في كل غرة ربيع الأول من كل سنة تشتاق النفوس إلى ذكرى المولد النبوي الشريف وإحيائها، ولذلك لاغرو إن غنى المداح وعشاق المديح النبوي بالشعر العربي الفصيح، ولا عجب إن أبدع شعراء الضاد في وصف خير البرية، والتفنن بالأساليب البلاغية في استحضار الصور الشعرية المعبرة والماتعة. لكن قد يكون من الغرابة في الإبداع الأدبي في هذا الجانب أن تأتي قصائد مدحية من الأدب السوسي العريق، بلغة أعجمية محلية، ذات بلاغة أدبية، وترانيم راقية، تسلب العقول قبل القلوب. ومن هذا المنطلق، فالأدب الأمازيغي بمفهومه الشامل لمعنى الأدب بكل تصوراته وتجلياته للروح وللمادة وللدين، فإنه أعار اهتماما كبيرا للجناب النبوي، وله في ذلك إسهامات شعرية وأدبية، تعبيرا عن مكامن العشق النبوي، فكثيرا ما تعبر المشاعر عن كوامن العقائد وتسطر لذلك أحلاما خيالية كانت في الواقع حقيقة ملموسة تراعى فيها الظواهر الاجتماعية الدينية . لقد تميزت البلاد المغاربية بموسم المدح النبوي وبالتعبير الأدق عيد المولد، ولذلك كثر القيل والقال حوله، فكل يعالجه من وجهة نظره، لكن كثيرا ما يغفل ويتجاهل الجانب الأدبي في مثل هذا المناسبات، ويكون غائبا عن النقاشات العامة، رغم حضوره بشكل باهت في النقاشات العلمية الخاصة. ومن أهم هذه المناسبات الحاضرة بقوة لدي الأديب والشاعر والشاعرة السوسية باللغة المحلية {الأمازيغية} مدح النبي عليه السلام، فقد اهتم السوسيون بهذه المناسبة ومنحوها قيمة مثالية، وأظهروا هذا الاهتمام في كل الجوانب التي تحوم حول الاحتفال بليلة المولد. ومما أثار الانتباه في هذا الجانب اهتمام الشعراء {انضامن} و{تنضامين } بالقصيدة {تاقصيت أو تانضامت} النبوية التي تعطى لها القيمة المعنوية والرمزية الكبيرة، وتعبر عن الحب الدفين الخالص الذي يكنه الشاعر الأمازيغي (ة) إلى الحبيب عليه السلام، ويتغنى بها من طرف الكل في إبراز الجوانب الأخلاقية الرائعة في سيرة الرسول ﷺ . وشمل هذا الاهتمام كل فئات المجتمع السوسي الأمازيغي وأطيافه من عامة القوم إلى خاصتهم، من شيب وشباب. ويسجل أيضا بكل فخر واعتزاز حضور المرأة السوسية الأمازيغية في حقل شعر مدح النبي ﷺ. ومن تأمل في المحيط النسوي الأمازيغي يجد تعلقا كبيرا من طرف سيدات البيوت بالحب النبوي والتعبير عنه بالشكل الأدبي الشعري الموحي بشكل رائق بالهيام في قضية إحياء الذكرى السنوية للمولد النبوي . ومن هذا المنطلق التجسيدي لبيان المهتمين بهذا الجانب الروحي الديني نجد نخبة من القصائد الأمازيغية التي هي مناط القول في هذا الباب، سواء من المعاصرين أو القدامى الذين جمعوا بين درس السيرة النوبية والذوق الشعري الأدبي الأمازيغي، فأبانوا عن المستوى الرفيع للقصيدة الأمازيغية بشكل يليق بالمقام النبوي. لذلك نجد أن أغلب الناظمين في هذا الميدان هم الفقهاء والأدباء الدارسين للعلوم الشرعية والأدبية؛ قليلا ما تجدا نظما لغيرهم من عامة الناس، لما يتمتعون به من اطلاع على السيرة النبوية. فإذا كانت هناك مبادرة من أحد شعراء الشعر الأمازيغي في هذا الجانب إنما هو تقليد لهم في هذا المجال وليس في الإبداع الأدبي ككل.. وممن تصدى لهذا الشاعر {ابوشيكر} من علماء آل بوشيكر الاكماريين البعقيلي السوسي. نجد له قصيدة شهيرة بين الناس باللسان المحلي التي مطلعها: محمد أبو الأنوار الصلاة عليك أرسول إعزاك الباري تعال إمقور الشان نكي بسم الله أوال إعدلن إزوار أك إواليوني معنى هذه الأبيات: بدأ الناظم قصيدته بالصلاة على الرسول، مفتتحا باسمه تبركا به، مبينا تشريف الله للرسول وتعظيم شأنه، ثم بالافتتاح بتسمية الله تعالى . إن سبر أغوار هذه القصيدة الأمازيغية التي توجت بالمدح النبوي سيلامس بشكل كبير الاهتمام بشخصية الرسول عليه السلام وتحليل تفاصيل جوانب حياته الخلقية والأخلاقية، مع إبداع قل نظيره في سرد سيرة النبي عليه السلام، وذلك بأسلوب يأسر القلوب، ويخاطب المشاعر. ولهذه القصيدة وقع كبير لدى العامة، فقلما تجد واحدا من الأمازيغ لا يحفظها ويتغنى بها في مدح النبي أو يحفظ جزءا منها على الأقل نتيجة كثرة ترديدها، ما يفسر الشغف إلى مثل هذه الذكريات الموسمية التي يحتفل بها المغاربة منذ قرون مضت . وهذا ما ولد لدى شعراء الأمازيغ سجية حققت في الإبداع مداه، وفي النظم والسرد منتهاه، إلا أن ما يمكن أخذه على شعراء سوس أنهم لم يدونوا شعرهم، لأن أغلبه يكون محفوظا ويروى شفاهيا ومنه شعر المديح . لقد أشرت سابقا إلى حضور المرأة في هذا المجال، لهذا نجد مصطلحا مديحيا يسمى {أكراو}، وهذا يحيلنا على الشكل الذي تؤدى به الأمدح النبوية في الشعر الأمازيغي. مصطلح {أكراو} هو اجتماع النساء بشكل دائري أو غيره يتغنين بالمدح النبوي ويبدين براعة في الأداء، ما يرسخ العشق النبوي في قلوب السامعين؛ لأن أغلب هذه المنظومات المدحية المحلية تقرأ بشكل جماعي، حتى صارت عادة في جل المناسبات التي تستحضر فيها هذه القصائد، حتى ألفتها النساء عادة في مجالات التعاون والمساعدة والتضامن . ولا يقتصر هذا الأداء على المرأة فقط، بل حتى طلبة العلم في مجالس المدح يؤدون هذه الأمداح بشكل جماعي، وذلك بتناسق كبير وتناغم رائع . إن جل القصائد الشعرية الأمازيغية تتضمن مدحا للنبي وحياته على وجه عام، مع التعمق في الحب النبوي. وإليكم شقا من تلك القصيدة : تزاليت ف بو الأنوار أسفار وولاوني نستابعاتيد إيسمنك أربي تزدي يدسي يان إبلان س لباري تعال أيزال ف نابي نسي تيلي كيس المحبة رخوناس إغارسني يا إرا أوكليد إفكاس إموريك د لعشاقتي د لحب نك أسيدي الرسول أمزن أغارس نكي إغاك إفكا إلاهي الحب إلاكن غوول نكي معنى هذه الأبيات: الصلاة على الرسول هي دواء للقلوب، وخاصة إذا أردفت بسم الإله، موضحا أن محبة الرسول تسهل طرق الخير، ومن أحبه الله يجعله يعشق الرسول عليه السلام ويهديه إلى الطريق المستقيم . يتجلى مدى العشق النبوي في هذه القصيدة التي تزينت جوانبها الإبداعية بمدى القيمة العاطفية التي أبداها الشاعر في الجناب النبوي، ما يؤثر إيجابا على كل مردد لها وسامع، ويربي في النشء حب النبي عليه السلام ويزرع فيهم الأدب النبوي وأخلاقه، لأن للحس العاطفي والأدبي في إيصال الرسالة الأخلاقية والدينية وقعا كبيرا في نفوس الناس، حتى صار هذا النوع من الإبداع الشعري وسيلة لحفظ سيرته وحياته . إن المولد النبوي يقام في هذه الربوع السوسية بمزيد من المحبة التي يكنها قاطنوها للنبي عليه السلام، ما أفرز كثيرا من التعلق به؛ فتأمل هذه الأبيات الشعرية المعبرة في بابها: ان إران أخوتي رضا نوكليد أولا طاعتي ييلي نيت إسيدي رسول أرتيادرا يريتني قدمغاك أسيدي رسول أشفيع إيتشفاعني أنبي نغ إيكان الخيار أوريلي ماتن يوفني القصيدة تسكن السامع والمنشد، بتعابيرها ومعانيها الأدبية، معبرة عن مدى تعلق الطرفين بمحبة الرسول . بهذه الإطلالة يتضح وبالملموس مدى العناية التي يوليها المغاربة والسوسيون بالخصوص للمدح والأمداح النبوية، معبرين بذلك عن هيامهم وعشقهم للمديح، فقد تراهم يرددون أمداح النبي في كل المناسبات والاجتماعات العائلية والموسمية، فلا يخلو لقاء علمي إلا وتغنوا بمدائحه، إن بلغتهم المحلية أو العربية، ما أثر بشكل كبير في شعرهم ونظمهم الأمازيغي في سيرة الرسول عليه السلام .