر نلاحظ – قد تكون ملاحظتي خاطئة- أن الإقبال على الشعر إلقاء أكثر من الإقبال عليه قراءة ، ففي بعض اللقاءات الشعرية يجلس بعض الناس ويستمعون ويصفقون، لكنهم لا يشترون الديوان ، فذهنية التلقي هي لازالت سائدة أكثر من تلقي الكتاب، بل طابع عامل الحداثة هو الانتقال نهائيا إلى مرحلة الكتاب، ومرحلة الكتاب أي كتابة القصيدة ليست هي الإلقاء، فكتابتها هي التأمل فيما تكتب، بالاعتماد على المرجعيات الثقافية والأدبية العالمية، إذن لم تعد القصيدة مجرد خواطر متلاحقة كيفما اتفق، بل أصبحت عملا بنائيا، لذا فالطابع العام للحداثة هو الانتقال نهائيا إلى مرحلة الكتابة، وفي مرحلة الكتابة لا نحتاج إلى كثير من العناصر أن تتجمع وتكون ما يسمى بالقصيدة :(عناصر لغوية، عناصر شكلية، عناصر إيقاعية، وعناصر فكرية) إلى درجة أن القصيدة ليست استجابة لموهبة أو لعاطفة، أو استجابة للحظة، بل هي لحظة تأمل واستفسار لا يقل عن الاستفسار الكتابي، بل هو أعمق منه، لأن الفكر يحتاج إلى تحليلات وخطوات لتصل إلى حقيقة القصيدة، أما القصيدة الحديثة فهي تتجه إلى الحقيقة، وتحاول أن تلامس جوهر الأشياء، ذلك الجوهر الذي يحتاج إلى العلم والفلسفة، لكن القصيدة لا تحتاج إلى المناهج فهي تجيز لنفسها أن تنتقل إلى الحقيقة، وإلى جوهر ما وراء الأشياء والتي تبدو واقعية وبكيفية مباشرة، هذا في نظري ما يجعل الآن من الشاعر مفكرا، ورائدا ليس في القطاع الشعري فقط، ولكن قد يكون أيضا لمستقبل إنساني معين . – تعددت الآن الوسائط التي تستعمل في القراءة والكتابة، هل لازلت تجلس أمام الورقة والقلم، تشطب وتعيد صياغة الكلمة مستعينا بالحبر، أم عندك وسائط أخرى حديثة كاستعمالك الإنترنت والحاسوب، حيث تبدو المسألة جد مريحة، وتعطي للقصيدة فضاء أرحب كي تحلق بأجنحتها عبر الكون ومن غير مشقة ؟ – صحيح أن ما يقع الآن في العالم شيء معجز ، حيث أن وسائل التلقي، ووسائل النشر جديدة وهامة جدا ، ولم تكن قط ، و لا أعتقد أن هذا يتناقد مع الشعر ومع جدة الشعر ولا مع الشاعر، بل إن الشاعر كان دائما في مقدمة القافلة للوعي بالأشياء الجديدة ، الشاعر الحق هو ذلك المستعد المتنبه للاستمرار مع كل جديد ، ولكن يجب أن نقول بأنه قد يساعدك التواصل أن تضطلع على الجديد ، أو تتراسل بسرعة أفضل ، وكما قلنا أن تحافظ على نص القصيدة من أي أخطاء أو تحريف قد يقع فيها الطابعون في الكتاب، أو المجلة ، وتستطيع بذلك أن تكتب قصيدتك، وتتأكد من سلامة الكتابة، وهذا شيء مهم جدا، أي أنك تسلم القصيدة لقارئها سليمة كما أردتها ، وقد كان يحصل كثيرا أن تحرف الكلمة، وتعرف أن الكلمة في الشعر هي بنية أساسية، إذا حرفت أو جاء بها خطأ ربما أثر ذلك على جوهر القصيدة كلها ويضر بها كثيرا، لذا فهذه الوسائط مكسب مهم بالنسبة للقصيدة ، ولكن مع ذلك أعتقد أن ملامسة الكتاب، وملامسة الديوان وتقليب الصفحات ، والقراءة بالتأني، والعودة إليه في جميع الأوضاع سواء كنت أمام الحاسوب، أو في فراشك ، أو في الشارع أو في الحديقة أو في حافلة أوفي قطار، هذا شيء لا أعتقد أن الزمان سيلغيه، وأعتقد أن هذه الوسائل لا تعارض فيها بل بالعكس يجب دفع الروح الشعرية إلى أن تسكن كل الكائنات، وهي بالفعل تسكنها، لكننا نحن غافلون بطبيعة الأغلبية الساحقة عن روح الأشياء في تكوين الحياة ، حيث لا يميز الشاعر والفنان بصفة عامة عن غيره ، إلا أنه مهووس بأن يبحث عن جواهر الأشياء ، وبكل اختصار يمكن أن أقول بأن جواهر الأشياء هي الشعرية، حيث نجد بعض النقاد يتكلمون عن شعرية الرواية، شعرية السينما و شعرية المسرح، أم أرادوا أم يقصدون تلك الأشياء التي تكمن وراءها فالحياة هي مظاهر نراها تنهار وروح الحياة و شعريته، فأن تتجه الاهتمامات إلى البحث عن شعرية الأشياء بواسطة السينما، بواسطة المسرح بواسطة الفيديو بواسطة أية وسيلة فذلك شيء جميل جدا، ولكننا مع الأسف لا نرى أن الاتجاهات الثانية تتجه في هذه الأشياء، بل بالعكس نرى الكثير من السينما الكثير من المسرح ، وكثير من الفيديو يتجه إلى تسطيح الأشياء لا إلى جوهرتها، فإذا ما اتجهت الأشياء إلى جوهرتها فذلك طيب، أعرف أن تلك مشكلة ، أن هذه الوسائل كالسينما والفيديو والإنترنت هي مسائل جواهرية، وهناك مشكلة ما بين جواهرية الأشياء وفنيتها، فإذا احتفظ السينمائي مثلا أو المسرحي بجوهرية الأشياء وبحث عن شعرية الأشياء، فإن الإقبال على عمله سيكون قليلا بطبيعة التكوين البشري، وإذا تخلى عن جوهرية الأشياء وذهب إلى سطحيتها فإن الجماعة تكون معه، وهذا هو السقوط الذي تكون فيه بعض السينما، ولكن مع الأسف والفشل الذي يقع لبعض الأفلام السينمائية التي يحاول أصحابها أن يحتفظوا بشعرية الأشياء، إذن قليلا ما نجحت الأشياء التي ربما كانت هناك قليلا عبقريات قوية استطاعت أن تحتفظ للأعمال الجماهيرية كالسينما وغيرها بروح الفنية وبروح التجارية، لا ننسى أن السينما والفيديو وغيرها والأغنية هي جزء تجاري لابد منه وجزء فني، و أسأل لماذا تنجح أم كلثوم في أن تمسك بهما معا، تلك عبقريات، أو محمد عبدالوهاب أن يمسك بالأغنية وبالجماهيرية، فالأغنية كالأفلام أيضا لها جمهور واسع وهي المحتفظة بالروح الفنية فالأمر يتعلق بالاجتهاد العميق لكي نحاول أن نخاطب الجماهير بمستوياتها، «كليلة ودمنة» مثلا هو عمل يقرأه الأطفال ويتسلون به ويقرأه الفلاسفة تلك هي العبقرية، «ألف ليلة وليلة» يتسلى بها الناس في سهراتهم ولكنها تحمل عمقا إنسانيا بعيدا، إذن تلك هي العبقرية أن تكون الأشياء في متناول أكبر عدد ممكن من الناس دون أن تفرط في شعريتها ولكن الذي يحصل وبدعوة مخاطبة أوسع الجماهير نرى سطحية الأشياء . – ترجمة الشعر تكون في غالب الأحيان محفوفة بالمخاطر، إلى أي مدى تكون هذه الترجمة حقيقية مائة في المائة، إذا ما قارناها مع نصها الأصلي ؟ – قلت لي خلال هذا السؤال بأنه هناك مسألة الترجمة الحقيقية هو موضوع آخر، ولكن فيما يتعلق بالترجمة ليس كل الترجمات هي ترجمة أدبية أتكلم عن الشعر هنا، أما القصة والرواية فذلك شيء آخر، نختلف أن تترجم قصة أو رواية لا تحتاج إلا أن تكون متمكنا من لغة ما وإن كان أحيانا العبارة في الرواية تحتاج إلى ثقة شعرية لكي تلتقط ما أراد الروائي أو القصاص أن يقوله، إننا نتكلم عن شعرية الرواية، كثيرا ما تفوت المترجم شعرية الرواية والقصة فينقل أحداثها وحوارها ولغتها ولكن قد تفوته شعرية القصة والرواية، لكن هذا قد لا يحدث كثيرا، وقد لا يضر كثيرا ، أما القصيدة إذا نقلتها ولم تقل شعريتها فإنك قتلتها، يعني لا فائدة من الترجمة، وبكل تواضع إذا كنت أضرب مثلا ببعض الأشياء التي وقعت بشعري إنني أريد أن أتكلم عن شيء أنا متأكد منه، أنا حصل لي في جلسة شبيهة بهذا يجري معي حوارا وأثناء الحوار أطلعني على قصيدة مكتوبة بالعربية ويطلب مني أن أناقشه في قصيدتي فلاحظت بأنه لا علم لي بهذه القصيدة وعندما بدأ يقرأها بدأت بالفعل بعض الأشياء هي قصيدة سبق لي أن كتبتها ، فبعد استفسار وجدت أن القصيدة كتبت بالعربية في الستينات وترجمها الطاهر بنجلون للفرنسية، وترجمها أحدهم في لبنان للعربية، والأخ الذي يناقشني القصيدة مترجمة إلى العربية عن الفرنسية، ففقدت كل بناءها بينما لم تفقد صورتها عند الطاهر بنجلون ، ترجمتها إلى العربية عند الطاهر بنجلون بقيت رغم أن الطاهر بنجلون قبل أن يكون روائي هو شاعر، كما أن ترجمة الطاهر بنجلون للشعر المغربي كان يساعده في ذلك محمد برادة فكان هناك نوع من الحفاظ على شعرية القصيدة أقول ذلك فليس بالنسبة لي حتى بالنسبة للاخرين، فإنني أتكلم عن قضية أعرفها ، فعندما حولها أحدهم في لبنان في كتاب جمع فيه مجموعة من القصائد وأخذ تلك القصيدة وترجمها عن الطاهر بنجلون وأصبحت بذلك الشكل المشوه، هذا يحصل في مناسبات لابأس من هذه الأنانية البريئة أن أقول قد ترجمت لي بعض القصائد وقرأتها فلم أجد أي اثر للشعر و لقصيدتي الأصلية، وأستطيع أن أقول يجب أن نحذر من الترجمة فليست كل ترجمة مفيدة، بل هي مضرة سواء تكلمنا عن ترجمة العربية الأصل إلى الأجنبي أو ما يترجم الآن من الأجنبي إلى العربية، فكثيرا ما تسلخ القصيدة الأجنبية من أصلها وتبدو هيكلا عظميا ميتا، وهذا مارسته ولذلك لا أقرأ الشعر الأجنبي إلا باللغة التي أعرف، أحاول أن أقرأه بالأصل، ولست من هواة قراءة الترجمة وخصوصا فيما يتعلق بالشعر، أقرأ الأشياء من العربية في كل مجالات الثقافة أقرأ إلا الشعر، فأنا أحاول أن أقرأه بلغته حتى لو كانت لغته صعبة بالنسبة إلي أحاول أن أترجمه بنفسي، على الأقل أحاول أن أترجمه بواسطة المعاجم والمناجد لأقترب إلى القصيدة في لغتها الأصلية، لأنني فوجئت بكثير من المرات بشاعر استصغرت قيمته حين قرأته مترجما إلى العربية وعندما أتيحت لي الفرصة أن أطلع عليه وجدته شيئا آخر، فإذن هذا مع الترجمة مع الأسف لأن هناك جوقة كبيرة وأصبح الكل يترجم ويجب أن يحذر من هذه الموجة فليست كل حقيقة من الأهمية أن نعتبر إحدى المؤشرات على الحركة الثقافية بالمغرب . – ما الذي يشغلك الآن في القصيدة وفي الكتابة ؟ – ربما قلت لك أنني أحاول ذلك المستحيل، وأعرف حق المعرفة أن الكل يحاوله، وحاوله الذين سبقوني، أن تقول القصيدة التي تريد أن تقول، تلك القصيدة التي لم تقلها، كلما أكملت قصيدة وأنهيتها أحسست بأنها ليست القصيدة التي كنت أريد أن أقول، وكان علي أن أطيلها قليلا، وكان علي أن أراجعها. دائما يبقى هذا الهاتف، وكل قصيدة أبدأها يكون هاجسي أنها ستكون مخالفة وجديدة، كيف سيتم ذلك ؟ وهذا هو الهاجس، صحيح هو هاجس ملازم في صورة الوسواس، ولكنه ضروري، فدائما سخرت داخل نفسي من أي واحد في مجال الشعر أو غيره، ذلك الذي يقول: « أنا كتبت أحسن ما عندي هو الديوان الفلاني (…)، وأفضل ما كتبته هو كذا(…)» ، أعتقد أنه لا يعيش هذا الهاجس، وذلك ليس في صالحه، و في هذا المجال وعلى سبيل الثرثرة فقط ، أذكر في مرحلة قديمة من حياتي أن أستاذا كان زميلي في مدرسة بفاس، وكان خريج القرويين، وكان يفتخر كل صباح، أو كلما جاء الحوار معه يقول إنه لا يُحَضِّر دروسه، فهو لم يفتح كتابا منذ تخرجه من القرويين – لا يقولها سخرية – بل اعتقادا منه أنه قرأ كل شيء، ولم يعد هناك ما يقرأ، في تلك المرحلة كنت أمزح مع ذلك الأستاذ لأنه كان خفيف الروح، ولم أعط قيمة للقضية، ولكنني في حياتي صادفت هذه الصورة الكاريكاتيرية كثيرا، ولكن ليس بهذه الصورة فكثير من الناس يقولون كتبت، وكتبت أحسن ما كتبت، ويعتقد أنه وصل إلى النهاية، ففي رأيي إذا رأيت أي إنسان في أي مجال يعتقد أنه وصل وأنجز ما عليه إنجازه فأقول إنه انتهى، أعتقد أنه يجب أن يكون ذلك الهاجس الذي يقول غدا سأكتب أفضل، فأعتقد أنه لن ينتهي الإنسان، وربما لما يقول أنا كتبت أحسن ما عندي ، داخليا يكون هاجس داخلي يقول له استنفدت ما كان عندك وعليك أن تسكت . – أود في هذا السؤال أن تتحدث لي عن المناخ الثقافي لمدن شمال المغرب بصفة خاصة ، وهل كان الجو مساعدا من أن تحتل هذه الأخيرة موقع الريادة في المنجز الشعري المغربي ؟ – بدون أي جهوية أو شوفينية محلية أنا أعتبر نفسي بعيد كل البعد عن هذه الهواجس ، أنا مغربي الهوى ، عربي الانتماء ، لا أحب أن أنتمي إلى جهة حتى عندما يقول لي أحد إنك شاعر من جهة ما ، فإنني أحس بشيء من عدم الرضى ، فأنا أحب أن أكون شاعرا والسلام ، ولكن هناك واقع يجب أن نستذكره وأن أستحضره في منطقة المغرب الكبيرة التي كانت تسمى المنطقة السلطانية إذاك، التي كانت ثقافيا أضيق، والسائد فيها كان هو التعليم الفرنسي (اللغة الفرنسية)، بالرغم من أن الحركة الوطنية كانت تصدر مجلات ثقافية، وكان هناك كتاب وشعراء يكتبون بالعربية، لكن المجال في تطوان، وفي الشمال كان أوسع بكثير، فقد بقي التعليم معربا، وبعض التعليم الأصيل حيا يعطي اعتباره، والتعليم كان في كل مدن الشمال بالعربية، أما الإسبانية فقد كانت هي اللغة الثانية، إلى جانب الحركة الثقافية التي نضجت في الشمال، وفي تطوان بصفة خاصة، ونضجت ابتداء من الثلاثينات وقويت في الأربعينات، بحيث كانت تصدر عدة مجلات ثقافية حيث اعتبر ذلك ظاهرة ممتازة ، وكان يراسلها حتى الشعراء والكتاب المغاربة الذين يكتبون بالعربية من الرباط وفاس، وأقدم خير مثال على ذلك الشاعر محمد السرغيني الذي كان ينشر شعره الأول في مجلة «المعتمد» وفي مجلة «الأنيس» وفي غيرهما من المجلات التي كانت تصدر في تطوان، و كل الأسماء التي كانت تكتب إذاك كانت تراسل هذه المجلات، أي أن الجو كان مهيئا في الشمال لانبات وتوريث حركة ثقافية، فإذا كانت الحركة الشعرية بصفة خاصة وهذا يجب أن يقال للتاريخ ، وكما أكدته لا يتعلق الأمر بميل إلى جهة ما، لكن الدارسين للشعر المغربي ينسون فترة مهمة من تاريخ الشعر المغربي، وهي فترة الثلاثينيات وفترة الأربعينيات، وخصوصا ما قدمته مجلة «المعتمد»، التي كانت تصدر باللغتين، وهي مجلة شعرية على الأقل امتزج فيها الشعر المغربي ، العربي ، بالشعر الإسباني، واضطلع من خلالها الشعراء المغاربة على تجارب رائدة من الشعر الإسباني إذاك ، الذي كان يعيش إحدى لحظات الوهج في ظل جيل 27 (جيل لوركا) ، وجيل سالفادور دالي كرسام وويليم الكسندري وهو شاعر إنساني كبير – حائز على جائزة نوبل- ، الذي هو الآخر كتب في مجلة «المعتمد» ، إذن هذه التجارب كانت تترجم إلى العربية، ومن هنا كان المغاربة يتابعون كل ما يترجم، ومنهم من كان يعرف الإسبانية ويضطلع على اللغة الإسبانية . وما كان يجب أبدا من الخطأ العلمي والتاريخي أن نغفل هذه المرحلة ولا نعطيها ما تستحقه من كونها تأسيسية في تاريخ الشعر المغربي، فليس من الصدفة أن ينبثق الشعر المغربي الحديث أو التجربة التحديثية حتى ولو لم يكن الشعراء تطوانيون، أو حتى لو لم يكونوا شماليون، فهم كانوا يكتبون في هذه المجلة، ولي في هذا المجال دراسة متواضعة عن مدرسة تطوان التي هي جزء من كتاب حول : «الخطوات الرائدة في الشعر المغربي الحديث « حيث بدلت فيها جهدا، ولمست خطوات تحديثية في شعر عبدالكريم الطبال إذاك الذي كان ينشر إلى جانب تجارب أخرى، لكن الذي يتأمل فيما كان ينشره عبدالكريم الطبال في بدايته وكذلك محمد السرغيني في بدايته، تحس بأن هناك نفسا جديدا كان يتكون ، فالذي حصل أن بدور الحداثة الشعرية انطلقت من ما كان ينشر بتطوان، وكان هناك احتكاك مباشر ما بين التجربة الشعرية الإسبانية التي كانت في أوجهها، وكذا احتكاكها بالشعر العالمي، من هنا لابد لهذه الحركة التي كان مجالها هو هذه المجلات التي كانت تصدر من تطوان أن يكون لها تأثير، وأنا ألح بكل تجرد ونزاهة أن يقع الاعتكاف على هذه المرحلة بمعرفة علمية حقيقية بمرحلة أساسية من تطور الشعر المغربي الحديث، وحتى لا نقفز على المراحل وننسب الحداثة لغير مؤسسيها على أن نعطي لكل ذي حق حقه. – الأستاذ محمد الميموني أنت من الشعراء الذين وضعوا اللبنة الأولى لمهرجان الشعر المغربي الحديث بشفشاون، هل يمكن لك أن تتحدث لنا كيف جاءتكم فكرة تأسيس هذا المشروع الثقافي الرائد ؟ – إن مسألة تأسيس فكرة المهرجان جاءت في فترة كانت تعرف بدمار الشباب الذي لا يعرف حدودا، ولا يعرف خوفا ، حيث كانت الظروف كلها ضد أن نفعل شيئا من هذا المستوى ، لم يكن هناك تشجيع لامادي ولا معنوي ، باعتبار أن الظروف السياسية و الاقتصادية في البلد ، كانت تمنع أي شيء من هذا القبيل ، ثم أن الجمعية لم تكن تتوفر على أي مستوى من الإمكانات المادية ، ومع ذلك كنا شبابا ، وكان المغرب إذاك يغلي بطموح الشباب بعد عهد الاستقلال ،حيث كان جيلنا يحس بأن عهدا جديدا قد حل ، وعلى المغرب أن يتقدم ويتطور . والواقع أن الجانب الإيجابي في الموضوع أننا وجدنا استجابة منقطعة النظير من شعراء المغرب من أقصاه إلى أقصاه ، بل تنافس الشعراء في أن يحضروا على حسابهم الخاص بوسائلهم المتواضعة، وبالطرق السيئة التي كانت في المغرب إذاك ، ومع ذلك فقد جاء الشعراء من جميع أنحاء المغرب ، فهذه هي ظروف التأسيس ، التي هي في الحقيقة فيها دوافع وطنية وثقافية . وأعتقد أن المغرب إذاك كله كان يغلي بهذه الطموحات ، فقد تأسست الكثير من الأشياء في تلك المرحلة مثل اتحاد كتاب المغرب، و الجمعيات، وبعض الأحزاب السياسية ، ومن تم كان شمال المغرب في حالة من الطموح والعزيمة، لو لم يحبط في الستينات لكان المغرب شيئا آخر، أستطيع أن نقاول الشعوب التي حققت الآن طموحا، وأغرب مثال نقارن به ذلك هو إسبانيا التي كانت في تلك المرحلة تشابهنا في جميع المستويات ، ولكنها توفرت على عزائم، و على قدرات و على طموح وعلى إرادة سياسية ، فحققت ما حققته الآن، ولا أعتقد أننا كنا سنكون أقل لو تحققت الإرادة السياسية، بل كانت الإرادة السياسية بذرة غضة بكل طموح، ومن جملة الأشياء التي عاكستها الإرادة السياسية هي مهرجان الشعر بشفشاون، فكانت عزيمتنا الغضة أقوى من الإرادة السياسية رغم أننا كنا ضعافا على جميع المستويات . – باعتباركم من المهندسين لهذا المهرجان كيف جاءت تسمية جمعية «أصدقاء المعتمد» ، في مدينة أندلسية، وخاصة في شمال المغرب، الذي يعتبر هو النواة الأولى للثقافة بالمغرب في فترة كانت تشهد غليانا سياسيا ؟ – يمكن أن نقول إن تلك المرحلة صار فيها نقاش حول قضية يوسف بن تاشفين والمعتمد بن عباد ، هل كان يوسف بن تاشفين معتديا عندما أسر المعتمد بن عباد ونقله إلى المغرب ، نحو جهة بمراكش بأغمات ؟ و هل كان الفعل الذي قام به يوسف بن تاشفين هو الذي يجب أن يقوم به، أم أن الشاعر المعتمد كان ضحية هجوم سياسي، وتوسع إمبراطوري ؟ حقيقة أن الإنسان كمغربي ، وأي مغربي يحار كيف يعطي الحق لهذه الجهة أو تلك، نحن كمغاربة مع يوسف بن تاشفين كمناضل وطني، كمحقق مجد من الأمجاد التاريخية للمغرب، ولكننا أيضا مع شاعر، فهو الذي استدعى يوسف بن تاشفين، وهو الذي كان روحا من الواقع الذي كانت تعيشه الأندلس، وربما كان طموحه أن يستعين بملك قوي ومسلم، هو يوسف بن تاشفين، لتستعيد الأندلس مجدها، ولكنه كان ضحية هذا الطموح، هذا تحليل أريد أن أصل به إلى شيء، ولكنني وجوابا عن سؤالك أن في الأمر كان هناك نوع من التراوح ما بين أن تكون مع يوسف بن تاشفين في قضائه على الفرقة وقيامه بالواجب السياسي، أو مع شاعر كبير جدا، هو حاكم في مدينة قرب ولاية من ولايات الأندلس وسيصبح أسيرا في المغرب، حيث تحس أن الأمر يحتاج إلى نوع من التعاطف مع هذا الشاعر. لربما كانت هذه فكرة أصدقاء المعتمد، التي فيها نوع من التواطؤ مع الشاعر، وإن كنا مع السياسي الشيء الذي مازال فيه تراوح ما بين أن تكون مع أصدقاء المعتمد، أو أن تكون من أصدقاء يوسف بن تاشفين، هذه هي الأجواء التي كانت إذاك، وقد نذكر أنه صار نقاش بين بعض المثقفين حول هذا الموضوع، ربما كانت مجلة «دعوة الحق» مجالا لنقاش دار بين المثقفين :»هل الحق كان مع يوسف بن تاشفين ؟ وهل كان المعتمد بن عباد مظلوما؟ أم أن الفعل السياسي والحتمية السياسية اقتضت أن يكون ضحية لما تسببت فيه وعوره من الملوك الأندلسيين ؟ « . – مرت الآن أربعة عقود على تأسيس المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث بشفشاون ، كيف يمكن لكم أن تقيمون القصيدة المغربية خلال هذه السيرورة التاريخية ؟ وما هو مستقبل الشعر المغربي باعتبار أن عدة أسماء وتجارب وتيارات شعرية تناوبت على منبر هذا المهرجان ؟ – أنا دائما أقول بأن منبر مهرجان الشعر المغربي بشفشاون يعتبر «ترمومترا» لمعرفة تطور الحركة الشعرية بالمغرب، فدائما كنت ألاحظ أن أهم القصائد التي كانت علامة فارقة في تاريخ الشعر المغربي مثل قصائد الخمار الكنوني، وقصائد المجاطي وعبدالرفيع الجواهري وقصائد عبدالكريم الطبال وغيره من التيارات الأخرى، وأعني بذلك القصائد التي عدت ودخلت في الدراسات وحصل حولها نقاش، وهي كلها ألقيت في مهرجان شفشاون، كان بعضها يؤكد إحدى قصائد الخمار الكنوني الذي أذكره الآن في «حوار مع الظل» ، التي ألقيت لأول مرة في مهرجان شفشاون، خصوصا وأنه في المراحل الأولى في مجالات النشر كانت المنابر قليلة والتيارات محدودة، لذا فالمراحل الأولى من المهرجان يمكن أن نعتبرها هي المقياس لدرجة حرارة ارتفاع قيمة الشعر المغربي، لكن الآن لم يعد هذا المهرجان هو المقياس الذي يمكن أن نقيس به الشعر، حيث هناك عدة مهرجانات أخرى ومجالات للنشر كثيرة، فلا نستطيع أن نقول أن كل ما يلقى في مهرجان الشعر بشفشاون يعكس صورة التطور، أنا لا أتكلم عن المراحل الأولى – مراحل الستينات – التي كان كما قلت سابقا كان الشعراء يتسابقون إلى حضور المهرجان ويلقون قصائدهم الجديدة، كنا نحن وبالتحديد أنا وعبدالكريم الطبال، تعودنا أن نلقي القصيدة الجديدة، ونستعد للمهرجان لا نلقي فيه إلا القصيدة التي لم تنشر بعد، وهذا كان له تأثير، وبذلك لاحظنا حتى بعض الشعراء الذين كانوا يستدعون للمهرجان لا يلقون القصائد التي نشروها، فأصبح منبر مهرجان شفشاون مجالا لإلقاء الجديد، هذا في البداية، الآن لم يعد الأمر كذلك، أولا، وكما قلت لك تعددت المنابر ،منها المهرجانات ومجالات الإلقاء، ولذلك يجب أن لانحصر النظرة لتطور الشعر المغربي، من خلال مهرجان شفشاون. مهرجان شفشاون هو الآن قيمة تاريخية، أقول لك ذلك بكل موضوعية، وعلى المسؤولين وعلى الأدباء وعلى المثقفين في المغرب أن يحتفظوا على هذا المهرجان ولهذه القيمة التاريخية، فلم يعد وحده يعكس الحركة الشعرية، المهم في ذلك أن له فضل السبق، والفضل التاريخي الذي يجب أن يؤسس في الذاكرة الشعرية المغربية بهذه الصفة، ونحافظ عليه لأنه أصبح أثرا تاريخيا في حياة الشعر المغربي ، وأما إذا أردنا أن نتكلم عن القصيدة المغربية بصفة عامة بدون تحديدها بمجال مهرجان شفشاون للشعر المغربي الحديث فذلك شأن آخر .