بات من الضروري، تفاديا للالتباس وتحقيقا للاصطلاح، أن نميّز بين أنواع من الإسلاميين من حيث مواقفهم ونزعاتهم وأفكارهم. على الأقل توجد طائفة منهم فضّلت اللّعب على المكشوف، حيث تحدّدت مهمّتها التّاريخية في سياسة التبييض الدّيني لمشاريع التّدخّل والتبعية والصفقات الإمبريالية بعد أن دخلوا السّياسوية من أوسع أبوابها اللاّأخلاقية وخرجوا من الدّين والمروءة خلسة. هؤلاء من نطلق عليهم ابتداء من اليوم إسم " الإشلاميون". هكذا يمكن أن ينطقها أيّ مسؤول صهيوني يعزّ عليه نطق السّين إلاّ شينا. وهي أيضا ما يحيل على الشّين؛ ليس الحرف وإنّما الشّين بمعنى القبح. وهو خلاف المطلوب منهم بعد أن دعوا لأن يكونوا في مواقفهم وسياساتهم زينا وليس شينا. على هذا الأساس كان أحرى بأن يغيّروا أنشودة القرضاوي التي تغنّى بها الشبّاب الإسلامي عقودا من الزمان، ومطلعها: مسلمون مسلمون مسلمون..... حيث كان الحق والعدل نكون أن تصبح في عهد الإشلاميين: مشلمون مشلمون مشلمون..... حيث كان الحكم والشّين نكون "الإشلاميون" حتى لا نظلم الإسلاميين، هم اليوم "كابتان ماجد" ضمن لعبة أمم خاب أملها في المنطقة. قبل أيّام، توقفت في بلادنا قافلة المعارضة السورية في طريقها إلى مؤتمر أصدقاء سوريا ، بشقّيها المجلس الإسطنبولي وتنسيقية هيثم منّاع التي لا زالت تبحث عن موقعها داخل الفوضى الخلاّقة لمعارضة الخارج. ازدادت حماسة إخوان البيجيدي وأعلنوا على لسان رئيس حكومتنا بأنّهم سيدعمون المعارضة مطلقا، وهو بخلاف ما صرّح به وزير الخارجية للشرق الأوسط بأنهم بلّغوا رسالة للمعارضة تتعلّق بتوحيد موقفها ورفض التّدخل العسكري وما إليها من اشتراطات تناقض الإطلاق الذي تحدّث به رئيس الحكومة. وهذا إشكال لفظي غالبا ما لا يتوقّف عنده زعماؤنا الجدد قليلي الخبرة بلغة الدبلوماسية وتحقيق القول. ماذا لو تركت خارجيتنا لإسلاميي المصباح على هواجسهم الإشلامية البرّية؟ حتما سيجدون في الملف السوري تعويضا ليس لإخفاء أنهم أصبحوا "إشلاميين" عنوة، بل سيجدون فيه فرصة لممارسة جهادهم بالمراسلة. وبعضهم بدأت حماسته مبكّرا في الدعوة إلى جمع التّبرعات لدعم المعارضة. ولا ندري متى كان سلب أموال الغلبة يضارع خزائن البترودولار الذي يصرف على هذه المعارضة من دون حاجة لتحشيد كلّ هذه الدّول في مؤتمر معلوم الخواتم. إنّ لهؤلاء تحديدا سابقة في لعبة جمع التبرعات والعبث بماليتها. فهذا يذكّرنا بأحد العاملين عليها الذي هرب بالأموال بدعوى أنه تعرّض للقرصنة وهو في طريقه إلى الجهات المعنية في البوسنة. والذين يتحمّسون اليوم لجمع التبرعات في قضية ملتبسة لهم سابقة في الاغتراف منها بحجّة العمل وفق الآية الكريمة:( والعاملين عليها). وكلّ ذلك من أجل توريط المغرب في قرارات يكمن خلفها إحساس بالغ الكيدية، من حيث كونهم سليلي الإخوان المسلمين. صحيح أنّ المغرب كان قد استقبل جالية سورية على أرضه منذ سنوات جلّها كانت أو باتت من رجال الأعمال. ولكن لا أحد كان يؤثّر في سياسة المغرب الخارجية. فماذا يا ترى سيفعل العثماني الهارب من قطاع الصّحة، الذي انتخب المغاربة مرشّحي الحزب لأجلها، إلى الخارجية التي باتت مناسبة لممارسة هواية السّفر والابتسامات العريضة؟ قبل سنوات لمّا كان السي العثماني أمينا عاما لحزب المصباح ، التقى مع وفد من قيادات حزب البعث العربي الاشتراكي في زيارة إلى المغرب وتحدّث فيها عن إبرام علاقات بين حزب البيجيدي وحزب البعث في سابقة من نوعها، ويومها غابت حكاية حماة وتنكّر البيجيدي للإخوان المسلمين وتمدّح الأوردوغانيون المغاربة بحزب البعث بعشق رومانسيّ. واستمر حضور قادة البيجيدي والتوحيد والإصلاح في تظاهرات وفعاليات سياسية ذات طبيعة تضامنية ترافقا فيها الحزبان وتمتّنت علاقتهما فيما بعد. اليوم استولى حنين الإخوان المسلمين على البيجيدي ، لينضمّ إلى مراسيم العزاء بدموع ماكرة وسياسة ترقص على الحبال وتميل مع كلّ ريح. القيّمون على الملف السوري داخل مجلس الأمن أو في سائر الدوائر الرسمية فرضوا لغة غير تهريجية على أسلوب التعاطي مع هذا الملف. لقد وضع العمراني الملف في مجلس الأمن وليس العثماني. وبعد ذلك سوف يشرح هذا الأخير وجهة نظر الدبلوماسية المغربية بشأن هذا الملف مرّتين على صفحات جريدة الشّرق الأوسط، تغيّرت فيهما اللّهجة كما لو تعلّق الأمر بتعديل الحوار الأوّل. في الأولى كان التّهجّي الدبلوماسي حاضرا بقوّة مع بروز طافح لغريزة البيجيدية على خطاب مسؤول الخارجية وزملاؤه في الحكومة الملتحية أو في مجلس النواب أو في الصحافة المكتوبة. وفي الثّاني بدء مسؤول الخارجية أكثر احتياطا في انتقاء كلماته وأكثر مراقبة لشطحات اللّسان: لا عيب في أنهم يتعلّمون، لكن في الدبلوماسية غير مسموح أن تخطئ. لأنّ حوادث الدبلوماسية مؤلمة ومضاعفاتها خطيرة. ومع أنه موقف لا جدوى منه ويسلك في إطار قرارات الجامعة العربية بصورة شكلانية إلاّ أنها لغة تتحدّث قليلا عن احترام سيادة سوريا ومنع التّدخّل وإيجاد تسوية للمشكلة. كان البيجيدي هو من بادر إلى طرح الملف السوري في البرلمان من خلال سؤال لعضو فريق البيجيدي، يحمل نبرة الإخوان المسلمين. لكن ثمّة تعقيب مميّز من عضو آخر هوالأستاذ عبد السلام بلاجي عن نفس الفريق حضر فيه العمق والمسؤولية، من خلال تعرّضه إلى تعقيد القضية السورية والأخذ بعين الاعتبار التحدّيات التي تواجهها سورية لا سيما ما يتعلّق بإسرائيل. إن بين عبارات العمراني المنتدب لدى وزير الخارجية وحديث رئيس الحكومة بون دبلوماسي شاسع في الاحترافية والتعبير. ونحن اليوم في المغرب رفعنا القلم عن رئيس حكومتنا فيما يصرّح به من تصريحات. ولا يؤخذ كلامه مأخذ الجدّ حينما يتحوّل إلى قفشات وفلتات لسان وقانا الله شرّها. هكذا عوّدنا زعيم حزب المصباح قبل الحكومة وبعدها. ونحن في المغرب مواطنون ننتمي إلى المغرب ولا ننتمي إلى حزب المصباح. اليوم، يتحدّث السي العثماني صديق حزب البعث يوم كان أمينا عاما للبيجيدي، كما لو بات حلّ المشكلة السورية بيده. لكنه لم يظهر الحماسة نفسها للتضامن مع القضية البحرينية من باب الوفاء على الأقل. وندرك أنّ العثماني عاجز عن أن يخالف الموقف القطري وفتاوى القرضاوي بخصوص المسألة البحرينية. لكن هل ينسى وزير الخارجية اليوم أنه حلّ ذات سنة ضيف شرف وفاز بتكريم على هامش مؤتمر سابق لجمعية الوفاق البحرينية التي تقود الحراك في البحرين اليوم؟ لذا لا نريد مزايدات في الموضوع السّوري. إنّ ملف الخارجية ليس متروكا للعبة الأحزاب وخلفياتها الأيديولوجية القديمة وهواجسها المزمنة. ونحتاج أن نخرج من دبلوماسية الحزب إلى دبلوماسية الدّولة. وهذا لا يمكن أن يحدث خلال بضعة أسابيع من حكومة الحرافيش. فلا ننسى أن وزير الخارجية هو سليل تنظيم يلتقي مع الإخوان المسلمين في أدبياته وعلائقه وخطاباته ومواقفه وهواجسه. فلقد تربّوا على أدبيات قادة الإخوان المعارضين للنظام السّوري وحفظوا أفكارهم عن ظهر قلب. ويؤكّد كبير المعارضين السوريين والتكفيري صاحب التيار السلفي الجهادي زين العابدين سرور في الطبعة العاشرة من كتابه "وجاء دور المجوس" بأنه في رحلة سرية إلى المغرب مطلع الثمانينيات عمل على تغيير بعض أفكارهم ومواقفهم ، ويؤكد على أنه استطاع أن ينجح في استقطاب عدد منهم هم اليوم قادة في حزب العدالة والتنمية. ولا غرابة إن كان رئيس حكومتنا المصونة هو نفسه وزّع في مكتبته بحي العكاري بالرباط كتاب زين العابدين سرور الموسوم ب: " وجاء دور المجوس" في ثمانينيات القرن الماضي. وكنت قد ذكرت في تقرير(2009_ 2010)عن حالة المغرب، كيف دخل مال الجالية السورية في طنجة في العملية الانتخابية لصالح البيجيدي. وهو ما يفرض على رئيس حكومتنا بعض الوفاء للجالية السورية وهي تهتف من بعيد:" الله يحيي الجيش الحرّ"، بينما الجماهير في الحواضر السورية كما سمعناها مرارا تهتف:" الله يحيي الجيش". ولذا اعتبرتهم في تقرير حالة المغرب لسنة(2010_2011)، بأنّهم تيّار سروري. إذن دبلوماسيتنا الحذرة تحتاج أن تراقب حتى لا يغلب عليها شطط وتحيّز "الإشلاميين": حساباتهم ومشاعرهم وخروجهم عن منطق الدّولة وتغليب مشاعرهم ومكائدهم ومبلغهم من العلم في التّأثير على دبلوماسيتنا. انطلقت من جهة أخرى فعاليات مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس في مناخ من التّرقّب لما ستسفر عنه مجمل اللقاءات بما فيها الجانبية. تعرّض مقرّ الاجتماع إلى هجوم جماهيري حاشد من قبل محتجّين غاضبين اعتبروا المؤتمر تشويها لسمعة الثّورة التّونسية. غير أنّ المفارقة هنا أنّ أصدقاء سوريا قاطعوا "مؤتمر أصدقاء سوريا"، ليصبح المؤتمر خالصا لأصدقاء واشنطن وقطر. فبعد أن لم توجّه دعوة لأصدقاء سوريا الحقيقيين باستثناء روسيا والصّين اللذين أكّدا للمؤتمرين بأن المؤتمر لا يضمّ أصدقاء سوريا، وبعد أن رفضوا أن يكونوا شهود زور في مؤتمر معلوم الدوافع ومعلوم النتائج أيضا، بات من الجدير أن يتساءل المراقبون: هل بعد الموقف الروسي والصيني يوجد اليوم صديق لسوريا في المؤتمر المذكور؟ يبدو أنّ سرّاق الثّورة التّونسية باتوا أكثر حماسة لاستقبال مؤتمر خصوم سوريا . ملامح ردّ الجميل واضحة هنا. وبالمكشوف، إنّها حكومة مريدي راشد الغنوشي ، التي باتت معبرا للمشروع القطري في تونس. فقد تلطّف هذا الأخير منذ نزوله الأوّل إلى تونس بعد هروب زين العابدين بن عليّ ليقنع الرأي العام بأن لا أولوية تأتي على حساب الشعب التونسي، بما في ذلك القضية الفلسطينية. لكنه بهذا الحدث ، أكّد راشد الغنوشي من خلال حكومة تلاميذه أنّ أولوياته قطرية بامتياز. فأي مراقب قد يتساءل فضولا إن كان بإمكان الغنوشي أن يضغط على حكومة تلاميذه ومريديه أن يستقبلوا مؤتمرا لأصدقاء فلسطين من العالم بهذه الحماسة التي أبدوها بخصوص القضية السّورية. بل نتساءل بدورنا إن كان بمقدور الغنوشي أن يضغط على حكومة مريديه أن يستقبلوا مكتب حماس في بلاد ثورة الحنظل المضادة في تونس؟ إنه لا يملك أن يزعج إسرائيل بقدر ما يمتلك الجرءة لإزعاج السوريين. المرور عبر إيباك يعني الإخصاء السياسي. وقد تحوّل الغنوشي نفسه بعد خطابه أمام الأيباك إلى كبير المخصيين" الإشلاميين". وأيّا كان الانطباع، لا بدّ من التساؤل حول النتائج المتوقّعة من مؤتمر "أصدقاء" سوريا؟ لن نذكّر بأنّ الذي جمع كلّ هؤلاء لم يكن هو الدّافع الخيري والإنساني والعواطف النبيلة والغيرة على دماء الشعب السوري. فهؤلاء عوّدونا على أن لا يجتمعوا على حقّ. لكن من الضروري أن نتساءل إن كان هؤلاء الذين خسروا كلّ رهاناتهم في سوريا ماذا في جعبتهم أن يفعلوا؟ وليس أمام هؤلاء سوى خيارين اثنين: إما البحث في وساطة عربية حقيقية ، من منطلق الحياد وإمّا العمل على الإقناع بالتّدخل العسكري. لا شيء يؤكّد على أن الهدف هو الوساطة والتسوية مادامت أجندة المجتمعين تكشف عن أهدافها مسبقا. فالوساطات الحقيقية بمفهومها الدبلوماسي لا يمكنها أن تكون استفزازية ومتحرّشة بثوابت الدّول وسيادتها. فمطلب المجتمعين هو مطلب معارضة هم من صنعها في الخارج وانتقى قادتها قبل أن يظهر لهم أنها معارضة عاجزة عن الاتفاق فيما بينها بل وتتراشق السباب والتخوين والتّهم بعضها بعضا ناهيك عن أنها لا تمثّل شيئا على الأرض. باختصار، لا يمكن أن تقوم الوساطة والتسوية من خلال أطراف ضالعة في المشكلة السورية. ويبقى الرهان اليوم على التّدخّل الخارجي. وهذا أمر بات أشبه بحلم مستحيل التّحقّق نظرا للمعطيات التي تحيط بالقضية السورية. ليس للمجتمعين من دور سوى إطالة عمر الأزمة وخلق هامش عبثي للاستنزاف في ظلّ فشل التّدخل الخارجي. إنّ روسيا والصين لم تستعملا النقض بالصورة التي شهدناها في مجلس الأمن لكي تتراجعا عنه أو تتساهلا في القبول بنتائج لم يقررها مجلس الأمن. فالنقض هناك إنذار. وأن للصين وروسيا رؤية واضحة للأحداث. لا تستطيع الأطراف التي تحاول تباعا إقناع العملاقين بضرورة التخلّي عن سوريا، أن تقنعهما بأنّها غير متورطة في لعبة دولية. فروسيا والصّين لا يمكنها أن الوثوق بقطر التي تحتضن قاعدتين أمريكيتين وأكبر مخزن للسلاح الأمريكي. كما لا يستطيعا الوثوق في إسطانبول التي تحتضن الدّرع الصّاروخي للناتو على أرضها. لروسيا استراتيجيا عظمى لا تباع ولا تشترى. ولها جهاز استخباراتها الذي يدرك عمق العلاقات وطبيعة الصفقات المبرمة بين واشنطن وبعض دول الخليج المتحمّسة للإطاحة بنظام الأسد. اليوم وبعد أن دخل السّلاح إلى سوريا باتوا يتحدّثون عن خلق ممرات آمنة للإغاثة. ترى هل يتعلّق الأمر بحرب طاحنة بين جيشين؟ يمكن اعتبار التّدخّل جاريا اليوم في سوريا. هناك عشرات الآلاف من المسلّحين مدعومين بالمال والعتاد يعيثون فسادا في المدن السورية وأطرافها. تكمن خطورتهم في أنهم لا يقاتلون كرجال بل يختبؤون بين المدنيين. وليس من المنتظر أن تتحدّث وسائل الإعلام المتحيّزة والمشاركة في الحرب ضدّ سوريا أن تكشف عن ضحايا الجماعات المتطرفة. سوريا من جهتها نجحت إلى حدّ كبير في الكشف عن اللعبة الإعلامية بتكتيكات عسكرية غاية في الذّكاء. لقد أدركت أنّ مقتضى اللعبة الإعلامية التي يستند إليها العدوّ هي تلبيس المجموعات المسلّحة بما فيها القاعدة لبوس الجيش الحرّ. ثم في مرحلة أخرى برّرت وجوده بحماية المدنيين. وذلك قبل أن ينفضح أمر الجماعات المسلّحة لنكتشف أنّها تترّس بالمدنيين وتخرجهم من ديارهم وتقتل من لا يرضخ لأوامرها كما حدّثنا أهالي من منطقة حمص. يقوم التكتيك العسكري السوري على المناورة والإيهام مما يمنح الجماعات المسلّحة انطباعا بأنها تمكّنت على الأرض، الأمر الذي جعل الأطراف الخارجية تدخل مرحلة الافتخار بالجيش الحر، وهكذا بدأنا نسمع عن سيطرة كاملة على مناطق في درعة أو حماة أو حمص وليس آخرها الزبداني. لم يعد الحديث عن وجود مسلحين أمرا سريا. ثم سرعان ما تتغيّر الخطّة ويبدأ الحسم وتنتهي حكاية سيطرة المسلحين على تلك المناطق. فالجيش السوري اليوم مسيطر على الأوضاع ويتحكّم بها وليس أمامه إلا مشكلة المدنيين التي يسببها تترس المجموعات المسلّحة بالأهالي. ولا زال بشار الأسد شخصيا يرفض الحسم لما له من أضرار جانبية على المدنيين. وكان استمرار الجيش في هذا النوع من الاستنزاف بسبب المدنيين. كما لا زالت سوريا تحتفظ بصور وأوراق عن خفايا هذه الحرب ستستعمل في وقتها. اليوم بات اللعب على المكشوف، ولم يعد الأمر يتعلّق بجيش يشكل آلة قتل صوروها كاريكاتوريا ضدّ مدنيين عزّل، بل بتنا أمام ما كنّا تحدّثنا عنه قبل شهور ، حرب بين الجيش النظامي الذي يؤدي واجبه الوطني وبين مجموعات مسلّحة تتترّس بالمدنيين وتفجّر وتقتل وتهجّر السّكان. اليوم سوريا مدانة لأنّها تتمتع بنظام قويّ وجيش يؤدّي واجبه الوطني من دون كلل، فهل من المطلوب أن تخلي سوريا المكان لنشاط المسلّحين حتى يقال أنها لا تضطهد شعبها؟ لقد أخرجتهم سوريا من كذبة جيش مقابل مدنيين إلى جيش مقابل جيش. لكن ما سموه الجيش الحرّ هو اليوم يقاتل بسلاح عسكري ويتباكى بدموع مدنية. بعد هذا لم يعد ثمّة من مبرّر سوى الحسم العسكري. وسيكون من المفارقة أن تتهم سوريا من قبل نظم عربية لا تسمح بالمظاهرات ولا زالت يدها تقطر بدماء الشّعب البحريني الذي واجهوه بجيش جرار بينما لا وجود لمسلّح واحد من بين المحتجّين. وبالموازاة مع الإجراءات الأمنية وعلى هامش الوضعية الأمنية التي تعيشها سوريا اليوم، هناك تدابير سياسية إصلاحية تقوم بها سوريا مسّت بنية النّظام كما يعكس ذلك التعديل الدستوري الذي طال أكثر البنود مثارا للجدل. وعلى الرّغم من أهمية هذا الإنجاز الذي جرى في ظلّ الاضطرابات والحرب الإعلامية الشّرسة ضدّ سوريا، فليس للمعارضة في الخارج كامل الاختيار للقبول بهذه الإصلاحات. هي تريد سوريا رمادا وليست متطوّرة. لقد خطب المرزوقي في افتتاح مؤتمر أصدقاء سوريا وهو يلتمس دعما لمستقبل سوريا كما لو كانت في حرب. وقد أعطى عبرة بتونس لما قال بأنهم هناك جرّبوا ما معنى البناء فوق الخراب. مع أنّنا نتساءل أيّ خراب هذا الذي حلّ بتونس وقد هرب زين العابدين بنعلي بينما الجيش لم يطلق رصاصة واحدة؟ المرزوقي يرى أن الشعب السوري يطالب بالمطالب نفسها التي رفعها الشعب التونسي. فهل كان بالإمكان أن نستمع داخل هذه الوفود من يذكّر بأنّ مطالب الشعب البحريني هي أقل حتى من مطالب الشعب التونسي؟ نعم ، كانت مطالب الشعب السوري مثلها مثل مطالب سائر الشعوب العربية قبل أن تدخل أطراف دولية وإقليمية على خط استغلال قضيته. بينما التعديل الدستوري في سوريا اليوم لبّى مطالب الشّعب وفاق المتوقّع. وتحتاج دول الخليج إلى قرون حتى تستطيع أن تأتي بدستور مثل الدستور السوري المعدّل، الذي يقرّ بالتعددية والانتخابات والحريات. لقد دعا المرزوقي إلى تحرير قضية الشّعب السوري من اللعبة الدولية في المنطقة؛ قال ذلك أمام المبعوثة الأمريكية وممثّلي اللعبة الأمريكية في المنطقة. كما لو أنّ اللاعب هم غير أولئك أنفسهم الذين اجتمعوا في مؤتمر أصدقاء سوريا بتونس. ويجد المرء نفسه عاجزا عن التعليق على مداخلة المسؤول القطري ونبيل العربي؛ هنا للقبح مذاهب. لكن في مقابل ذلك ماذا قدّمت المعارضة في الخارج من مبادرات غير المضيّ في العدمية السياسية. ولا شيء يثير الاستغراب هنا، فالعدمية مؤشّر على ضعف المعارضة وعدم امتلاكها ناصية الغالبية الشعبية التي تدعم الرئيس بشار الأسد. فضلا عن أنّها معارضة خاضعة للتحكّم والإملاء وتنتظر القرار النهائي من الخارج. ومصير هذه المعارضة واضح، سيدخل في متاهة من النسيان بمجرّد ما يتمّ التّوصل إلى قرار يحسم اللعبة وينهي فصولها. اليوم تتعرّض المعارضة في الخارج إلى نقد شديد من قبل أمريكا والناتو وغيرهما. وتحاول قطر جهدها أن تخفي ضعف المعارضة وخيبة الأمل الأمريكية بها. ولا نستبعد أن يكون دخول الظواهري على خطّ التحريض واعتراف تقرير الكونغرس بدخول القاعدة على خط الأحداث في سوريا، مجرّد مؤشّر لترويع المنطقة وكذا الضّغط على المعارضة بأن تثبت جدارتها أمام تدفّق القاعدة في سوريا. ففي لجّة المعطيات الجديدة تلاشى البرهان وانطفأ الغليون ولم يعد ينفع زعيق زيادة ولا خنفشاريات اللاّذقاني. فهؤلاء لا يملكون رصيدا جماهيريا في الدّاخل. وخذ مثالا عن زيادة الذي جمعتنا به صداقة قديمة، فقد كنّا نطوف شوارع دمشق وأزقتها لساعات، ويندر أن أجد شخصا يلتفت إليه أو يحيّيه، فهو نكرة في المجتمع الدمشقي وحتى رفاقه في ربيع دمشق كانوا يتعاملون معه على حذر. إنه من المضحك أن نتحدّث عن معارضة من قبيل زيادة واللاّذقاني والحمصي. هذا مع أنّ الأطراف الخارجية تدرك أن غريم النظام الحقيقي هم الإخوان المسلمون. وهؤلاء لا يمثلون سوى تيار داخل سوريا ولا يمثلون الشعب بكامله. لذا حاولوا دائما بعد أن أدركوا ضعف نفوذهم الجماهيري في سوريا أن يسلكوا منهج التدليس باعتبار أن المعارضة وطنية شاملة، فاستحضروا الكومبارس لإتمام اللعبة. إنّ لربيع الدّيمقراطية في العالم العربي مذهبين: أحدهما رغبة دفينة ومزمنة لشعوب قضّ مضجعها التهميش وقوّض صبرها الاحتقان، فكانت على موعد ما مع ثورة ما. وثانيهما رغبة لتغيير مجرى هذا النهر العظيم الذي اجتاح المنطقة على حين غرّة. نتحدّث إذن عن مذهبين في الثورة كلاهما اعتمر القبّعة نفسها واسترجع الشعارات نفسها: الثورة الأصيلة والثّورة المضادة. بينهما ضاعت حقائق واستنزفت طاقات وضاع المصير. يكفي أنّ الربيع العربي اصطنع مفارقات ثوروية، أبرزها أمران غير معدومي الصّلة: الأول أن الربيع العربي جاء بمن لم يكنوا في طليعته وربما كانوا ضدّ انبعاثه. والثاني أنّ الربيع الديمقراطي العربي بات أشبه بصناعة نفطية ماعت معها جدّيّة الحراك المطلبي للجماهير العربية. سوريا نفسها لم تكن استثناء من موجة الربيع العربي قبل أن يتحوّل إلى صيف قائظ تشتمّ منه رائحة النفط والمؤامرة. كان للشعب السوري مطالب مشروعة. وكان المناخ فرصة تاريخية لتسريع الإصلاحات والقضاء على جيوب المقاومة للإصلاحات التي كان الشعب العربي السوري قد استبشر بها منذ مجيء بشار الأسد. تحتاج النّظم إلى حراك لكي تدرك التزاماتها، ولكي تستشعر جدّية الحراك المطلبي. كانت الخرجات المطلبية السلمية قد نجحت في انتزاع الكثير من المكتسبات قبل أن تدخل أطراف عديدة لتصفية الحساب ضدّ دمشق. فمشكلة الربيع العربي هناك أنّه بات مختبرا لتصفية الحسابات الإقليمية والدّولية مما جعل الأمور أكثر تعقيدا من المتوقّع. نستطيع وبغضّ النّظر عن الأطراف الإقليمية والدّولية، أن نؤكّد على أنّ في قلب المعركة السورية يوجد طرفان: النّظام وجماعة الإخوان المسلمين وفروعها وصولا إلى قوى التّطرف والقاعدة. في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، بدأ الإخوان محاولتهم الانقلابية بالقتل وتصفية ضباط في المدرسة المدفعية وهكذا شيئا فشيئا تفجّر الوضع بين النظام والإخوان ليدخل سوريا في عقدة البند الثامن من الدستور الذي جرى تعديله وكذا تجريم تنظيم الإخوان.عرفت كل هذه السنوات انعداما حادا في الثقة بين الطرفين. كان هدف الإخوان المسلمين وكما تابعنا أدبياتهم بما فيها السّرية منذ ذلك الوقت هو الإطاحة بالنظام بقوة العنف والسّلاح. أمّا المطلب الأثير فهو إقامة دولة الخلافة. وجاء ردّ الفعل من قبل النّظام لا سيما بعد تعاونهم مع النّظام العراقي السابق الذي أمدّهم بالسلاح وزارته قيادات الإخوان خلال ثمانينيات القرن الماضي كما تحدّث عن ذلك سعيد حوى في مذكّراته" هذه تجربتي". كانت ضريبة العنف والعنف المضاد وضعية غير طبيعية لا يتحمّلها النّظام وحده. حتى خالص جلبي الذي بات اليوم يتحدّث لغة اللاّعنف المخمليّة ، لطالما وجّه نقده قبل الربيع العربي ضدّ الإخوان المسلمين في سوريا باعتبارهم أهل تطرّف وعنف. كان خالص جلبي من بين الإخوان المسلمين الأوائل الذين قاموا بمراجعات أسفرت عن كتاب " في النقد الذّاتي". ما بات اليوم في حكم المنسيّ أنّ خالص جلبي تجاهل أنّه مدين في مراجعاته لقوّة النظام الذي أظهر فشل خيارات العنف. فلو نجح الإخوان في مخطّطهم ذاك يومئذ لما كتب جلبي " في النقد الذّاتي". وكان هذا بمثابة وثيقة لإدانة نهج الجماعة أكثر مما هو وثيقة لإدانة النظام. وبخلاف خالص جلبي لم يقدّم الإخوان بسائر فروعهم : الإخوان الأصليين أو تنظيم الطلائع، أي مراجعات حقيقية لإدانة العنف وتقييم الحدث المفصلي الذي دارت فصوله الدّامية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي في مدينة حماة. اليوم يتحدّث الإخوان لغة مختلفة ويستعملون شعارات الإصلاح والديمقراطية. وإذا كانوا قد غيّروا لغتهم السياسية اليوم ، فالنّظام هو أيضا بصدد تغيير تصوّره لمستقبل سوريا، مما جعله يقدم على الإصلاحات. من المغالطة أن يقال إنّ مطالبهم قديمة. فما كان قديما هو مطلب إقامة الخلافة على منهاج الطليعة المقاتلة. أما مطلب التعددية والديمقراطية فهو جديد في الزمان والمكان والثقافة السياسية للإخوان المسلمين. شخصيا لم أكن أتوقّع أن يستجيب النّظام لمطالب يصل بعضها حدّ إلغاء المادة التي تؤكّد على أن حزب البعث العربي الإشتراكي هو الحزب الذي يقود المجتمع والدّولة. غير أنّ مشروع الدستور السوري المعدّل والمطروح للاستفتاء قريبا كان طفرة مهمة وإنجازا سياسيا كان من المفترض أن تتعاطى معه المعارضة بشكل جدّي، لأنّه مكسب هام وطفرة في الحياة السورية الرّاهنة. فالتعديل الدستوري الأخير هو بمثابة تغيير في بنية النّظام. وأمام هذا الحدث لم يعد من حاجة للاستمرار في العدمية السياسية التي ميّزت موقف وخطاب المعارضة في الخارج. لم يبق سوى الحديث عن النوايا. فالمعارضة لا سيما الإخوان المسلمين، يتحدّثون عن تاريخ النظام. بينما لم يتحدّثوا عن تاريخهم. اليوم انكشف المخبوء. لقد اعترف أصدقاء سوريا في تونس بالمجلس الوطني الاسطنبولي. وهذا يعني أنّ دعمه لما يسمى بالجيش الحرّ هو الجزء الأهم في أجندة المجموعة كما صرّح بعض قادتها. وبعد أن رفضت المعارضة في الخارج الحوار ولم تقبل بالإصلاحات وأبت إلاّ أن تفرض أجندتها على غالبية الشعب السوري، بات الخيار أمام سوريا ناجزا لحسم المعركة. فبعد نتائج الاستفتاء على الدستور المعدّل تكون سوريا قد أنجزت نصيبها من التغيير دون التفريط في سيادتها ومكتسباتها في الممانعة ضد إسرائيل. لم يعد من خيار سوى الضربة القاضية ضدّ المجموعات المسلّحة التي تعبث باستقرار البلد وتهدّد سيادة الدّولة. بينما ستستمر دول النّفط في هذا المسلسل الاستنزافي لأنّها تدرك ماذا يعني هدوء الجبهة السورية وظهور معالم الإصلاح والتغيير في دمشق. إنّ هذا يعني أن رياح الربيع العربي ستنتقل إلى الخليج الذي ينهض فوق بركان اجتماعي كبير. إنهم يدركون مدى عجزهم عن إسقاط سوريا، لكنهم يعملون على مأزقة الربيع العربي في بلاد الشّام كي لا يبرحها إلى الجوار. فدول الخليج لا تحتمل الديمقراطية في العراق أو سوريا، لكنها تريد للبلدين أن يظلاّ فوق بركان متفجّر. عمليا كل النظم العربية تغيّرت بما فيها سوريا، وإن كانت الحرب الإعلامية الشّرسة والضوضاء والتزييف والتحريض لم يسمح بأن يطّلع الرّأي العام العربي على تفاصيل مراسيم الإصلاح التي أطلقتها القيادة منذ شهور. لكن الدول التي تقود معركة الإطاحة بالنظام السوري هي التي صمدت حتى اليوم ضد الربيع العربي. الربيع العربي هنا في البيداء العربية يعني التحريض ضد الدّول الأخرى باسم الربيع العربي والتنكّر للربيع العربي في بلدانها باسم مواجهة التآمر. نتساءل إن كان النظام السوري لن يسقط رغم مهرجانات الصّداقة السورية، فهل يا ترى سيتحوّل أصدقاء سوريا إلى أعداء، أم الصواب أن أعداء سوريا اليوم سيضطرون إلى أن يصبحوا أصدقاء سوريا غدا. في منطق الأشياء وحتى يستقيم المسار الطبيعي للأحداث ، أفضّل أن يقال: إنه مؤتمر أعداء سوريا، الذين سيضطرون عاجلا أم آجلا أن يغمروا بشّار الأسد بابتسامات عريضة ومشتّتة كتلك التي يتحفنا بها ابن بطوطة إنزكان و مسؤول خارجيتنا في الحكومة الملتحية "الإشلامية".