الديمقراطية ووسيلتها الانتخابات هي أهم ما تسعى إليه الشعوب من أجل التحكم في مصيرها ومحاسبة المسؤولين عن الشأن العام حسابا يضمن النزاهة والاستقامة والعدالة وتوزيع الثروة الوطنية توزيعا عادلا. هذه الأداة لم تتركها لعبة الأمم تجري على سنَنِ وقواعد الديمقراطية الأصيلة، الحرية والنزاهة والشفافية واحترام إرادة الناخبين، انها هي أيضا ضمن لعبة الأمم وهو الموضوع الذي نقدم فيه نموذجا من خلال تقرير لعبة الأمم. وهذا النموذج يعود إلى تاريخ وفترة سابقة، ولكنه في الواقع يصور ما يجري وما جرى حالبا في كثير من الأقطار العربية والإسلامية وغيرها. لقد كانت الغاية ولا تزال من الديمقراطية أن تؤمن الاستقرار وتتيح الفرصة للشعوب في حكومة تؤمن وتضمن هذا الاستقرار، والعمل في إطار الجدية من لدن الأغلبية والمعارضة على السواء في دائرة دستور وأنظمة وقوانين تحدد حقوق وواجبات كل فريق كان هذا المفروض، ولكن لننظر ماذا حصل وماذا يجري هنا وهناك؟ لقد استبشر الناس خيرا عندما قيل أن هناك "ربيعا عربيا" تخضر أوراقه وتتفتح أزهاره وتملأ الجو بعبق وأريج الحرية والعدالة والديمقراطية ليكشف الناس بعد ذلك البرق الخلب الذي لا يتيح مطرا و لا عشبا، فنحن اليوم ومع اكتشاف خيوط اللعبة شيئا فشيئا من ممارسيها ومن ضحاياها ومن التوجهات الواضحة، والتحكم الصارم والصريح وجدنا أنفسنا في عمق اللعبة التي إذا نجحت ستؤدي بالأمة إلى فقدان ما راكمته من تطور وبناء في البنية التحتية وتأسيس شبه أسس لتقدم اقتصادي، ولذلك فلا ديمقراطية تحققت ولا البنية التحتية سلمت، ولا الشعوب بقيت وحدتها سليمة، فالمذاهب المتآخية منذ زمان أصبح بعضها يضرب في بعض، والطوائف المتساكنة أصبحت تشحذ الأسلحة ضد بعضها البعض والهويات التي كانت هوية واحدة متضامنة أصبحت كل هوية تريد جزء من الوطن لها ولجذورها الاتنية، وهكذا أصبحت اللعبة لعبة خطيرة ومكلفة، وأصبح الإنسان وهو يقرأ ويتابع ما ينشر من تقارير يكاد يفقد الثقة في كل ما يقرا ويسمع، ويتساءل أين الحقيقة؟ وأين الواقع؟ وأين الصدق؟ وأين الأمانة؟ وأين النزاهة والاستقامة؟ وأين الشفافية وأين وأين؟ لقد ضاعت كل القيم باسم المحافظة على نفس تلك القيم وهذه هي اللعبة القذرة (لعبة الأمم) التي ابتكرت لتقوم بدور لا يمكن القيام به إلا من طرف من درب على اللعبة وأتقنها. لقد كانت الديمقراطية وحقوق الإنسان مفتاحي التدخل في الشؤون الداخلية للدول، الكبيرة والصغيرة على السواء، وان كان التدخل يؤثر أكثر ما يؤثر في الدول الضعيفة والصغيرة، وذلك لأن الكبار مستوعبين لقواعد اللعبة ويعرفون كيف يوجهونها وفق المصالح التي يريدون تأمينها فهم لاعبون، والهدف المشترك لجميع اللاعبين في «لعبة الأمم» هو رغبتهم في المحافظة عليها مستمرة دون توقف، ذلك أن توقف هذه اللعبة «لعبة الأمم» لا يعني سوى شيء واحد ألا وهو «الحرب». إن الإفراز الناتج عن لعبة ما سمي بالديمقراطية في العالم الإسلامي لم يعط استقرارا ولا عملا مجديا لبناء الدولة وتحقيق التنمية، فهل انتخابات أفغانستان أعطت الاستقرار لهذا البلد؟ والباكستان هل تنعم بالاستقرار؟ والعراق؟ ومصر؟ ودول أخرى شرقا وغربا وجنوبا وشمالا؟ إنها اللعبة لعبة الأمم العابثة لفائدة اللاعبين الكبار والمفسدة لكل عمل ديمقراطي بناء. هذا ما قدمت به حديث الجمعة (أبريل 2013 ) وهو لا يزال صالحا بل تأكد مضمونه واكثر وأعيد نشره بعد تحيينه للتذكير. ************ الوضوح الفاضح في الحديث الأخير تحدثنا عن الأسلوب الذي تتعامل به أجهزة اللعب داخل لعبة الأمم والتوجيه الذي تقدمت به المخابرات الأمريكية لقائد الثورة المصرية في عام 1953م، ولاشك أنه من خلال القراءة الأولية يدرك القارئ أن المحرك الأساس لما يجري ليس اللاعبون على المكشوف ولكن المحركين الأساس هم الذين يديرون اللعبة من وراء الجدران، والقابعون في مكاتب الأجهزة السرية لهذه الدولة أو تلك، كما تحدثنا عن الدور الذي قامت به كذلك الأجهزة السرية الفرنسية في بعض الأقطار الإفريقية التي تم الكشف عنها في فيلم وثائقي واضح وفاضح في نفس الوقت. العالم المفتوح ولاشك أن ما أظهرته الأجهزة وكشفت عنه بعد عقود في عصر كانت فيه الوسائط الإعلامية ليست بالدرجة التي هي عليه اليوم، حيث أصبحنا في عالمنا المتفتح ندرك إعلاميا ما لم نكن ندركه من قبل وان كان في عمومه، ليس في جزئياته من خلال تتبع التقارير التي تصدر عن المؤسسات المرصودة للدراسات الإستراتيجية والسياسية والديمقراطية وغيرها من المؤسسات، إذ ما كان يعتبر أمرا سريا لا ينبغي كشفه في عالم الحرب الباردة والتنافس بين قطبين أساسيين في العالم على النفوذ، أصبح في عالم القطبية الواحدة لا يشكل عائقا في تركيز النفوذ وفرض الهيمنة كما كان يحدث في الماضي، فالإمبراطورية الجديدة تستطيع أن تفعل ما تشاء وتأمر بما تريد دون أن يكون هناك عائق لتحقيق ما تريده وما تسعى إليه في هذا البلد أو ذاك. سياسة خبيثة إذا كان الأمر بالفعل قد وصل إلى هذا المستوى من ذيوع ونشر المعلومة فإنه مع ذلك لا يزال هناك الكثير والكثير جدا مما يقرر وينفذ في الظلام، وتظهر آثاره ونتائجه في العلن ويظن الكثير من الناس البسطاء في مختلف الشرائح الاجتماعية أنهم الفاعلون والمقررون وأن الأحداث من صنعهم ومن نتاج بنات أفكارهم مع أن الحقيقة في الواقع عكس ما يرون وما يظنون بل وما يعتقدون، فكم من الناس المخلصين النزهاء كانوا أداة طيعة في تنفيذ سياسة خبيثة تقررت بدوافع سيئة، ونوايا خبيثة في هذا الركن أو ذاك من بناية في قارة أخرى، ويسفك دم الأبرياء في قارة أخرى لان إرادة اللاعبين تريد ذلك وأن هؤلاء الضحايا كانوا وقود اللعبة وليس لهم فيها دور لا في التحضير ولا في التنفيذ ولكن السياق العام استغل طيبوبتهم وإيمانهم بقيم معينة. منهجا السلوك وهذا الاستغلال في الواقع ليس وليد اليوم، فمنذ وجد الإنسان على هذه الأرض والحياة تسير وفق منهجي( قابل وهابل)، فهذا التوجه الشرير الذي ينسب إلى (قابل) بني باستمرار على استغلال طيبوبة (هابل) وبقطع النظر عن الاسمين وما نسج حولهما من الكلام وبني عليهما من الأحكام والنظريات فإن القرآن الكريم من غير ذكر الأسماء وضح حقيقة النوايا وخبايا النفوس لدى الطرفين ففي طرف توجد الطيبوبة والتقوى ومخافة الله ومن تم تحكيم الضمير والخضوع للمراقبة الذاتية لكل ما يأتي من حركة وما يقدم عليه من عمل «إني أخاف الله رب العالمين». منهج القذارة هذا الخوف المنتج للتقوى، والموجه نحو الفضيلة هو غير موجود في الطرف الآخر، لأن النفس طوعته ووجهته نحو الشر ولذلك أصبح من الخاسرين، هذا الخسران المبين الذي تنتجه أساليب (قابل) في الساسة الدولة والداخلية معا وإن شئت الدقة في الساسة بصفة عامة هو جزء من القذارة التي تمارسها الأجهزة العابثة بمصير الدول والشعوب، وان كان هذا الوصف في الواقع الذي يعيشه الناس تدخل في سياق قيم لا تعترف بها السياسة أصلا ولا تقيم لها وزنا، فالسياسة يعني أصحابها دائما عكس ما يقولون وما يدعون، وهذه قاعدة من القواعد التي بنيت عليها "لعبة الأمم". التلاعب بالعقول وإذا كان الناس منذ الأزل يرون في الأشياء ظهرا و بطنا والكلمات يحملونها أكثر من معنى إلى درجة أن الناس الذين تربوا على حفظ رموز الأسلوب السياسي في التعامل الداخلي والخارجي، فترى الخطاب السياسي المفروض فيه أنه موجه إلى الناس ليدركوا معناه ومغزاه، ولكنهم في واقع ما يصحبون عليه ويمسون يحتاجون إلى من يقرأ لهم ما قيل، ويفسر لهم ما المراد منه وما الغاية، ولعبة الأمم مبنية على الغموض والتلاعب بالألفاظ وقلب الحقائق، وتضليل الناس بدل تنويرهم وفتح الآفاق أمامهم، فالناس أمام ما يدبر في الخفاء ويهيأ في الغيب يفاجئون بأكثر من حالة وأكثر من موقف. دمى اللعبة وهذه اللعبة اللعينة تضع أمام الناس دمى تتحرك فوق المسرح وتنطق بكلام له معنى تفهمه أحيانا وتجهله أخرى، ولكن من يحركون الخيوط من وراء الستار يعرفون دائما ويدركون دائما ما قيل وما الهدف، وإن كانوا هم بدورهم في مستوى من المستويات وقد يكونون دمى متحركة من وراء الستار وهكذا دواليك. وهذا هو الأمر الذي نريد اليوم أن نتحدث عنه ونحن نسجل بعض الملاحظات على لعبة الأمم وأساليبها الخبيثة، فهي لا تكتفي باختيار "الثوار" الذي تضلل عن طريقهم الشعوب وتحول بينها وبين تولي مسؤولية تدبير شؤونها بنفسها على الوجه الصحيح والسليم، وتدبير من خلال ذلك شؤون ثوراتها الوطنية لما فيه خير الأمة المعنية وصلاح أفرادها. استمرار اللعبة وإنصافا وانسجاما مع السياق العام لهذه اللعبة فإن أمرها ليس وليد اليوم كما قلنا ولكنها منذ القدم، وما فنيت أمم وشعوب وبادت حضارات وانهارت المدن والحصون إلا تجاوبا مع هذه اللعبة القذرة التي سميت اليوم بلعبة الأمم، ولذلك يحمل هذا العنوان أو ذاك الاسم وإنما الحقيقة واللعبة تبقى هي اللعبة ذاتها، ولا حاجة إلى النفور أو القلق فالناس هم الناس وقابل وهابل رمزان من رموز اللعبة وهما يقبعان في ذات الأساس. البعد الجديد ولاشك أن هذه اللعبة أخذت اليوم بعدا جديدا في دنيا الإنسان العربي المسلم، فهي اليوم فوضى ولكنها خلاقة، ولا تسأل عن الكيفية التي تكون فيها الفوضى خلاقة فهذا الوصف الذي استعمل ذات يوم فلسفيا ليعبر عن مضمون لم يجد له بعض الناس تفسيرا، فالمهم أن هذا الوصف يعطي لكل المصائب التي تنال من هذا المجتمع أو ذاك. ولكنها على أي حال تلقى القبول لدى الناس الذين لديهم الاستعداد لقبول ما يلقى إليهم من كلام ومن أوصاف، فالتقاء الأضداد وترابطها لفظا وإن لم يكن واقعا هو ما تقدر سياسة لعبة الأمم أن تفعله. ربيع الجوع إن هذه الفوضى التي قيل عنها (خلاقة) والناتجة عن شيء اسمه السياسي "الربيع العربي" ولا تنسى أن هذا الاسم هو من نتاج لعبة الأمم، ومعناه أنه لا يحمل معنى لربيع ولا لخريف ولكنه رمز لهذا الذي يجري في وطننا العربي الإسلامي حيث التدمير الذاتي على أشده وحيث عدد اللاجئين يتكاثر يوما عن يوم وحيث الفقر تتسع دائرته، وحيث البطالة تنال من الجميع، وحيث المال يهدر في غير طائل وحيث الأرصدة الناتجة عن ثروات شعوب جائعة تدخر في هذا المصرف أو ذاك خارج البلدان الأصلية والمالكة لها كل هذا وهذه الشعوب تعيش ربيعا عربيا رائعا، أرأيت كيف يحمل الربيع كل مضامين التخلف الشامل. ربيع مكروه وإذا كان من نتيجة لهذه الفوضى الخلاقة من نتيجة فهي أن الناس أصبحوا معها يكرهون هذا الربيع ويتمنون أنه لو لم يكن، وذلك لأنه لم يكن في الواقع ربيعا من صنع الناس البسطاء الذين كانوا وقودا له، ولكنه من صنع من درب آخرين في مراكز مختلفة هنا أو هناك فقد تحدثت الأفلام الوثائقية والتقارير عن تداريب في صربيا وفي قطر وفي إسرائيل وفي غيرها من الدول هل هذا صحيح؟ أو في حد ذاته لعبة من لعبة الأمم؟ إفساد في إفساد لقد كان الحديث باستمرار عن الحكومة الخفية وعن الأجهزة المتحركة من وراء الستار في مختلف الدول وعلى مستوى المؤسسات العالمية، وتلك أداة من أدوات لعبة الأمم وهذه اللعبة اللعينة لم تترك زاوية من زوايا الحياة دون أن تقذف فيها بقدر معين من قذارتها وأسلوبها وإفساد كل معنى نبيل فلا ربيع له معنى ولا ثورة لها معنى ولا ديمقراطية لها معنى. قتل المعنى النبيل لعل الكلام طال واستطال دون أن نقدم نموذجا لهذا العمل التخريبي لإفساد معنى نبيل، لنأخذ الديمقراطية مثلا، والتي ترمز إليها الانتخابات لاختيار ممثلي الأمم، أنه عمل نبيل وأسلوب حضاري لتخرج الشعوب من سيطرة حكومات وقادة بدون مراقبة ولا محاسبة إلى حكومات تخضع لهذه المراقبة والمحاسبة. إن صاحب كتاب لعبة الأمم يتحدث عن التدخل في توجيه الانتخابات في هذا البلد أو ذاك والمشاركة في الحملات الانتخابية وتدريب المرشحين ومساعديهم وطباعة المنشور وغير ذلك، وهو يكشف عن أمر جرى عليه العرف لدى هؤلاء في كثير من الشعوب والدول. تجربة خاصة وقبل أن نقتبس بعض الفقرات في هذا الصدد أود أن أشير إلى تجربة عشتها وعاشها معي جيلي وهي تجربة انتخابات عام 1963م، وقد اخترت هذه التجربة مع أنني عشت كل هذه المرحلة التي عرفها المغرب منذ ذلك الحين والى الآن عايشتها فاعلا ومسؤولا في هذا المستوى أو ذاك في إطار هيأة سياسية هي في قلب الحدث الانتخابي في بلادنا، لقد كانت نذر تزوير الانتخابات عام 1963م، تلوح في الأفق قبل بدئها، وكان التحضير لمقاومة هذا التزوير على أشده من لدن الحركة الوطنية آنذاك حزب الاستقلال الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وكنت مسؤولا عن إدارة الحملة الانتخابية في قسم كبير من دائرة الزعيم علال الفاسي رحمه الله بمدينة فاس. عناصر غريبة وكنت شاهدا على تدخل عناصر غريبة والأسلوب الذي تدار به حملة الطرف الآخر المراد إنجاحه وكيف تم توزيع صور مفبركة ومركبة بعد نهاية فترة الحملة الانتخابية بين الساعة الصفر والواحدة صباحا من يوم الاقتراع، وكيف تم بعد ذلك اكتشاف كثير من الأمور التي عملت من أجل إنجاح جهة معينة في هذا الاستحقاق بما فيها تقديم مساعدات مادية وهو ما كان موضوع احتجاج على سفارة معينة من لدن خمسة مرشحين الذين فاز منهم أربعة واعتقلوا بعد نجاحهم وزج بهم في السجن لأنهم فضحوا اللعبة عن هذا التدخل في الانتخابات. والآن نتساءل كيف تتم اللعبة، وكيف بدأ صاحب التقرير عمله؟ وكيف سارت الأمور بعد البداية يقول الكاتب: كانت قواعد «لعبة الأمم» تملي علينا أن نبذل قصارى جهدنا لإحراز التقدم والنجاح ضد المناوئين لنا ولكن لصالح الموالين لنا. فإذا تعسرت الخطوات وسدت المنافذ كان لابد بعدها من تعديل اعتباراتنا لأسباب النجاح وطبيعته. تغيير اللاعبين يقول صاحب كتاب لعبة الأمم: فإذا لم تكف هذه الخطوة كان لابد بعدها من اللجوء إلى تغيير اللاعبين الذين يشكلون حجر عثرة في طريقنا واستبدالهم بآخرين أكثر انسجاما مع الظروف الراهنة، ومذكرات الحكومة الأمريكية عام 1947 أشارت بوضوح وتأكيد إلى أن أجهزة المخابرات والسلك الدبلوماسي كانت على وشك القيام بتغييرات في قيادات بعض دول الشرق الأوسط. والمؤرخون الذين يحاولون الوقوف على الدوافع التي كانت خلف مخططاتنا أثناء تلك الفترة من التاريخ كانوا يتغاضون عن الحقيقة التالية: أن التفكير المثالي ومحاولة الالتزام بالمبادئ لم تختف نهائيا ليحل محلها الأسلوب الواقعي للعمل الذي يتمثل في التجسس والاستفادة من التسهيلات التي يقدمها العمل السياسي السري وذلك لمجابهة الروس بنفس طريقتهم في العمل. ان أي تفحص لوثائق وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ومجموعة المخابرات المركزية (التي أصبحت بعد ذلك وكالة المخابرات المركزية) تظهر مثاليتنا في العلن وانتهازيتنا في السر، ولكن كل من شارك في «لعبة الأمم» يذكر أننا لم نكن فعلا انتهازيين كما تصوره تلك الوثائق، وأن عنصر المثالية كان لا يزال التفكير السائد والصبغة وذلك في كلا نشاطينا السر والعلني. الحكام الفاسدون وبعد كيف هو الواقع الذي يريدون تغييره؟ يقول التقرير الكتاب: «إنني لا أزال أذكر تلك المحاضرة التي ألقاها أحدهم في اجتماع توجيهي مشترك لوزارة الخارجية ومجموعة المخابرات المركزية وقال فيها يومها: «يظهر في كل من سورياولبنان ومصر والعراق، أن السياسيين الحاكمين قد استلموا مقاليد الحكم نتيجة انتخابهم من الشعب، لكننا نتساءل آية انتخابات تلك. كان الفائزون بالانتخابات من مرشحي القوى الأجنبية، ومن مرشحي الاقتطاعيين الذين يلزمون الفلاحين والمستخدمين بانتخاب من يخدم إقطاعهم، ومن الرأسماليين الجشعين الذين يشترون أصوات الشعب لحساب أعوانهم بنفس طريقتهم المعتادة في الحصول على ما يريدونه عن طريق الخداع واللصوصية. ان العرب يرزحون تحت نير أولئك الحكام المرتشين وهم يستصرخون الجميع لرفع هذا الاضطهاد عن كواهلهم، ان لهم ميولا طبيعية نحو السياسة وهم ليسوا أغبياء مغفلين». كيف كانت البداية؟ ومع من؟ وبمن؟ يقول التقرير الكتاب: «ولكن أين نبدأ؟ لا يمكننا أن نبدأ في تركيا أو اليونان، فالبلدان حليفان لنا ويريدان ما نريده نحن، وقياداتهما تسهران على رعاية أهدافنا المشتركة، ولو كان هناك أي مجال لأن نكون في «لعبة» معهم فستكون «لعبة تعاون». صراع واختلافات وليس «لعبة صراع واختلاف» كما أننا لا يمكننا أن نبدأ في ايران لأننا في انسجام وتفاهم مع قيادتها، وكانت نسبة التعاون في «لعبتنا» معها أكثر من تسعين بالمائة (وهذا في البداية على الأقل) ونسبة الخلاف أقل من عشرة بالمائة. وبالتالي فلم يبق أمامنا سوى العالم العربي الذي بدأت الأمور تتفاقم بيننا وبينه، وزادت شقة الخلاف اتساعا غير قليل. وكان ثانيا أن سبب هذا وجود قيادات طائشة مضللة على رأس السلطة في تلك الأقطار، وأن استلام مقاليد الحكم من أشخاص ذوي ثقافة أوسع وإدراك أعمق سينقل هذه الأقطار العربية من صف المناوئة إلى صف الموالاة لنا. كما أن حذر العرب البالغ من السوفييت سيجعل الحماية الأمريكية لهم موضع ترحيب. فشركات البترول الأمريكية ستجعل منهم أغنياء قريبا. كما أن التوصل إلى أي تسوية حول مشكلة فلسطين ستجعل منهم المستفيد الرئيسي لكل ما يتأتى منها، إلا أن إصرار حكامهم يومها على رفضهم النظر إلى الأمور من خلال هذا المنظار (المنظار الأمريكي) كان قد اعتبر مبررا كافيا للإطاحة بهم –أو على الأقل تحريك شعوبهم وحثها على الإطاحة بهم. وهكذا فقد كان وضع القيادات العربية في عام 1947 مبررا كافيا للتدخل بشؤون العالم العربي. أين البداية؟ (أود في القارئ أن يقرأ بانتباه ويقوم بعملية إسقاط مع فارق ستة وستين عاما 1947-2013، ولكن الهدف والحركة لم يتغيرا. كان المفروض أن يكون العراق أول أهدافنا، فحكومته بوليسية مكروهة. وكان من السهل علينا يومها أن نقنع أنفسنا أننا نقوم بعمل فيه خير كثير للعراق عندما نفسح المجال لمجيء حكومة أكثر شعبية وتأييدا, إلا أن الفريق المكلف بالتنفيذ في العراق لم يستطع مباشرة ذلك دون علم البريطانيين وموافقتهم، ورفضت حكومة المملكة العربية السعودية كافة اقتراحاتنا لتغيير طريقة الحكم فيها، وهكذا لم يعد لنا أي فرصة للعمل فيها, كما أسقطنا من حسابنا التدخل بشؤون لبنان والأردن ومصر لاعتبارات شتى, وبحساب البواقي فإنه لم يبقى أمامنا إلا سوريا, فقد كانت في وضع اقتصادي مريح، كما أن الحكمين التركي والفرنسي لم يفلحا في إذلال شعبها وترويضه, ولهذا فقد كانت ظروف سوريا ملائمة جدا لإجراء انتخابات ديمقراطية، تفتح المجال أمام مجموعة من الزعماء على شيء من الذكاء والحنكة والتعاون للوصول إلى سدة الحكم واستسلام مقاليد الأمور. وأخيرا فقد ظهر لنا جليا أن الركائز التي تدعم بقاء المجموعة السابقة من السياسيين في الحكم، وهم لا يمثلون الشعب حقا، لا تقوى البتة على مجابهة الوسائل التي عزمنا على أتباعها هناك). الطابور الخامس ويحرك اللاعبون الخيوط بواسطة أجهزة مهيأة، وفي هذا يقول التقرير: وقام فريق من العملاء السريين بالمساعدة في هذا المجال دون الظهور بمظهر المؤيدين للمرشحين الموالين لنا وكان جل دورهم حث الشعب على انتخاب الرجال الوطنيين المخلصين. ولقد فوتنا الفرصة على الحكام السوريين بخصوص توجيه انتقادات لتدخلنا هذا وذلك عن طريق قيام القائم بالأعمال الأمريكي بزيارة إلى وزارة الخارجية السورية، ولفت النظر إلى اعتقادنا ان الانتخابات السورية المقبلة ستكون محط أنظار جميع الأقطار المستقلة حديثا، ولهذا فإننا لا نتوقع وجود أي مانع من مراقبتنا لها. وقامت الشركات الأمريكية الخاصة، بالتعاون مع أفراد الجالية الأمريكية وبعض الإرساليات التبشيرية هناك، بتوجيه تحذيري لأولئك السياسيين اللذين اعتدوا اللجوء إلى الضغط والإكراه لحمل المواطنين على الأداء بأصواتهم لصالحهم (صالح السياسيين) من مغبة مثل هذه الأعمال، أو من الوقوف في وجه إجراءات انتخابات حرة نزيهة يصوت فيها المواطنون لمن يريدون. كما وجهت تحذيرات مباشرة وغير مباشرة إلى كل من الإقطاعيين وأصحاب المعامل وزعماء الأحياء وحتى رؤوس مخافر الشرطة، من إعاقة الشعب عن الإدلاء بأصواتهم بحرية تامة ومن القيام بأي اضطهاد داخلي أو تحييز لن يترتب عنه سوى استنكار واسع النطاق لا يقل عن ذاك الذي لقاه كل من الظلم التركي والتعسف الفرنسي. وتمكن رئيس إرساليات الطائفة الكنيسة الإصلاحية (ميثودية) أن ينتزع وعدا من أكبر اتحاد للمثقفين الأكراد بأنهم وزملاءهم لن يقوموا باستغلال أصوات الأميين الأكراد فيكتبوا لهم على أوراق الاقتراع أسماء مرشحي الاتحاد. وتضمنت تحركاتنا النقاط التالية: 1 – حملة قامت بها إحدى شركات البترول الأمريكية التي تأسست حديثا وذلك بلصق إعلانات دعائية ضخمة في الأماكن العامة تحض السوريين على الإدلاء بأصواتهم واختيار المرشح الذي يريدونه لينعموا بالحرية بعد بضعة قرون من السيطرة الأجنبية. ومما آثار دهشة الشعب السوري أن تلك الدعايات لا تدعو إلى مرشح دون آخر. 2 – ترتيبات أعدت مع بعض مكاتب سائقي السيارات العمومية (التكسيات) ليقوموا بنقل الناخبين مجانا إلى أماكن الاقتراح شريطة أن يترفعوا عن آية هبات مغرية من المرشحين للتأثير على ركابهم من الناخبين أو لنقل المقترعين لصالح مرشح دون آخر. 3 – تزويد مراكز الاقتراع الرئيسية في المدن بآلات أتوماتيكية لتسجيل الأصوات بحياد تام على أحدث طراز أمريكي، حتى تغدو الانتخابات السورية كمثيلاتها في أمريكا تماما. هذا جزء من المخطط الذي تحدث عنه صاحب كتاب : لعبة الأمم وهو يوضح : إن التدخل الذي يمارسه اللاعبون وفي مقدمتهم الدول الكبرى لإفساد العملية الديمقراطية وإفراز هيآت ومؤسسات لا مصداقية لها، وإنما لمجرد خدمة أهداف بعيدة كل البعد عن المصالح الحيوية والأساس للشعوب، وهو ما أفرز القلاقل والفوضى والفساد الأخلاقي والسياسي والمالي في كثير من دول العالم الإسلامي، وما لم يدرك الرأي العام هذا التلاعب ويقاومه بوعي ووحدة الصف فإن الأمور ستزداد سوءا. وعلى أي حال فإن المكر السيء لا يحق إلا بأهله. ذ.محمد السوسي