يحتل موضوع التعمير مكانة أساسية في الوقت الحاضر، بالنظر لارتفاع وثيرة التحضر المقترن بالتقدم والتنمية في البلدان المصنعة، واقترانه في بلدان الجنوب عموما بالبطالة والفقر وضعف التنمية، الأمر الذي جعل البعض يتحدث عن “تحضر دون تنمية”. لهذا تؤكد التقارير العالمية أن أكثر من نصف ساكنة العالم يعيش بالمدن، وأن وتيرة نمو الساكنة الحضرية في تزايد متسارع. فالمدن تستقبل في المعدل 5 مليون نسمة إضافية كل شهر، وكلما ارتفع حجم ساكنة المدن واتسعت رقعتها، كلما ازدادت الحاجة إلى تدبير فاعل للمدينة عبر تطوير السياسات العمومية المتبعة لتلبية الحاجيات المتزايدة في مختلف الميادين العمرانية والبيئية والاجتماعية… لهذا تطرح أهمية الحكامة في تدبير المدن والقرى، قصد تحقيق تنمية مندمجة تستجيب لحاجيات الساكنة الحضرية. أما على الصعيد الوطني، فإن المغرب لا يخرج عن هذا المد الحضري العالمي، إذ عرف ظاهرة التحضر منذ القديم، وعرف ظهور قوانين حديثة تخص تنظيم وتدبير المجال ووثائق التعمير، مع ظهور مؤسسات مختصة في التخطيط والتعمير والسكن. بيد أنه رغم المجهودات المبذولة لتطوير تدبير المدن والقرى، لاسيما مع بروز مفاهيم متعددة تخص التنمية المستدامة، والذكاء الترابي، والتنمية المجالية، واستراتيجية التنمية الحضرية، فإن هناك الكثير من التحديات والإشكالات المرتبطة بتنامي ظاهرة التعمير بالمغرب تطرح اليوم أمام الدولة والجماعات الترابية وباقي الفاعلين الوطنيين والمحليين. وفي هذا الإطار يمكن على سبيل الذكر لا الحصر الإشارة إلى ما يخص الدفع بالحق في التنمية، وتحقيق التنسيق بين الفاعلين والارتقاء بالتخطيط الحضري… وتوفير البنيات التحتية والتجهيزات الكبرى، وتجويد الخدمات العمومية من ماء وكهرباء ونقل وتطهير سائل وصلب، وحماية البيئة، عموما في اتجاه التأسيس لحكامة عمرانية دامجة قائمة على جعل تكافؤ الفرص في قلب العملية التنموية، مع ارتكاز التهيئة الحضرية والتخطيط الحضري على مقاربة حقوق الإنسان ومختلف المقاربات المرتكزة على المشاركة. لاسيما وأن القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية تركز على مشاركة المواطنين في تدبير الشؤون المحلية، قصد بلوغ تنمية عمرانية للجميع تضمن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص في الحصول على الشغل، والخدمات الأساسية، ومناطق عمرانية تنافسية وجذابة تجلب الاستثمارات وتتطلع إلى مراتب المدن والقرى العالمية، ومناطق تتحكم في تطورها عبر التخطيط وتطوير القدرات وتحسين أليات التدبير. نعم لم يسبق لبلادنا خلال تاريخها الطويل أن عرفت نموا ديمغرافيا يضاهي ما عرفته خلال العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، حيث ارتفع عدد سكان المغرب من حوالي 8 ملايين نسمة عند بداية الخمسينات و33 مليون نسمة سنة 2010 ، إلى 33.848.242 نسمة في فاتح شتنبر 2014 . ولا زال هذا الرقم مرشحا للارتفاع، حيث يقدر المختصون أنه سيصل إلى ما يناهز 40 مليونا أواخر العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين. هذا ويلاحظ اليوم أن المغرب من بين الدول التي تعاني كثيرا من مشاكل التعمير، ويعزى هذا إلى أن المجال الحضري أصبح يشكل ثقلا ديمغرافيا مضادا للمجال القروي، فحسب إحصاء سنة 1960 حددت نسبة التمدين في حوالي 29 % مقابل 55.1 % سنة 2004، وقد كان ذلك نتاجا للنمو الطبيعي لسكان الحواضر وأساسا نتيجة دينامية الهجرة من البوادي نحو المدن، وبسبب إعادة التصنيف الإداري الذي نجم عنه توسع المدارات الحضرية للمدن، أو انتقال مراكز قروية إلى وضعية حضرية، وهكذا فإن الساكنة الحضرية، التي كانت لا تجاوز 3,4 مليون نسمة سنة 1960، تضاعفت خمس مرات، لتستقر في 16,5 مليون نسمة سنة 2004 . ولقد رفعت من حدة وقع التأثيرات السلبية، لهذا التزايد الديمغرافي مجموعة من الاختلالات على مستوى التوزيع السكاني بين مختلف جهات المملكة وبين القرى والحواضر، حيث أصبحت نسبة الساكنة الحضرية تفوق نسبة الساكنة القروية بكثير. وسوف يظل العالم القروي، ولمدة غير وجيزة، يزود المدن بالأعداد الوافدة من السكان الجدد نتيجة متاعب الحياة بالبوادي، مساهما بذلك في تعاظم وتيرة النمو الحضري الذي يعرف هو الآخر توزيعا غير متكافئ للكثافة السكانية، واستعمالا غير رشيد للمجال، وضغطا متزايدا على البنيات التحتية الأساسية، وحاجة ماسة إلى المرافق العمومية، وخصاصا متفاقما في ميدان المساكن الاجتماعية، وغير ذلك من كبريات المشاكل الناتجة عن سرعة وتيرة التمدن، المقرونة بقلة الإمكانات المالية، وضعف القدرة التنظيمية، ونفاذ الاحتياط العقاري للدولة والجماعات الترابية وعدم تنفيذ التخطيطات الحضرية، بل وغياب الوعي بجدوى المخططات الشمولية، وتغليب كفة العمل القطاعي القصير الأمد على العمل المندمج البعيد المدى. وهكذا أنتجت حركة التمدن خلال العقود الأخيرة، أنسجة حضرية متباينة الخصائص، متعددة الأشكال، حيث تقلصت رقعة الأنسجة المنظمة، وانحصرت مساحة الأحياء المجهزة، وتعرضت المدن الأصيلة للتلاشي من جراء عدم الصيانة، والتحقت بها أنسجة أخرى أقل قدما بسبب الغش في البناء والاحتيال في التجهيز والمضاربات العقارية. كما اندفعت أنسجة أخرى تخرج عن الانضباط، وتقل فيها التجهيزات، في تزايد مهول، حيث أضحى العديد من أبنيتها خطرا على القاطنين، بل إن مواقع البعض منها تحتل انحدارات خطيرة، أو تعتلي فرشات مائية هامة، أو تقذف بنفايات صلبة وسائلة في مواطن مضرة بالبيئة أو تهدد مؤسسات عمومية حيوية، مما جعل مشاكل التعمير تتجاوز حدودها التقنية المحضة، لتصبح مشكلا مجتمعيا، لا يتوقف إصلاحه على تغيير القانون وحده، بل يتعداه إلى إصلاحات في مختلف الميادين، بل إلى تصور مشروع جديد للمجال، يتلاءم والمشروع المجتمعي للمغرب الجديد. هذا ومما لا شك فيه أن مجال التعمير هو مجال شائك وواسع لا يمكن لجهة معينة أن تحتكره أو تنفرد به، وذلك نظرا لتعقد قضاياه وكثرة مستجداته وتشعب علاقاته بميادين ومجلات اقتصادية واجتماعية وتنموية متعددة، بل أكثر من ذلك فميدان التعمير أصبح المعيار الأساسي الذي تقاس به التنمية والتطور الذي وصل إليه البلد. ومن هنا كان لزاما أن تتدخل فيه مجموعة من الجهات والهيئات والمؤسسات والهياكل إن على المستوى المركزي أو على المستوى اللامركزي. إن رأي الوكالات الحضرية الملزم لرؤساء الجماعات في ميدان التعمير موضوع ذا أهمية كبرى من الناحية الأكاديمية، فهو يطرح الكثير من الإشكالات البنيوية العميقة، والتي يمكن أن تكون جديرة بالدراسة والتفكير والتأمل والمناقشة والمساءلة المتجددة في الملتقيات العلمية. ولعل المداخل الأساسية للموضوع والتي ستحاول أن تجيب عنها هذه المقالة هي تلك المتعلقة بالجواب عن الإشكالية المحورية التالية: ما مدى حقيقة ومنطقية وقانونية وأهمية رأي الوكالات الحضرية الملزم لرؤساء الجماعات؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية المحورية مجموعة من التساؤلات والأسئلة الفرعية أبرزها ما يمكن صياغته على الشكل التالي: ما المقصود بالرأي الملزم للوكالات الحضرية؟ وكيف ولماذا تم إلزام رؤساء الجماعات بهذا الرأي؟ ما هي الأسباب المؤدية إلى ذلك، ثم ما هي الأهداف المتوخاة من وراءه؟ وما هو واقع الرأي الملزم في ميدان التعمير بالمغرب؟ ما هي الاختلالات والاشكالات التي تعتري سداد هذا الرأي في ميدان التعمير؟ وما هي الإكراهات والصعوبات والعوائق والمعوقات التي تحول دون إرساء الفعالية والنجاعة والحكامة في الرأي الملزم للوكالات الحضرية؟ وما هي الممكنات والرهانات والافاق المستقبلية لاستمرارية هذا الرأي في المجال التعميري المغرب؟ تلكم هي بعض الأسئلة من ضمن أخرى ذات الأهمية التي سنحاول الإجابة عنها حسب التقسيم الاتي. المبحث الأول: المحددات الكبرى للرأي الملزم للوكالات الحضرية المطلب الأول: السيرورة والمسار والتراكم التاريخي لرأي الوكالات الحضرية المطلب الثاني: أهداف وغايات إلزام رؤساء الجماعات برأي الوكالات الحضرية المبحث الثاني: متطلبات الحكامة في رأي الوكالات الحضرية الملزم المطلب الأول: سؤال الفعالية والحكامة في الرأي الملزم للوكالات الحضرية المطلب الثاني: ضرورة إعادة النظر في التفسير المعطى لرأي الوكالات الملزم المبحث الأول: المحددات الكبرى لتوزيع الاختصاص في مجال التعمير إن المحددات الكبرى لرأي الوكالات الحضرية الملزم لرؤساء الجماعات تتأرجح بين السيرورة والمسار والتراكم التاريخي لذلك الرأي في المجال العمراني بالمغرب )المطلب الأول(، وبين أهداف وغايات إلزام رؤساء الجماعات برأي الوكالات الحضرية )المطلب الثاني(. المطلب الأول: السيرورة والمسار والتراكم التاريخي لرأي الوكالات الحضرية يشكل التعمير إحدى السياسات العمومية التي تقوم الدولة بإعدادها وتشرف على انجازها مختلف الأجهزة الإدارية الوطنية المركزية واللامركزية. وقد عرفت بلادنا تطورا سريعا في مجال النمو الديموغرافي مما ترتب عنه حاجيات ضخمة في مجال السكن والبنيات التحتية والخدمات العمومية والتجهيزات الأساسية، فضلا عن الحاجة الملحة إلى خلق فرص العمل والتشغيل سواء للساكنة الحضرية أو القروية. والتعمير هو فن تهيئة المدن أو علم المدنية والتجمعات المخصصة أساسا للسكن والعمل والأنشطة الاجتماعية الأخرى التي تساعد على تطوير المجتمعات بشكل منسجم وعقلاني وإنساني . والتعمير في مفهومه الشامل يسعى إلى توفير كل ما يحتاجه الفرد داخل محيطه السكني من مرافق ضرورية وتجهيزات أساسية، وذلك قصد تلبية معظم الخدمات الاجتماعية اللازمة. ومن أجل تحقيق هذا المبتغى لجأت الدولة إلى ترسانة قانونية متشعبة، وإلى إحداث هياكل وأجهزة إدارية متعددة من بينها، أو بالأحرى أبرزها الوكالات الحضرية، وهي عبارة عن مؤسسات عمومية متخصصة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي ويشمل نطاق اختصاصها عمالة أو إقليما أو عدة عمالات أو أقاليم وتخضع لوصاية الدولة المالية والإدارية . وقد أحدثت أول وكالة حضرية بولاية الدارالبيضاء سنة 1984 مباشرة بعد الأحداث التي عرفتها مدينة الدارالبيضاء سنة 1981 التي أدت إلى تقسيم المدينة إلى عدة عمالات وتقسيم العمالات إلى عدة جماعات، الأمر الذي جعل من بين أهداف إحداث الوكالات الحضرية هو التنسيق على مستوى التخطيط العمراني . وبعد النجاح النسبي الذي عرفته الوكالة الحضرية للدار البيضاء في تنظيم المجال العمراني، كان لزاما على الدولة إحداث وكالات حضرية أخرى لضبط توسعة أكبر المدن المغربية، كفاس والرباط وسلا وأكادير ومراكش، ليتم بعد ذلك تعميم التجربة على العديد من المدن المتوسطة والصغيرة. وفي بداية إحداث الوكالات الحضرية كانت تحت وصاية وزارة الداخلية، لكن مع تشكيل حكومة التناوب سنة 1998 انتقلت إلى اختصاص الوزارة المكلفة بإعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان والبيئة. باستثناء الوكالة الحضرية للدار البيضاء ، التي مازالت تخضع لوصاية وزارة الداخلية. وهكذا أصبحت الوكالات الحضرية تؤدي دورا هاما في مجال التعمير والتنمية المجالية المحلية، من خلال تدخلها في دراسة وإعداد وثائق التعمير التنظيمية منها أو التوجيهية. إضافة إلى تدخلها في منح رخص البناء والتجزئات العقارية باعتبارها وسائل للتدبير الحضري، كما تسعى الوكالات الحضرية إلى ضبط ومراقبة الحركة العمرانية ومدى ملاءمتها لقوانين التعمير الجاري بها العمل. إن التحولات المجالية العميقة، الناجمة عن التوسع العمراني بفعل الضغط الديموغرافي الكبير الذي شهده المغرب خلال النصف الثاني من القرن الماضي، فرضت على السلطات العمومية تبني استراتيجية شاملة في مجال التعمير استهدفت إرساء أسس تنمية مجالية متوازنة تتوخى تلبية الحاجيات الملحة للساكنة في مجال البنيات التحتية والسكن والتجهيزات العمومية، وكذا العمل على توفير الإطار المرجعي اللازم لتحقيق متطلبات تنمية التجمعات الحضرية والقروية. وقد شكلت مسألة إعادة النظر في الإطار القانوني المنظم للتعمير إحدى محاور تلك الاستراتيجية . وهكذا أولت السلطات العمومية أهمية خاصة للإطار القانوني الذي ينظم هذا القطاع وذلك باستصدار تشريعات متعددة ومتنوعة استهدفت توفير الإطار المرجعي الذي يحكم مجال التعمير والعمل على إرساء الأليات الضرورية لتحقيق تدخلاتها في مجال التنمية المجالية بمختلف أبعادها. وللتأكيد في الإشارة فإن منظومة القوانين المؤطرة حاليا للتعمير بالمغرب والمتمثلة بالخصوص في قانون 90-12 المتعلق بالتعمير ، وقانون 90-25 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات . هذا ناهيك عن مرسوميهما التطبيقيين الذين صدرا لتوضيح كيفية تطبيق مقتضيات القانونين، وليكونا سندا قانونيا للعمليات العمرانية والتعميرية المختلفة . وهكذا انطلق في بداية التسعينيات من القرن الماضي ورش إصلاح منظومة التعمير من خلال إصدار تشريعين أساسيين شكلا بداية تحول جدري في التعاطي مع قضايا التعمير بصفة عامة، واستهدفا ملاءمة تلك المنظومة مع التحولات والمشاكل المتعلقة بالتعمير، ويتعلق الأمر بكل من قانون 90-12 الخاص بالتعمير، وقانون 90-25 المتعلق بالتجزيئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات، ناهيك عن القانون المتعلق بممارسة الهندسة المعمارية وتأسيس الهيئة الوطنية للمهندسين المعماريين . وبخصوص قانون 90-12 المتعلق بالتعمير فقد مكن من توفير الإطار المناسب الذي سمح للسلطات العمومية من التدخل بطريقة مناسبة وأكثر فاعلية لمعالجة المشاكل المطروحة في مجال التعمير بالنظر إلى تأثيراته الكبيرة على كافة المجتمع وبنياته. وقد جاء هذا القانون بمجموعة من المقتضيات أهمها: تحسين وتسريع مساطر دراسة ومعالجة الملفات، انجاز وإعداد وثائق التعمير بمختلف أشكالها، تحسين الجودة المعمارية وأمن المباني من خلال الزامية تدخل المهندس المعماري، إضافة إلى إقراره لمجموعة من العقوبات الزجرية في حق المخالفين لقوانين التعمير والبناء . كما حدد هذا القانون آليات التنسيق بين كافة المتدخلين في ميدان التعمير وبالخصوص الجماعات المحلية بالنظر إلى الأدوار الطلائعية التي تقوم بها في مجال مراقبة وتتبع إنجاز وثائق التعمير وغيرها من الاختصاصات المتعلقة بالتدبير الحضري . وبالنسبة للقانون 90-25 المتعلق بالتجزيئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات، فقد حاول تمكين الإدارة المكلفة بتدبير هذا المجال من الوسائل الضرورية والفعالة لمواجهة أحد المشاكل المستعصية في مجال التدبير الحضري، وهو التجزيء السري، ومن أجل تحقيق هذا الهدف وسع هذا القانون من مفهوم التجزئة العقارية والتقسيم وبين حقوق وواجبات المجزئين، وحدد وبسط مختلف مساطر دراسة الملفات، وفرض ضرورة اللجوء إلى المهنين في المجال، ناهيك عن تقوية الجانب الزجري. كما نظم عملية إعادة هيكلة التجزيئات العشوائية . وإذا كان القانون قد أعطى الصلاحية لرؤساء المجالس الجماعية بمنح رخص البناء والتجزئات العقارية، وإحداث المجموعات السكنية، وكذا تقسيم العقارات، فإن هناك مصالح تقنية يجب على الرؤساء أخذ استشارتها التقنية، كما تؤكد ذلك المادتين 43 و45 من قانون 12-90 المتعلق بالتعمير ، والمواد 6 و9 و59 من قانون 25-90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات . وكذا الفقرة الرابعة من المادة الثالثة من الظهير الشريف رقم 1.93.51 الصادر في 22 من ربيع الأول 1414، الموافق ل 10 سبتمبر 1993، معتبر بمثابة قانون يتعلق بإحداث الوكالات الحضرية . المطلب الثاني: أهداف وغايات إلزام رؤساء الجماعات برأي الوكالات الحضرية قبل الحديث عن دور الوكالات الحضرية في مجال رخص البناء ومن ثم أهداف وغايات إلزام رؤساء الجماعات برأي الوكالات الحضرية، لابد من توضيح ما المقصود برخصة البناء . حيث تعرف بأنها:” عمل إداري بموجبه تمارس الإدارة مراقبة وقائية لمطابقة البناية للقواعد العامة التي تفرضها عليها، ومن ثم فهي-رخصة البناء- تكون بمثابة وسيلة للشرطة العامة” . وعند تفحص القانون رقم 12.90 لا نجد هناك نص صريح يوضح مهام الوكالة الحضرية في رخصة البناء، ونفس الشيء بالنسبة للمرسوم التطبيقي للقانون 12.90، حيث لا يوجد فيه نص يوضح مهام الوكالة الحضرية في مجال رخص البناء باستثناء ما هو منصوص عليه في كل من المادة 31 و32 من هذا المرسوم التطبيقي . بحيث تم التنصيص على أن رخصة البناء من اختصاص السلطة المكلفة بالتعمير أو المصالح الخارجية التابعة لها –أي تابعة للسلطة الحكومية المكلفة بالتعمير- وبالتالي فمن الضروري من أجل البحث عن مهام الوكالة الحضرية، لا بد من الرجوع إلى المناشير والدوريات التي تصدرها السلطة الحكومية المكلفة بالتعمير وخاصة الدورية الصادرة عن الوزير الأول رقم 2000/14 الصادرة بتاريخ 4 رجب 1421 الموافق ل 2 أكتوبر 2000 ومن أهم ما جاء به هذا المنشور بخصوص دور الوكالة الحضرية في رخص التعمير نجد: تدعيم دور الجماعات في مجال دراسة طلبات رخص البناء، ويتخذ رئيس المجلس الجماعي قراره ثم يسلم رخصة البناء في ضوء الاستشارات المطلوبة قانونا )آراء ملزمة، آراء استشارية…)، دون الإخلال بالآراء الملزمة كالرأي الذي تبديه الوكالة الحضرية. ويتم نشر النتائج التي أسفرت عنها دراسة ملف طلب رخصة البناء بمقر الجماعة، وكذا بمقر الوكالة الحضرية إن اقتضى الحال… . ونفس الشيء بالنسبة للتجزيء فالتفصيل في اختصاصات الوكالة الحضرية في مجال الإذن بإحداث التجزئة لم تمليها النصوص التشريعية والتنظيمية بل تضمنتها نصوص تنظيمية، حيث أكد على أن الترخيص بالتجزيء لا يمكن أن يتم بدون موافقة مسبقة للوكالة الحضرية المعنية. والرأي فيما نعتقد أنه حسنا فعل المشرع بنصه على إجبارية إدلاء الوكالة الحضرية برأيها في الحالات التي يصدر الإذن من قبل رئيس المجلس الجماعي على اعتبار أن الوكالات الحضرية هي مؤسسات مختصة في ميدان التعمير وبالتالي تسهر على احترام مقتضيات التخطيط العمراني، بخلاف لو ترك القرار لرئيس المجلس الجماعي نظرا لكون المنتخبين عادة لا يكون لهم الإلمام بهذه المقتضيات حتى يسهروا على تطبيقها. وكذلك من أهم النصوص التي صدرت بخصوص موضوعنا، الدورية 222 التي تم إلغاءها بالدورية عدد 1500/2000 الصادرة بتاريخ 6 أكتوبر2000 وأهم ما جاء في تلك الدورية أنه (…. وسعيا وراء مساعدة هذه السلطات على ممارسة المهام المخولة لها على الوجه الأكمل فقد نص الظهير الشريف المعتبر بمثابة قانون ……… المتعلق بإحداث الوكالات الحضرية على أن الرأي الذي تبديه الوكالات بخصوص المشاريع المشار إليها أعلاه رأي مطابق… ولا تقوم الوكالة الحضرية مقام الهياكل القائمة وإنما تسعى إلى جعل دراسة الملفات أكثر سرعة ونجاعة، وذلك عن طريق توحيد المساطر ومد الجماعات بكفاءتها التقنية باعتبارها جهازا متخصصا…). ولهذا وباعتبار الوكالة الحضرية جهازا متخصصا وله كفاءة تقنية في هذا القطاع تفوق كفاءة الجماعات، فإن من أبرز أهداف وغايات إلزام رؤساء الجماعات برأي الوكالات الحضرية، هو سد قصور الجماعات على إدراك الجوانب التقنية . وجدير بالإشارة أنه من بين الإشكالات التي كانت تطرح في هذا الموضوع قبل صدور القانون التنظيمي رقم 14-113 المتعلق بالجماعات، هو مدى إلزامية رأي الوكالة الحضرية للمجالس الجماعية؟ وجوابا على هذا الإشكال، ومن خلال المواد التي تناولت هذا الرأي يمكن القول أنه كان يتضح من ظاهرها ضعف القوة الإلزامية لرأي الوكالات الحضرية، نتيجة غموض مقتضيات تلك المواد. كما أن توالي صدور المناشير والدوريات جعلت من الصعب الاستقرار على رأي ثابت. لكن بالتفسير الدقيق كانت تتضح جوانب أخرى يمكن اعتبارها كأساس لهذه الإلزامية (أي إلزامية الرأي المطابق) . وبصرف النظر عن هذا النقاش الذي لم يعد له معنى بعد صدور القانون التنظيمي للجماعات، فإن الهدف من الرأي الملزم لرؤساء الجماعات في مجال التعمير يتجلى بالأساس في دعم أولئك الرؤساء من أجل اتخاذ القرار الملائم في مجال الترخيص. وبالرجوع إلى واقع الممارسة، نجد أن التجربة أثبتت ضعف ومحدودية دور المنتخب المحلي في مجال تدبير شؤون جماعته الترابية، وبالأحرى أن يؤدي الدور المنتظر منه في مجال رخص التعمير. ولعلها كثيرة عديدة هي الأسباب التي تقف وراء تلك المحدودية، حيث منها ما يتعلق بعوامل ذاتية ومنها ما له علاقة بمعطيات موضوعية ومكونات أو متغيرات بنيوية عميقة. ويعد التكوين السياسي والثقافي أهم عامل حاسم في تحديد مكانة المنتخبين الجماعاتيين داخل المجتمع المحلي، لاسيما في تحديد موقعهم ضمن السياسة العمرانية وخاصة في مجال الترخيص. إن التأثير السلبي للمنتخب المحلي على سياسة التعمير بالمغرب مسألة بادية للعيان ولا مرية فيها، وهي تبرز من خلال تجليات متعددة. فضعف مستوى النضج السياسي للمنتخبين بالجماعات الترابية، وكون غالبيتهم غير مؤهلين للقيام بمهامهم ، أفشل مفعول النظام العمراني وجعله دون التطلعات والأهداف المقصودة منه. بل إن ضعف التأطير والتنشئة السياسية للمنتخب، وكونه دون المستوى المطلوب أفرغ بعض المقتضيات القانونية للتعمير من محتواها بشكل شبه مطلق. فإذا كانت الرقابة العمرانية بالمغرب جوفاء قاصرة ضعيفة، وكانت كثيرة ومتنوعة هي دوافع وأسباب ذلك، فإن أبرز تلك الأسباب وأكثرها مسا وتأثيرا سلبيا هي مسألة تدني مستوى النضج السياسي للمنتخبين بالجماعات الترابية. وقد يكون من نافل القول التأكيد هنا، على أن وظيفة المستشارين الجماعاتيين لا تنحصر في تمثيل السكان فقط، بل ترتبط بالأساس بالدور التدبيري والتنموي –خاصة بالمجال العمراني- الذي ينبغي أن يلعبه المنتخب للرفع من مستوى الجماعة الترابية. إلا أن ذلك غير موجود على أرض الواقع، فالتخلف السياسي والثقافي للمنتخب المحلي يعد حاجزا رئيسيا للممارسة الفعلية للاختصاصات التدبيرية ، وللوظيفة التخطيطية والتدبيرية في المجال العمراني بالخصوص. وإلى جانب ذلك، أو بالأحرى الأدهى من ذلك، فإن وضاعة وتدني مستوى النضج السياسي للمنتخبين، وعدم قدرتهم على فهم مقتضيات النصوص القانونية. وكذا العجز عن إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل، بسبب الجهل وعدم الدراية بأمور التسيير والتدبير للشأن العام المحلي -خاصة أمام تعدد المسؤوليات وثقلها- أدى بشكل حتمي إلى إضعاف استقلالية الجماعة الترابية . بل قد جردت تلك العوائق والاختلالات البنيوية بعض الجماعات الترابية من أي اختصاص على مستوى الواقع. ولا مظنة هنا أيضا، أنه أمام تدني المستوى السياسي والثقافي للمنتخبين المحليين، وإلى جانب ضعف الحكامة المالية للجماعات الترابية، يزداد تشدد سلطات الوصاية وتعنتها. ويتدخل ممثل السلطة المركزية ليحل محل السلطة المنتخبة، في كل صغيرة وكبيرة. حيث يوجه العمل الجماعاتي حسب رغباته، وهواجسه التي تكون أمنية بالأساس، أو مصلحية أحيانا عندما تتقاطع وتلتقي مصالح الولاة والعمال مع مصالح المسؤولين عن تدبير شؤون الجماعة الترابية المعنية، وبالتالي من المؤكد والطبيعي أن تختل الرقابة وتتبخر استقلالية المجالس المنتخبة وتفشل التنمية المحلية . إن هشاشة وضعف النضج السياسي للنخب المحلية، هو الذي يفشل مفعول القوانين ويقزمها، حتى وإن كانت تلك القوانين في المستوى المطلوب. ولا شك هنا أن هذا الأمر، هو الذي دفع المشرع المغربي إلى إلزام رؤساء الجماعات برأي الوكالات الحضرية، في مجال الترخيص بالبناء والتجزيء. وبالنظر إلى ارتهان الحكامة المحلية واختصاصات الجماعات في مختلف تجلياتها لإرادة المنتخبين. حيث تظل المجالس الجماعاتية المنتخبة مضطربة سياسيا، وغير منسجمة وظيفيا، وضعيفة من حيث التدبير والحكامة. ومن هنا كان لابد من هذا الإلزام. ولا شك هنا أيضا، أن المشاكل المرتبطة بالمنتخبين، والتي تقف من وراء إلزامهم برأي الوكالات الحضرية في مجال الترخيص بالبناء والتجزيء عديدة ومتعددة، منها ما هو مرتبط بعوامل ثقافية وسياسية وتاريخية، ومنها ما يرتبط بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. إلا أن أبرز تلك الإشكالات والمشاكل، هو تفشي تزكية الأحزاب للأشخاص القادرين على حصد الأصوات وضمان الحصول على أكبر عدد من المقاعد، بصرف النظر عن سلوكهم وأخلاقياتهم. بل يتم تزكية بعض المنتخبين حتى وإن كانوا من الأعيان وتجار الأصوات وسماسرة الانتخابات، أو كانوا من المتورطين والمساهمين في تفشي وتنامي الظواهر الاجتماعية المشينة كالزابونية والمحسوبية والرشوة والأمية وغياب الأخلاق العامة وضعف الحس الوطني وغيرها من الأوصاف المشينة. وبالتالي كيف يعقل أن يمارس منتخبين من ذلك الصنف والطينة الاختصاص المخول لهم في مجال الترخيص، دون وجود نوع من الوصاية التقنية التي تمارسها الوكالات الحضرية؟ المبحث الثاني: متطلبات الحكامة في رأي الوكالات الحضرية الملزم إن متطلبات الحكامة في رأي الوكالات الحضرية الملزم لرؤساء الجماعات تتوزع بين سؤال الفعالية والنجاعة والحكامة في الرأي الملزم للوكالات الحضرية (المطلب الأول)، وبين ضرورة إعادة النظر في التفسير المعطى لرأي الوكالات الحضرية الملزم (المطلب الثاني) لرؤساء الجماعات. المطلب الأول: سؤال الفعالية والحكامة في الرأي الملزم للوكالات الحضرية تنص المادة 101 من القانون التنظيمي 13-114 المتعلق بالجماعات على أن يقوم رئيس مجلس الجماعة في مجال التعمير بما يلي: – السهر على تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة به طبقا للتشريع والأنظمة الجاري بها العمل، وعلى احترام ضوابط تصاميم إعداد التراب ووثائق التعمير؛ – منح رخص البناء والتجزئة والتقسيم، وإحداث مجموعات سكنية، ويتعين على الرئيس، تحت طائلة البطلان، التقيد في هذا الشأن بجميع الآراء الملزمة المنصوص عليها في النصوص التشريعية الجاري بها العمل ولا سيما بالرأي الملزم للوكالة الحضرية المعنية؛ -منح رخص السكن وشهادات المطابقة طبقا للنصوص التشريعية والأنظمة الجاري بها العمل، وذلك مع مراعاة الأحكام المنصوص عليها في المادة 237 من هذا القانون التنظيمي . لقد صدر هذا النص المؤطر للرأي الملزم للوكالات الحضرية بعد أن كانت المادة الثالثة من الظهير الشريف رقم 51-93-1 المتعلق بإحداث الوكالات الحضرية، الصادر في 10 ديسمبر 1993 الجريدة الرسمية عدد 4220 بتاريخ 15 شتنبر 1993 تنص على أن “الوكالة الحضرية تولى في نطاق اختصاصها ابداء الرأي في جميع المشاريع المتعلقة بتقسيم وتجزئة الأراضي وإقامة المجموعات السكنية والمباني داخل أجل أقصاه شهرا ابتداء من توجيه تلك المشاريع إليها من طرف الجهات المختصة ويكون الرأي الذي تبديه في ذلك ملزما . وانطلاقا من هذه المادة يتضح الدور المتميز للوكالات الحضرية على مستوى ملفات التعمير العملياتي مع الأخذ بعين الاعتبار الرأي الملزم الذي تبديه، والذي يلزم الجهات المكلفة باحترامه سواء كان رأيا سلبيا أو إيجابيا. ومن خلال هذين الرسمين البيانين تتببين مسطرة دراسة طلبات الرخص، وكيفية تدخل مختلف الفاعلين وعلى رأسهم الوكالات الحضرية من خلال رأيها الملزم لرؤساء الجماعات. ومن خلال ما سبق يتضح الجواب على سؤال الفعالية والحكامة في الرأي الملزم للوكالات الحضرية كما يلي: – البطء في دراسة الحصول على رخص التعمير، فمن بين الإشكاليات التي يطرحها تعدد المتدخلين في قطاع التعمير هو البطء في دراسة طلبات الحصول على ترخيص من أجل البناء أو إحداث تجزئات عقارية. وذلك بالرغم من أن المشرع قد حدد الآجال التي يجب خلالها دراسة هذه الطلبات (ثلاثة أشهر فيما يخص مشاريع التجزئات وأجل شهرين فيما يخص البنايات عدا المجموعات السكنية التي خصص لها نفس أجل التجزئات)، فما يلاحظ غالبا أن تلك الآجال لا يتم احترامها من طرف السلطات الإدارية، مما يترتب معها ضياع الوقت وبالتالي ارتفاع تكاليف إنجاز المشروع، كما أنه قد يؤدي بالبعض إلى التراجع عن مشروعه نهائياّ. وتجدر الإشارة أنه بالنسبة للمناطق الواقعة خارج نفوذ الوكالات الحضرية تطرح صعوبة أخرى وتهم الحصول على المعلومات التعميرية (كالمتعلقة بالتنظيق والاستعمالات المسموحة بها). بالنسبة للآرض المراد تجزئتها أو بناؤها والتي تنص عليها وثائق التعمير في حالة وجودها. – ظاهرة رفض الترخيص للمشاريع، فرغم التحسن الذي عرفه قطاع منذ أحداث الوكالات الحضرية، فإن الملاحظ أن هذه الأخيرة ساهمت هي لأخرى في التعقيد التدبير قطاع التعمير من خلال رفضها للعديد من رخص التعمير. ولعل ذلك تفاقم نظرا لافتقار هذه الوكالات إلى الأساس القانوني الذي تعتمد عليه لدراسة الطلبات، وذلك نتيجة لعدم تغطية كل الجماعات بوثائق التعمير، وبالتالي تفضل الوكالات الحضرية الحيطة والحذر وعدم المغامرة في اتخاذ المبادرة بالإضافة إلى الخروقات التي تسجلها الوكالات الحضرية من طرف رؤساء المجالس الجماعية الذين يتجاهلون قانون التعمير وتسخير هذا القطاع من أجل تحقيق أغراض ذاتية وأهداف انتخابوية على حساب المصلحة العامة. إن الالتباس الواقع في تداخل أو تجاوز الاختصاصات –وخاصة في ما يسمى بالرأي الملزم للوكالات الحضرية. بهذا الصدد ناتج عن مظنة في تفسير النص القانوني وتغييب قصد المشرع من إصداره، ومن ثم يتم تطبيقه بشكل سيئ يفرز تعاملات تمييزية وانتقائية تؤدي إلى تعطيل المساطر والاحتكام إلى حسابات لها ارتباط بالمصالح وبلوغ الغايات، وتقف حاجزا أمام أصحاب الطلبات الذين يعجزون عن فهم رموز المعادلة. وفي هذا السياق، نجد نماذج لما وقع ويقع في آسفيوالجديدة وفاس والناظور وأكادير وغيرها من المدن المغربية، فلماذا يرفض طلب رخصة؟ والرفض جاء بناء على رأي الوكالة الحضرية التي لا شأن لها بالمجال السياسي والتدبير العمومي العام؟ ومن البديهي أن تعطيل المساطر القانونية وتسويف النظر أو البت في الطلبات المحالة على الوكالة الحضرية، الرامية إلى الحصول على رخصة البناء بحكم وجوب الاستشارة، يؤدي إلى نتائج غير مقبولة أخلاقيا وقانونيا، كما يؤدي إلى طرق أبواب أخرى غير مشروعة للوصول إلى الغاية، وهذا ما يفسر تنامي البناء العشوائي المتخفي والبناء في الظل بعيدا عن الرقابة الإدارية. المطلب الثاني: ضرورة إعادة النظر في التفسير المعطى لرأي الوكالات الملزم لقد شهد المغرب في العقود الثلاثة الأخيرة ارتفاع وتيرة التوسع العمراني، مما أدى لتعقد مشاكل المدينة، وتزايد حدة التحديات التي تواجهها هذه الأخيرة، وكذا تضارب المصالح التي تؤطر ميدان التعمير، وهي دوافع تفرض وجود هياكل مؤسساتية تساعد الجماعات الترابية على بلورة مشاريع وثائق التعمير وتنفيذها، مما جعل السلطة العامة تحدث الوكالات الحضرية على مستوى مجموعة من الأقاليم المغربية لأجل إرساء قواعد التعاون والمساعدة الفنية مع جميع الجهات المتدخلة في ميدان التعمير خصوصا الجماعات الترابية. وتحسين التنسيق بين الوكالات الحضرية والجماعات الترابية يقتضي وجود مقتضيات قانونية ترسم حدود كل جهة في تدبير ميدان التعمير لتنافي تداخل الاختصاص، وما قد ينتج عنه من ظواهر ومظاهر سلبية في تدبير قطاع التعمير. ووعيا من المشرع المغربي بحتمية تحديد اختصاصات كل جهة على حدى، فقد جاء بمقتضيات قانونية مهمة سواء من خلال الظهير المنظم للوكالات الحضرية أو قوانين التعمير وكذا القانون 14-111 المنظم للجماعات، وهذا الأخير –كما سبق أن رأينا- قد نص من خلال المادة 101 على ضرورة أخذ الجماعات الترابية بالرأي الذي تبديه الوكالات الحضرية في ميدان التعمير باعتباره رأيا ملزما. وغموض المشرع المغربي عند إقراره لإلزامية أخذ الجماعات الترابية برأي الوكالات الحضرية ترتب عنه مجموعة من الإشكالات والأثار السلبية على مستوى الممارسة، مما يجعلنا نتساءل حول مضمون الرأي الملزم للوكالات الحضرية ونطاقه؟ لقد خول المشرع المغربي لرؤساء الجماعات الترابية مجموعة من الاختصاصات من أجل تدبير ميدان التعمير بشكل يستجيب للمشاريع التنموية المنشودة، وفي مقابل ذلك أقر بضرورة الأخذ برأي الوكالات الحضرية وجعله إلزاميا. ويقصد بالرأي الملزم تلك الآراء والمقترحات التي تبديها الوكالات الحضرية بخصوص الطلبات المودعة لديها من طرف الجماعات الترابية، والمتعلقة بالخصوص بمنح رخص التعمير، ويقتصر هذا الرأي الملزم على الجانب التقني والفني بشكل يتطابق مع المقتضيات القانونية والتنظيمية المتعلقة بالتعمير والبناء خصوصا ما يرتبط بالجودة المعمارية، فإذا كان مضمون الطلب هو الحصول على رخصة البناء، فإن الجماعات الترابية ملزمة بأخذ رأي الوكالة الحضرية المتعلق بكافة الجوانب الفنية والتقنية الواجب توفرها في البناء. إن الرأي الملزم لا ينسحب لدرجة الموافقة أو الرفض من طرف الوكالات الحضرية على الطلبات المحالة إليها عبر مصالح الجماعات الترابية، فتوفر الشروط القانونية في طلبات منح رخص التعمير، يقتضي أساسا التأكد من مدى احترام تصميم البناء للشروط المعمارية دون الخوض في إمكانية منح الرخصة أو رفضها، لأن إصدار قرار منح الرخصة أو رفضها يبقى من اختصاصات ومسؤولية رئيس الجماعة دون غيرها. وذلك طبقا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة المنصوص عليها في دستور 2011 ، ويقتضي من هذا الأخير أن يكون ملما بالمقتضيات القانونية التي تجعله يعي حدود اختصاصاته التي رسمها له القانون في الجانب المتعلق بميدان التعمير وكذا نطاق العلاقة القانونية بالوكالات الحضرية. ويبقى من غير المنطقي مسايرة أراء الوكالات الحضرية الخارجة عن نطاق الجانب التقني والفني، مادام أن المسؤولية الأولى والأخيرة في قرارات رخص التعمير يتحملها رئيس الجماعة. وإذا افترضنا بعمومية الرأي الملزم للوكالات الحضرية فيا ترى ما الفائدة من منح المشرع الاختصاص لرؤساء الجماعات الترابية في ميدان التعمير؟ أو بعبارة أخرى إذا كانت الوكالة الحضرية هي من يقبل أو يرفض الترخيص فلماذا أعطي الاختصاص لرئيس الجماعة أصلا؟ فالمنطق السليم يقتضي –إذا كان الأمر كذلك أن يمنح الاختصاص للوكالات الحضرية بشكل مباشر؟ إن أساس منح الاختصاص لرؤساء الجماعات الترابية في ميدان التعمير هو الإشراك الفعلي في تدبير الشأن العام بشكل عقلني يطبعه علاقة تنسيق وتعاون مع الوكالات الحضرية، في الجانب الفني والتقني للهندسة المعمارية والتعمير بصفة عامة، وليس طرح تلك الاختصاصات بشكل شكلي في قالب قوانين تنظيمية مدونة. لقد أضحى من الضروري ضبط علاقة التعاون والمساعدة بين الوكالات الحضرية والجماعات الترابية من خلال التصحيح المفاهيمي للرأي الملزم طبقا لمضمون المادة 101 من قانون الجماعات، وذلك من خلال مخرج قانوني يتمثل بالأساس في ما يلي: مخرج شكلي: يفرض هذا التوجه أخذ رؤساء الجماعات الترابية برأي الوكالات الحضرية من الجانب المبدئي، أي أن يؤخذ الرأي ثم يتم إعمال التقديرات الضرورية عند تفحص الرأي الملزم. بمعنى أن الرأي الأخير يكون لرئيس المجلس الجماعي، بصرف النظر عن تطابقه أو توافقه مع رأي الوكالة. مخرج موضوعي: ينبغي أن يكون الرأي الذي تبديه الوكالات الحضرية تقنيا وفنيا بشكل يتماشى مع طبيعة المهام التي أحدثت من أجلها، في إطار التشاور والحوار الجاد الفعال بين رؤساء الجماعات ومديرو الوكالات الحضرية، خصوصا أن المسؤولية الكاملة عن القرارات المتخذة في ميدان التعمير تقع على عاتق رئيس الجماعة دون غيره، وعليه من الأحرى تمتيعه بالصلاحيات الصريحة مقابل المسؤولية التي يتحملها. ذلك أن قرار الترخص ليس مسألة فنية وتقنية فقط، بل هو عبارة عن منظومة وعملية مركبة يتداخل فيها التقني والفني بالسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني وغير ذلك من العوامل والمعطيات الأخرى. إن تجاوز الإشكالات والأثار السلبية المترتبة عن الأخذ بعمومية الرأي الملزم للوكالات الحضرية من طرف رؤساء الجماعات الترابية يحتاج لتدخل الفقهاء القانونيين قصد تصحيح فهم القواعد القانونية بشكل صحيح، وتنزيلها بما يتطابق مع الصلاحيات الممنوحة لكل جهة بغية تعزيز الاستثمار للدفع بالتنمية نحو تحقيق المتطلبات والحاجيات اليومية للأفراد. فرؤساء الجماعات يتعاملون مع حالات متعددة لا يكفي الاعتماد على الجانب التقني والفني لحل بعضها. ولنأخذ على سبيل المثال عندما يبنى بناء معين تتوفر فيه المبادئ والمقتضيات والشروط الكبر المطلوبة من الناحية القانونية عدا بعض المسائل التقنية، فيعرض صاحب هذا البناء وثائقه على رئيس المجلس الجماعي من أجل الترخيص بشكل بعدي، وبعد أن يعرض هذا الأخير ذلك الطلب على الوكالة الحضرية فترفض. يتبع