بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثالث هذا الجزء معني به كل من أمين وأمينة... أمين عبد الحميد، وأمينة بوعياش وباقي المتحررين من شريعة أرحم الراحمين. في البداية، أعلن أنه يستعصي علي تصور هذا الحوار بين جهتين مؤمنتين بالله عز وجل. كيف يمكن أن يناقش مسلم مسلما في ضرورة الإيمان بأركان الإسلام ومنها صيام شهر رمضان؟ كيف يتحاور مسلمان على رؤوس الأشهاد في ما هو معلوم من الدين بالضرورة حوارا متعارضا؟ ليس الأمر متعلقا بالصيام وحسب، بل هو متعلق بشرعنة الإفطار العلني وتقنينه في الديار الإسلامية ومنها المغرب على غرار بلاد الغرب وغيرها... حسنا. هؤلاء الناس يتحدثون إلينا من منظور حقوقي صرف – زعموا - ويؤمنون بالقيم الكونية وبمنظومة حقوق الإنسان التي لا تتجزأ – هكذا فهموا - وينطلقون في حوارهم من قناعاتهم بأن ما يدعون إليه هو موجود في الواقع، وهو أمر طبيعي جدا... وربما استدلوا ببعض نصوص الشريعة التي يظنون أنها تؤيد مذهبهم كقوله تعالى {لا إكراه في الدين} أو كقوله سبحانه {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ... سمعت أكثر من مرة السؤال: من أعطاك الحق في التكلم باسم الإسلام؟ أجيب كما أجبت من قبل: الله تعالى هو من أوجب علي وعلى كل من يعلم في ما يتكلم أن يبلغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم... {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله...} {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} لا أحصي كم عندنا من نصوص شرعية من الكتاب والسنة تكلف المسلم بفريضة البلاغ والبيان والدعوة... كل ذلك في حدود ما هو يقيني ومجمع عليه بل يتعدى ذلك إلى مجالات الاجتهاد التي تحتمل الخطأ والصواب. الذين يعترضون علينا في البلاغ والبيان ويزعمون أن الإسلام دين الجميع وأنه لا حق لأحد أن يكون وصيا على الناس...إلخ، هم يفعلون ذلك ليصدوا عن سبيل الله، ونحن نبلغ ونبين على رغم أنوفهم لأننا نخاف من الله. إنهم لا يعلمون أننا مهددون من رب العالمين بوعيد شديد، إذا لم نبين ما علمنا من دين، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وما نحن فيه مع أمين وأمينة وآخرين... ليس مما يختلف فيه، بل نحن مع كليات الدين وقطعياته وثوابته التي لا ينكرها إلا من نزع يده من رحمة الله. ثم أليس هؤلاء المنسلخون عن دينهم يدعون هم أيضا إلى ما يؤمنون به؟ فمن كلفهم ببلاغ نصوص ما يسمونه بالمواثيق الدولية والكونية ؟ أحلال عليهم حرام علينا؟ وماذا نفعل نحن بهذه المنابر في المساجد وخطب الجمعة والعيدين وكراسي العلماء والوعظ والإرشاد...؟ أنتركها أثرا ومزارا تاريخيا لسواد عيون أمين وأمينة...؟؟؟ أقول تبعا لما نحن فيه إنني لن أصدر أي حكم في القوم لا بتكفير ولا بغيره، فهذا موكول إلى المجلس العلمي الأعلى للإفتاء ولأمير المؤمنين، ولا أقبل الافتئات. وما أخطه في هذه السطور يدخل في وظيفتي الإسلامية الدعوية... بل وحتى الوطنية... لا، بل وحتى الحقوقية التي ليست حكرا على أمين وأمينة والرايضي والساسي والرويسي... كما أنني أعلم أن كثيرا مما يقولونه موجود حقا في نصوص ما يسمى بالقيم الكونية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب متحفظا على بعضها ثم رفع تحفظه عليها بعد ذلك. والمشكلة عندهم تكمن في القفز المتعمد على الخصوصيات المغربية وجعل قوانين الغرب أسمى من شريعة رب البرية. المسألة إذن ببساطة تكمن في تحرر أمين وأمينة... ومعهما تيار ينعت بالحداثي من تكاليف الشرع الحنيف، والتستر وراء فهم سقيم لبعض بنود المواثيق الدولية مثل (حرية المعتقد) و (الحرية الشخصية) و (المساواة)... وفي محاولة تنزيل ذلك تنزيلا متهورا ومتدهورا في مجتمع مسلم يدين أغلبه بالإسلام... الأمْرُ الأمَر أنهم يستدلون أحيانا بآيات من القرآن الكريم في تناقض مضحك، فهم من ناحية يقولون لنا من أعطاكم الحق في التكلم باسم الإسلام الذي هو ملك للجميع، وفي نفس الوقت يعطون لأنفسهم الحق في الاستدلال بآية هنا أو حديث هناك... يعلموننا ديننا وهم أجهل الناس به. أول الإشكالات هو حول سؤال: من الأسمى؟ شرع الله تعالى؟ أم شرع البشر؟ ومن الأولى؟ حق الله تعالى أم حق الإنسان؟ وماذا لو اعترض حق الخالق بحق المخلوق؟ أيهما مقدم؟ الجواب عندنا نهائي ولا يخالجه ريب أو تردد. وهو معلوم عند المخالفين فلا داعي لذكره. والجواب عند أمين وأمينة وآخرين من دونهما معلوم أيضا ومعروف وهو أن القوانين الدولية أسمى من القوانين الإلهية، والمواثيق العالمية أسمى من مواثيق رب العالم والعالمين. هذا يعني أن المرجعية لكل منا مختلفة تماما، فوجب والحالة هذه أن تخضع الأقلية القليلة للأغلبية الساحقة، ومعلوم أننا في المغرب نحن من نشكل الأغلبية وهم من يشكل الأقلية... لكن إن تعجب فعجب لهؤلاء كيف يحاولون فرض رأيهم الشاذ على سواد هذه الأمة مستغلين الجهل والأمية الضاربتين في عمق مجتمعنا، واللامبالاة لدى غير قليل من العارفين، والغياب أو التغييب الكامل لعلماء المغرب وخطبائه وأئمة المساجد عن محاصرتهم فكريا ودعويا... وانشغالات الناس بالبحث عن لقمة العيش واطمئنانهم إلى أن لا أحد سيتابعهم قضائيا بتهمة (زعزعة عقيدة مسلم) ولا بغيرها. وحتى القوانين الزجرية في مثل هذه الأعمال المشينة مثل الإفطار في رمضان لم تعد تطبق في حقهم، الشيء الذي جعلهم الآن يتهجمون على هذه القوانين الزجرية نفسها لإسقاطها نهائيا. إن القضية ليست محصورة في الإفطار في رمضان بل في التحريض الجماعي على هذا الإفطار العلني في هذا الشهر الفضيل... بعبارة أوضح يريدونها استفزازا وفتنة لا تبقي ولا تذر. كل ذلك تحت يافطة الحرية الشخصية وحرية المعتقد. ولقد سبق لي في مقال قلته أن ذكرت الدعوة إلى ضرورة الدخول على مثل هذه المواضيع لا سيما فيما يعود إلى التوفيق بين نصوص الشريعة الرفيعة وما يعارضها من القوانين الوضعية الوضيعة... مثل المواثيق الدولية... باستعمال قاعدة أصولية حاسمة تبعد الخلاف، وتدرأ الفتنة، وترسخ للعدالة الاجتماعية أسس الاستقرار... والاستمرار على هذا الاستقرار. وهي قاعدة معمول بها في العلوم الشرعية لتحصين الفقهاء والعلماء المجتهدين وهم يستنبطون الأحكام الشرعية من نصوص الوحي كتابا وسنة. إنها قاعدة حمل المطلق على المقيد، وحمل العام على الخاص، والمجمل على المفصل... فحقوق الإنسان كما هي معترف بها دوليا ومتعارف عليها "كونيا" حقوق عامة. وضعت للإنسان – فقط لكونه إنسانا - بصرف النظر عن دينه ولونه وجنسه وموطنه ولغته ومركزه الاجتماعي... وحقوق المسلم أينما وجد ولو في بلاد غير المسلمين بله موطنه الأصلي حقوق خاصة. فإذا تعارضت هذه الحقوق فيما بينها حينها نلجأ اضطرارا إلى حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد. أي حمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وباقي المواثيق العالمية على الخصوصية المغربية دينا ونظاما... بعد هذه الأرضية التي أراها ضرورية لضبط الحوار ، نأتي إلى بيان الضرر الكبير فيما نادى به الحداثيون الجدد أمين وأمينة... من الاستهانة بالخصوصية الإسلامية لدى الشعب المغربي ونظامه. عندنا في المغرب شيء اسمه إسلامية الدولة، وإمارة المؤمنين، والبيعة، ومذهب الإمام مالك... وهذه أمور لا علاقة لها بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والديموقراطية في جوهرها وفلسفتها. فماذا نصنع؟ هل نبطل الهوية الإسلامية للدولة لأنها تعرقل جوانب هامة من المواثيق الدولية؟ أم نحمل هذه المواثيق على هذه الخصوصية ونحتفظ بما تعاقد عليه الشعب المغربي حتى وإن أبعدنا شيئا من تشريعات حقوق الإنسان. وأكبر حق من حقوق الإنسان أن يعيش راضيا مختارا وفق قناعته العقدية والدينية. أي أن العمل بالخصوصية المغربية والتي هي هنا (إسلامية الدولة) غير مخالفة أصلا للمواثيق الدولي إلا في عقول أمين وأمينة ومن يقول بقولهما. طبعا هذا الأمر جار به العمل في كل الديموقراطيات العريقة. فمثلا ملكة ابريطانيا لا تحكم، وهذا ظاهر، قالوا ولذلك لا تطالها المساءلة ولا المحاسبة. قلنا فما قولكم في الحماية المكلفة وتعطيل كم مصلحة عامة في الحفلات والمراسيم والطقوس... إلخ. كل ذلك يرصد له ما يرصد من أموال دافعي الضرائب... فما علاقة هذه الأشياء بالمواثيق الدولية والكونية وما إلى ذلك من مثل هذه الأسماء الكبيرة؟ وهكذا ما من دولة ديموقراطية إلا ولها من الخصوصيات ما يجعلها تتعايش مع الديموقراطية وحقوق الإنسان بشكل مفصل على المقاس. وفيها من الأقليات ما يجعلها تخضع لمنطق الأغلبية طوعا أو كرها دون أن تحاسب على ذلك. بل إن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تقع في أوروبا باستمرار ومع ذلك يجدون لها مسوغات للتنصل من المسؤولية. منع الحجاب الإسلامي (النقاب) مثلا بالقانون في فرنسا وبلجيكا نزولا عند رغبة الأغلبية، وكذا منع بناء المآذن في سويسرا... طرد المهاجرين السريين وغير الشرعيين وترحيلهم في ظروف لا إنسانية من أجل سواد عيون الأغلبية في نقض صارخ للإعلان العالمي لحقوق الإنسان... وهكذا يمكن توسيع دائرة الأمثلة لتشمل الحروب في العالم والاحتلال هنا وهناك ودعم الديكتاتوريين إذا كان في هذا الدعم مصلحة اقتصادية أو استراتيجية أو سياسية... في تناقض مفضوح مع المواثيق الدولية... لكنهم يجدون دائما المسوغ لذلك الانتهاك. وما قضية استعمال حق النقض (الفيتو) عنا ببعيد. نحن فقط من علينا أن نعطي الدنية في ديننا ونقبل باسم حقوق الإنسان بتحكم أقلية لا دينية أو ملحدة في مصير أمتنا الإسلامية فتعبث بالهوية للبلاد وتسخر من نظام إمارة المؤمنين، وتخر على قفاها مستهزئة بالبيعة، وترى بعين الازدراء إلى التمذهب بالمذهب المالكي... إلخ. في حين الأمر غاية في البساطة. نقول هذه خصوصياتنا ونحن أغلبية ضاربة قد رضينا بهذا ولنا الحق شرعا وقانونا بأن نرضى بما نشاء فما على الأقلية إلا احترام مسار الأغلبية كما تقول المواثيق الدولية نفسها أو فليرحلوا عنا... بعبارة أخرى فإن أمين وأمينة والرايضي وغيرهم، لا هم احترموا خيار الأغلبية في نمط عيشهم وحكمهم ومجتمعهم ولا هم أنزلوا مبادئ حقوق الإنسان تنزيلا صحيحا، أي باحترام الخصوصيات ورضوخ الأقلية للسياسة العامة المرتضاة لدى الأغلبية.ولا هم أراحونا من أوجاع الرأس واستراحوا. المناداة بالإفطار العلني جريمة شنعاء في حق الله تعالى، وفي حق هذه الأمة المسلمة ودعوة صريحة لإشعال فتيل الفتنة في وقت نحن في أمس الحاجة إلى جمع قوانا ولملمة طاقاتنا واستثمار أوقاتنا في البناء والتنمية والتحديث المطلوب للرفع من مستوى حياة مواطنينا علميا ومعيشيا واجتماعيا وغيرها. لن أعيد ما قلته من حيث الأضرار المرتبطة بشرعنة الإجهاض والزنا في الجزأين السابقين من الناحية الشرعية: الحرب على الله تعالى ومعاقبة الله للعصاة في الدنيا والآخرة... إلخ، ولكني أحببت مناقشة القوم في ما يدعون أنهم على حق فيه مع إعلان بعضهم لإلحاده وإسقاط ما نحاججه به من نصوص شرعية بحكم أنه لا يؤمن بها. وإعلان بعضهم الآخر أنهم لا يقلون إيمانا وإسلاما عنا، ويريدون أن يعطونا دروسا في تفسير الآيات الكريمة من شاكلة {لا إكراه في الدين} بشكل يبعث على القيء والغثيان مخالفين كل أئمة التفسير عبر القرون والعصور في تجرؤ عجيب وتطاول أعجب عندما يخوضون في العلوم الشرعية من غير أهلية تذكر... فيأتون بعجائب مذهلة ولا أبا بكر لها.