هو صحيح أنني أكتب كثيراً وأجد في ذلك متعة، لكنني بخصوص الكتابة حول الثقافة أعترف بأنني أجدُني مشَتَّتاً بين الرغبة الجامحة للخضوع لواجب التعبير بكل الصّراحة الواجبة عن موقفي من الواقع، وبين القلق الذي ينتابني بسبب المضاعفات المحتملة لرَدَّة الفعل عند بعض العقليات التي تحكُمها الردود والارتدادات الاحتجاجية دفاعاً عن امتيازاتها وجُموحها الاسترزاقي. كما أعترف بأنني لولا استفزازات الواقع الذي أزرى بالثقافة خلال لقاء حول الموضوع حضرتُه ب"القلعة" الوسائطية...لما كنتُ كَتَبْت. فليعلمِ المُتثاقفون أنّ "الكتابة ليست هي القول"، كما أنها لا تنتمي إلى صنف المجادلة بالمقاهي...الكتابة كما يقول الأستاذ محمد رمصيص هي "لعِب جادٌّ يدفع المبدع إلى التمرّد على البقاء في سطوح الأشياء، ويدعوه إلى الغوص في الأعماق". والغوص في أعماق الفعل الثقافي ب"مدينة" الغُبار يستدعي بالضرورة التخصُّص والخروج عن السائد المألوف للخوض في إشكاليته وأمور تدبيره بالحيادية والموضوعية اللازمتين. وإذ أعتبر نفسي طرفا يحمل همّ الثقافة بمعناها الشمولي، وأنتمي إلى جمعية يشهد الجميع بتميُّزها، فإنني لن أخوض في التفاصيل حيث تسكن الشياطين التي جعلت من الثقافة "حرفة من لا حرفة له". لن أتطرق هنا إلى ماهية الثقافة وإلى من هو المُثقف... فتلك إشكالية تقليدية موضوع صعوبة، ثم إنني لا أنوي إثارة الزوابع بسبب ما قد يكون لذلك من تبعات سلبية على المستوى المحلي الذي يفتقد إلى الحد الأدنى من المقومات على مستوى الفعل والفاعل الثقافيين. ولا أعني هنا المثقفين الحقيقيين... "وقليلٌ ما هُم". المهم هنا هو محاولة طرح إشكالية الفعل، أو بالأحرى التنشيط الثقافي من خلال التعرض لواقعه محليا بتركيز شديد، واقتراح بعض الحلول التي أراها كفيلة بالمساهمة في النهوض بالشأن الثقافي محلياً. بدايةً لا بد من القول إنه رغم اقتناعي بضرورة نهج تشخيص محكُوم بمنهجية علمِية فإنني "سآتِي من الآخِر"، استناداً إلى ما بعده، لأقول قبل كل شيء: إن الواقع الثقافي بخريبكة هَشٌّ كما تشهد على ذلك الأسباب التالية: أوّلاً: إن واقع التنشيط الثقافي بِ"مدينة" الغبار تُحدثنا عنه قراراتُ ومواقف الداعمين، سواءً تعلقَ الأَمر بالمُكَلَّفِين بالشأن العامِّ أو بالمجموعة القابِضَة على الفعل الاقتصادي المحلِّي... - فَ"المُركب الثَّقافي" يُدَبِّرُ أُموره موظفو الجماعة التُّرابيّة (الذين لبعضهم اهتمامات ثقافية)، وهم بالتأكيد يحاولون الاجتهاد في عملهم، لكن طبيعة مهامهم الإدارية تتناقض والدور الثقافي المنوط بالمُركّب... تدبيرُ تجهيزٍ ثقافي وكأنه مرفقٌ إداري أمرٌ غير مقبول، ثمّ إن للثقافة أهلها ووزارتها. على مستوى البنية يحق للناظر دون أن يُحقق النظر أن يتساءل حول مدى تطابق اسمٍ ذي حمولة ثقيلة مع بناية عادية لا تثير فضول "الغاشي"، وبالأحرى أن تنال اهتمام ورضى المثقفين. الوسائطية الصغرى...شخصيّاً لا أفهم لماذا تَعُجُّ بالموارد البشرية الفائضة؟. والوَسائِطيَّة الأخرى تُسَيِّرُها أُطر الفاعل الاقتصادي الأوّل، وكأَنَّها متحفٌ يَستدعي حمايةً أمنيةً استثنائية...قد يتجاوز المرء عن الأمر لدواع معروفٌ سياقُها، لكن "الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضدِّه". - أمَّا "دارُ الشَّباب"... فيمكن اعتبارها على مستوى البناية والتجهيز سُبَّة في حق "المدينة"، وضعُها وحده يشرح وضع المدينة بين مزدوجتين، كإشارة لعجزها التوجُّه نحو التحضر...أمُرّ، ففاقِدُ الشَّيْء لا يُعطِيه. ثانياً: منذ ظهور الدَّعم، هو بالمناسبة دعمٌ مالي ولو كَرِه المستفيدون الذين لا يحبذون الإشارة إلى طبيعته المادية الصرفة، زاد الطلب على التمويل وتقلّص العرض الثّقافي رغم الطفرة العدديَّة التي عرفتْها التّظاهرات والجمعيات. وهكذا يُوزَّع الدعم وفقاً للعدالة العددية وطبقا لاعتبارات أخرى تتدخل فيها أشياء أخرى غير التمَيُّز والكفاءة والتأثير. ثالثاً: ثُمّ إنَّ حَجْمَ الإنْجَازَات والإخْفَاقَاتِ مَعلُومٌ ونَوْعُ الاختِلَالات والأمْرَاض وَاضِحٌ لِلْعِيَّان لا يُمْكِنُ حَجْبُهُ باللَّافِتَاتِ والإعلَانَات والدَّعَوَات. رابعاً: في زمن الاقتصاد والصناعة الثقافيين تغيب الرؤية الإستراتيجية عن قطاع حيوي له دور مُحدِّد في ترقية المجتمع والإسهام في بنائه على أسس المعرفة. لا أعتقد أن الفاعلين المحليين قادرون على تطوير آليات الفعل الثقافي لجعله قطاعاً منتجاً وحقلاً للاستثمار يساهم في خلق مناصب الشغل والارتقاء بالوعي الجماعي للاقتناع بقيّم الجمال والحرية المسؤولة، وذلك في غياب سياسة فاعلة ترتكز على رؤية هادفة. خامساً: من المؤكد أن لمديرية "الثقافات" دوراً أساسياً في تأطير ودعم التنشيط الثقافي...لن أتحدث هنا عن مستلزمات الإبداع كضرورة وجود إدارة مبدعة... لكن، حقّ السؤال: هل تتوفر المديرية على الأدوات والموارد الضرورية للقيام بالواجب؟ هل تشتغل المديرية المختصة على تمكين "المدينة" من تجهيزات وجمعيات ثقافية جديرة بها؟. سادساً: تُنَظَّمُ التظاهرات (مهرجان السينما الإفريقية، مهرجان عبيدات الرما، موسم أبي الجعد وملتقيات ومنتديات أخرى...) في ظروف من حق الجميع أن يتساءل (مع كامل احترامي للمجهودات المبذولة) عن جدوَاها وعن مدى فعاليتها وعن مستوى تأثيرها على ساكنة المراكز الحضرية للإقليم. وحيثُ إنَّ للمُثقَّفِ دوْراً مُحَدِّداً وأساسِيّاً في الارتقاءِ بالمجتمع، وحتى يجد سبيلاً إلى وجْدان شبابِنا...وحتى يتم الربط بين الثقافة والتنمية المأمولة، لا بُدَّ، في اعتقادي، ممَّا يلي: أوّلاً:التنظيمات الجمعوية هي المُعوّل عليها لخلق الدينامية الثقافية الضرورية، ولتحقيق ذلك فإن على المجتمع المدني المحلّي الذي يشتغل على الثَّقافة أَن يتحمّل مسؤُوليّته الثَّقافيّة من خلال صناعة برامج تستأثر باهتمام الرأي العام، ومن خلال استدعاء طرح أسئلة التغيير والتجديد. ثانياً: على الجهات التي يهمها أَمر الثَّقافة إخراج البنْية التّحتيّة من تخلُّفِها وتطوير آليات نشر الثَّقافة على مستوى التجهيزات، فذلك شرط أساسي من شأنه أن يساعد خريبكة على الترويج لنفسها كفضاء ثقافي متميّز. ثالثاً: البحث عن دعم التظاهرات من خلال تقديم عروض استشهاريّة مُقْنعة في اتجاه القِطاع الخاصّ...إن إثارة اهتمام المقاولة وإقناعها بأهمية التظاهرة الثقافية كدعامة حاملة على مستوى التواصل من شأنها أن توطد العلاقة التفاعلية بين الثقافة والاقتصاد. الثقافة من أجل الثقافة هدف لا يروم رقيّ الإنسان، والحديث عن الثقافة بعيدا عن الاقتصاد وبمعزل عن التنمية حديثٌ لا يستقيم... وحتى تكون الثقافة داعمة للاقتصاد لا بد أن تكون مدرّة للأموال وتوفر فرصاً للاستثمار وتخلق فرص الشغل. ولنضرب لذلك مثلاً... فالقطاع السينمائي يُعتبر من المولِّدات الثقافية والاقتصادية في آن واحد. رابعاً:تمكين المبدِعِين من تمَلُّكِ المُنشآت الثَّقافيّة وتسهيل الولوج إلى هذه الفضاءات حتى يتمكنوا من الاشتغال في ظروف جيدة. خامساً: تَخْصيص الدَّعم العُمُومِي حَصرِيّاً للفاعِلِين الجمعويِّين الأفضلِ إنتاجاً والأكثر تأثيراً الذين يتوَفّرون على شروطِ الاستمراريّة، والذين يحملون برامج ومشاريع من شأنها أن تحقق إضافات وأهدافاً. وختاماً، وفي انتظار ظهور "دار الثقافة" إلى الوجود، لا يسعني هنا إلا أن أثمّن القرار القاضي بتحويل المبنى القديم للمقاطعة الرابعة إلى مقر يأوي أنشطة المعهد الموسيقي. *باحث اقتصادي وفاعل جمعوي.