تعد الحكامة من أهم المصطلحات التي تم تداولها في الحقل التنموي، حيث ثم استعمالها لأول مرة من طرف البنك الدولي سنة 1989، الذي اعتبر الحكامة أنها أسلوب ممارسة السلطة في تدبير الموارد الاقتصادية والاجتماعية للبلاد من أجل التنمية، ولقد تم إدخال الحكامة المحلية لمراجعة تعقيد تسيير المدن الكبرى، ثم انتقل هذا المفهوم من النظام الليبرالي الجديد إلى شكل آخر من الحوار بين المؤسسات والمجتمع المدني، ومنذ سنة 1995 تبنى هذا المفهوم علماء الاجتماع والسياسة وتبناه بقوة مختلف المتدخلين الميدانيين خلال مؤتمر إسطنبول للمدن سنة 1996. فالحكامة المحلية ركن استراتيجي للمقترب الجديد للتنمية، من خلال دورها في مكافحة الفقر والتهميش، والالتزام المشترك، وكذلك المشاركة التشاورية للمواطنين في نهج سياسة القرب، وتطوير التعاون اللامركزي. لذلك، كان من الضروري البحث والتساؤل حول الحكامة الترابية ومتطلبات التنمية المحلية خصوصا، ونحن نعيش مرحلة جديدة على مستوى التدبير الترابي والمتمثلة أساسا في الارتقاء بالجهوية إلى مكانة متميزة، وأيضا خصوصية هذه القوانين على اعتبار أنه لأول مرة سوف يتم تنظيم الجماعات الترابية بقانون تنظيمي والذي يعتبر من الناحية التراتبية اقل من الدستور مرتبة وأسمى من القانون العادي. فخروج القوانين التنظيمية المرتبطة بالجماعات الترابية حيز التنفيذ (القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق للعمالات والأقاليم، والقانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات) تظل دون جدوى إذا لم تقترن بحسن التدبير بما يخدم المصلحة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة والشفاهية، فمن خلال الاطلاع على مختلف القوانين التنظيمية والتقارير المتعلقة بالحكامة الترابية، نلاحظ وجود مجموعة من المعيقات البنيوية، التي تجعلنا نطرح السؤال التالي من أجل محاولة الإجابة عنه في متن هذه الدراسة والذي ينصب حول ما هي المعيقات القانونية والموضوعية والبنيوية التي تعاني منها جماعاتنا الترابية، والتي تشكل حجر عثرة أمام رقيها وتطورها وتنميتها؟. أولا: المعيقات القانونية جاءت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بعدة مستجدات على مستوى التدبير الإداري تصب في اتجاه خلق حكامة ترابية جيدة على مستوى تدبير شؤونها وممارسة اختصاصاتها، حيث يلاحظ على أن الاختصاصات الحالية للجماعات الترابية هي نفسها التي كانت في القوانين السابقة، باستثناء المستجد المتعلق بالاختصاصات المشتركة مع الدولة وباقي الأشخاص العامة، وهناك تشابه وتكرار لنفس الاختصاصات مع إشراك المجال مع أصناف الجماعات الترابية الأخرى، كما انه تم التمييز بين مفهوم الاختصاصات ومفهوم الصلاحيات ضمن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بتخصيص كل واحد منها قسما خاصا، بالرغم من تشابه هذين المصطلحين من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الباب التاسع من الدستور المتعلق بالجهات والجماعات الترابية يتحدث عن الاختصاصات فقط، لذلك وجب التقيد بالنص. وقد امتد أيضا التلاعب في المصطلحات والمفاهيم إلى استبدال مصطلح المخطط الجماعي للتنمية ببرنامج عمل الجماعة على الرغم من تشابه مقتضياتهما، كما أن الإحالات المتكررة على النصوص التنظيمية، كما هو الشأن في المادة 81 من ظهير رقم 1.15.85 صادر في 20 من رمضان 1436 (7 يوليو 2015) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات التي تنص على انه " تحدد بنص تنظيمي مسطرة إعداد برنامج عمل الجماعة وتتبعه وتحيينه وتقييمه واليات الحوار والتشاور لإعداده"، أدى إلى تأخر ممارسة الجماعات الترابية لاختصاصاتها، الشيء الذي يستدعي إخراج الترسانة القانونية إلى الوجود دفعة واحدة وإلا تعطل تطبيقها. أما فيما يتعلق بنظام المراقبة الإدارية، فقلد حافظ المشرع المغربي على المراقبة القبلية عبر التأشير على قرارات المجلس والرئيس، حيث تمت تقوية دور الوالي والسلطات المكلفة بالداخلية في مجال المراقبة ومنح الولاة صلاحيات واسعة وأكبر من سلطات رؤساء الجهات كحق التعيين في الوظائف بالجهة و حق الرقابة الإدارية القبلية وهو مقتضى يتعارض مع الفصل 136 من الدستور وكذلك الفصل 146 الذي يمنح الجهات والجماعات حق تدبير شؤونها بكيفية ديمقراطية، في حين كان من المفترض أن يسير المشرع في اتجاه التخفيف من المبادئ التقليدية للوصاية في الشق المتعلق بالتصديق على أعمال مجالس الجماعات الترابية، فعامل الوصاية لازال حاضرا وبقوة، ويظهر هذا الأمر جليا من خلال تمسك المشرع في الجانب المتعلق بالقرارات ذات طابع مالي وهي قرارات غير قابلة للتنفيذ إلا بعد تأشير سلطة الوصاية عليها، و يلاحظ أيضا في هذا الإطار تواضع المراقبة ورمزيتها أكثر من زجريتها، وغياب المساءلة وتقديم الحساب من طرف المسؤولين عن تدبير الشأن العام، وبالتالي قصور المقتضيات الهادفة إلى معالجة الاختلالات واللاتوازن بين سلطتي الوالي ورئيس الجهة. وتشير أيضا القراءة المتأنية لمقتضيات القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية إلى رصد مجموعة من الملاحظات والمتمثلة أساسا، في إحداث 3 قوانين تنظيمية للجماعات الترابية، بالرغم من عدم تنصيص الدستور على ذلك صراحة، حيث نص الفصل 146 على أنه "تحدث بقانون تنظيمي بصفة خاصة شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد أعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة بأهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بين الانتدابات، وكذا النظام الانتخابي...". في حين أن المشرع الفرنسي جمع المقتضيات التي تتعلق بالجماعات الترابية في مدونة واحدة، وأيضا تضخم في مواد القوانين التنظيمية مما يؤثر على الصياغة القانونية للنص، مع تكرار بعض المقتضيات أكثر من مرة خاصة ما يتعلق بتشكيل المجالس الجماعية، وكذلك ما يتعلق بالاختصاصات التي تعتبر عبارتها عامة وفضفاضة. ثانيا: المعيقات الموضوعية أمام إحداث القوانين التنظيمية السالفة الذكر، ومن خلال استقراء المعطيات المتعلقة بالمخالفات المخلة بالضوابط الأخلاقية وأخرى متعلقة بالمقتضيات التنظيمية، يمكننا التساؤل حول كيفية تفعيل هذه المقتضيات المليئة بالاعطاب القانونية من جهة، وفي ظل ممارسة ترابية أفرزت ولا زالت تفرز عدة اختلالات، وقواعد حكامة مليئة بمعيقات موضوعية، ناتجة عن ضعف آليات ووسائل الجماعات الترابية من جهة أخرى، مما كرس بدوره مجموعة من الانعكاسات السلبية على مستوى التدبير الترابي. وتكمن المعيقات الموضوعية في ضعف شفافية التدبير المحلي الناتج عن عدة عوامل أبرزها، طغيان التنظيم البيروقراطي وانغلاق التدبير، وشخصانية السلطة، وتضخم المنظومة الهيكلية للجماعات والقواعد القانونية وتكاثر المساطر الإدارية والوثائق، والإفراط في اللجوء إلى السلطة التقديرية للمسؤولين على المصالح، وبطئ سير الإدارة وتعقد المساطر، وضعف الإنتاجية وانتشار اللامبالاة واتساع سياسة الكم على حساب الجودة، بسبب غياب تنظيم عقلاني في عملية التوظيف القائم على المحسوبية والزبونية. وكذا وجود عدة نقائص على مستوى الموارد البشرية، والمتمثل في سوء توزيع الكفاءات والأطر إداريا وجغرافيا، وعدم احترام مبادئ تكافئ الفرص بين الموظفين، وكذا تهميش بعض الكفاءات وعدم تطبيق الحد الأدنى للأجور، وغياب اشتراط المستوى التعليمي لتولي مهام رئاسة الجهة وعنصر الكفاءة في عضوية المجلس الجهوي، الشيء الذي يجعلنا أمام ضعف المخططات وهزالة الإستراتيجيات التنموية. ناهيك عن غياب التنسيق والتعاون فيما بين المصالح الخارجية وكذا مركزية القرار الإداري، فلازالت الإدارة المركزية هي المتحكم الأول والأخير في دواليب الأشغال على المستوى المحلي حيث أظهرت الممارسة الفعلية لجوء السلطات الإدارية إلى صيغة التفويض لاسيما تفويض الإمضاء، وهذا المعطى يقودنا إلى استنتاج مفاده محدودية اللجوء إلى تقنية نقل الاختصاص، الأمر الذي يتعارض وسياسة القرب التي تتوخاها مبادئ الإصلاح، كما نتج عنه أيضا نظام مؤسساتي وهندسة إدارية معقدة تطرح إشكالية التواصل ما بين مختلف مكونات الإدارة اللامركزية بفعل التباين الثقافي والسلوكي لدى الفاعلين المحليين، بالإضافة إلى هشاشة العلاقة بين الهيئات المنتخبة والمواطنين، التي تتجلى في غياب ثقة المواطنين في الأجهزة التمثيلية وضعف المشاركة المباشرة للمواطنين في التدبير المحلي، الشيء الذي يؤدي إلى ضعف استجابة الإدارة ويجعل مساطرها وهياكلها وإجراءاتها عوائق أمام التنمية الاقتصادية المنشودة. وتعاني المالية المحلية أيضا من عدة اكراهات تعود أساسا لعدم تفعيل آليات الحكامة، ومحدودية استقلال ميزانية الجماعات الترابية واعتمادها بشكل كبير على إمدادات الدولة وارتفاع مصاريف التسيير، الشيء الذي لا يترك هامشا كبيرا للتجهيز مما يحول دون ممارسة المجالس للصلاحيات والاختصاصات المخولة لها بمقتضى النصوص القانونية. ثالثا: المعيقات البنيوية لقد اصطدمت الحكامة الترابية بمجموعة من العراقيل نتيجة تباين وتفاوت بين الجماعات الترابية واختلاف القدرات الاقتصادية لكل منها، ناهيك عن التفاوتات بين الجماعات على المستوى الاجتماعي خاصة الفقيرة منها، فعلى الرغم من وجود كل المقومات التي تتطلبها تنمية الجماعات الترابية وتطورها، إلا أنها تعرف ضعفا ملحوظا في عدة مستويات، ويرتبط هذا الضعف أساسا في التفاوتات المجالية، التي تتجلى في انعدام المساواة بين الجهات، في التوزيع المجالي لاستثمارات المؤسسات والمقاولات العمومية حيث نجد استحواذ أربعة جهات على ما يناهز 68 % من الاستثمارات المرصودة ، وتتصدر قائمة هذه الجهات كل من جهة الرباط، سلا - القنيطرة، وجهة الدارالبيضاءسطات، ثم جهة مراكش أسفي، وأخيرا جهة طنجة - تطوانالحسيمة. كما يتجلى أيضا هذا التفاوت بشكل جلي وواضح في قطاع التعليم الذي يعاني من غياب كل مقومات التعليم العصري بغالبية المناطق القروية، وعدم توفر هذه المناطق على مؤسسات للتكوين المهني، وغياب التعليم العالي والمؤسسات الجامعية في عدة جهات وتمركزها في المدن الكبرى، وضعف البنيات التحتية والتجهيزات وصعوبات التنقل، وتفاقم الهدر المدرسي خصوصا بالعالم القروي، وتزداد حدة هذه المشاكل في المناطق الجبلية والمعزولة، وما يعانيه قطاع التعليم من أزمة خانقة، نجده أيضا في كل القطاعات الأخرى، كالصحة، والسكن...الخ. ومن أبرز مؤشرات التفاوتات الاجتماعية نجد أن فئة كبيرة قد عانت ولازالت تعاني من عدة مشاكل اجتماعية أبرزها الفقر والهشاشة والبطالة والأمية والإقصاء الاجتماعي فلقد أفرزت خريطة الفقر المتعدد الأبعاد سنة 2014 ترتيبا مختلفا للجهات مقارنة مع خريطة الفقر لسنة 2007، حيث بينت أن نصفها سجل معدلا للفقر يتجاوز المتوسط الوطني 8.2%، وتعد جهة بني ملالخنيفرة الأكثر فقرا ب 13.4%، تليها جهة مراكش أسفي 11.3%، ودرعة تافلالت 10%، تم فاسمكناس 9.6%، والجهة الشرقية 9.5%، وطنجةتطوانالحسيمة 9.5%، وبالمقابل تتمثل الجهات الأقل فقرا والمتمثلة بمعدل أدنى من المتوسط الوطني في كل من جهة العيون الساقية الحمراء 1.7% ، والداخلة واد الذهب 3.8% ، تم الدارالبيضاءوسطات 4.1%، والرباطسلاالقنيطرة 6.2% تم كلميم واد نون 6.2%، وسوس ماسة درعة 7.2%، وهذا التفاوت ناتج عن غياب وضعف السياسات والاستراتيجيات الاجتماعية الشاملة في مجال النهوض بالتنمية البشرية تأخذ بعين الاعتبار الساكنة الفقيرة والهشة، وتحدد الفئات الأكثر خصاصا. انطلاقا مما سبق ومن أجل النهوض بالدور الطلائعي للجماعات الترابية في مجال التنمية المستدامة، فإننا في أمس الحاجة اليوم إلى البحث عن حلول جديدة من أجل نجاح رهان الحكامة الترابية، وهذا الأمر يقتضي بداهة تجاوز الاكراهات والعراقيل المشار إليها أعلاه، وان كان ذلك ليس بالأمر الهين أو اليسير لكونه يتطلب خطة محكمة وإستراتيجية شاملة تهدف إﻟﻰ ﻋﻘﻠﻧﺔ آليات ﺗدﺑﯾر مع توفير سياسات عمومية ناجعة وفعالة. *باحثة في علم السياسة والقانون الدستوري