شكل هاجس ترقي الذات وتطوير الشخصية قلق كل إنسان عبر التاريخ، وما ذاك إلا لخضوع الأمر لقوانين تطور الشخصية، سواء إذا راقبنا القضية عبر المنظار الديني أو وضعناها تحت مجهر علمي. لا شك أن من تابع الشأن عبر ميكروسكوب الدين سيتضح له جليا حث مختلف النصوص التراثية على مفهوم التزكية، الذي هو عين فحوى مصطلحات التنمية والترقي والتطوير. هذا التطوير الترقي إما أن يكون في اتجاه الإيجاب فيسميه التراث الديني تزكية، أو يكون في اتجاه السلب، فيسميه الشرع دسيسة، بمعنى ما نما في خفاء عن الأعين، في إشارة بليغة إلى ما يتطور في خفاء عن الشخص نفسه في تكوين شخصيته من أفكار سلبية. جاء في النص الديني قوله تعالى: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". لا غرو أن من وضع نفس قضيتنا هاته تحت منظار العلم الحديث ستلوح له معالم نفس المضمون، ومؤشرات عين الفحوى، ودلائل نفس المغزى، إذ لا يفرق جيمس ألان في كتابه الشهير "كما يفكر الإنسان يكون" بين التفكير والشخصية، فهما عنده سيان، وما شخصيتنا التي نحن عليها الآن إلا صنيعة لأفكارنا، وما نكون عليه من حال، إيجابيا كان أو سلبيا قد تم بناؤه بسواعد الأفكار. والنتائج حتما تابعة لأفكارنا لا محالة كما تتبع العربة الحصان. ليس جيمس ألان وحده من يقول بما سبق، بل قانون السببية معروف لدى العلماء عبر التاريخ، كأرسطو وديفيد هيوم وكانط ولالاند وفولكي ومايرسون وغيرهم كثير، وهم متفقون على ذلك الإشراط أو الترابط الوثيق بين السبب والنتيجة. لذلك فعالم الأفكار الخفي في ما يرى جيمس ألان في كتابه آنف الذكر يخضع في حتمية كغيره لقانون السبب والنتيجة الكوني هذا، كما هو عليه الأمر في قضايا العالم المادي المحسوس. واختيارنا للأفكار هو الذي يصنعنا، لذلك فلنحسن اختيار بذور أفكارنا لنكون سعداء بثمارها في شخصيتنا في ما يستقبل من الزمن، فلا ينبغي أن نلوم الظروف والأحوال التي نتعرض لها خلال مراحل حياتنا لنتهرب من مسؤوليتنا عما وصلنا إليه من نتائج؛ هذا ما يشير إليه جيمس ألان في إبداع مدهش حين يقول: "يصنع الإنسان أو لا يصنع من قبله هو شخصيا، فمن خلال مستودع الفكر يقوم باستنساخ الأسلحة التي يدمر بها نفسه، ومن خلاله أيضا يقوم بتصميم الأدوات التي يبني بواسطتها لنفسه قصرا فردوسيا من البهجة والقوة والسلام". عندما يلوم بعض الناس الظروف التي مروا بها من أجل إلصاق التهمة بها في الوصول بهم إلى النتائج السلبية التي وجدوا أنفسهم تحت قهرها فإنهم في غالب الأحيان يكونون صادقين مع أنفسهم في اعتقادهم ذاك؛ وما ذاك إلا لجهلهم بقانون مهم يعبر عنه جيمس ألان بأن "الظروف لا تصنع الإنسان، بل تكشفه أمام نفسه". الظروف مرآة شخصيتنا، فلا وجود لشيء اسمه ظروف تنحدر بالإنسان نحو الرذيلة وما يصاحبها من معاناة بمعزل عن الميول الخبيثة، كما لا وجود لظروف ترتقي بالإنسان نحو الفضيلة وسعادتها الرائقة من دون الزراعة والتربية المتواصلة للتطلعات الفاضلة المستقيمة. وختاما لا بد من الوعي بأن الفطرة الإنسانية بحر عميق مملوء باللآلئ الثمينة كما هو ممتلئ بالنتن من النبات والكائنات الخبيثة. ويبقى دورنا مهما في اختيار ما نركز عليه بتفكيرنا لاستثماره من أجل فلاحنا وخيرنا، فإن لم نع بتواجد تلك الجوهر الكامنة في بحر فطرتنا لتطويرها سيبقى المجال فارغا لنمو الضار من الأفكار دون تشذيب قد تؤدي في آخر المطاف إلى ما سماه إيمانويل لوفين في كتابه إكسير الحقيقة "أدغال العقل" التي قد تخفي بعلوها وضوح طريقنا؛ فلا بد من قطع الضار منها بل وتشذيب النافع منها. *كاتب- المغرب