ما المضمر الثقافي الذي يفصح عنه اعتقال سعد المجرد للمرة الثانية في فرنسا، والثالثة بعد تورطه في حدث مماثل في أمريكا، بسبب الاعتداء الجسدي والاغتصاب؟. إنه، يقينا، سلوك يترجم ثقافة مستفحلة، من الفحولة بمفهومها الثقافي، التي يدعوها المفكر عبدالله الغدامي "الجنوسة النسقية"، أي تحويل الفروق الطبيعية بين الذكر والأنثى في الثقافة العربية، إلى فروق ثقافية، تعلي من الذكر بسبب جنسه، وتقلل من قدر الأنثى، مهما بلغ علمها، وثقافتها، ومساهمتها في تطوير الحياة العامة. وهكذا، فإن الثقافة الفحولية، تتحرك بأشكال شتى لترسخ هذا التمييز الثقافي، وتحافظ عليه، وتستعيده في خطاباتها التي تنتجها سواء تعلق الأمر بالثقافة النخبوية أم بالثقافة الشعبية. ولن يغيب عنا أن أشعار عبدالرحمان المجدوب التي تركب صورا انتقاصية عن المرأة، هي أكثر الأشعار انتشارا وحفظا في الموروث الثقافي المغربي؛ بل إنها الشاهد الحجاجي الأشد حضورا، كلما بدا من الضروري تمثيل المرأة للذكر في حالات خسرانه وفشله. ورغم أننا قد نقطع مسافة زمنية طويلة من زمن الشفاهة إلى زمن الصورة والوسائط التكنولوجية الحديثة، فإن النسق الفحولي يتحرك بالطريقة نفسها. والحداثة الموهومة التي تسوقها التكنولوجيا، تخفي تغلغل فكرة الجنوسة الثقافية في الخطاب، ومنه الفني الذي من المفترض أن من وظائفه التسامي على الأنا المتمركزة الناسخة. جماهيرية مخدرة تتخفى أنساق الجنوسة الثقافية بفعل الأثر التي تحدثه الجماهيرية الهادرة، التي تغيب التفكير الناقد، وتجعل المتلقي الذي لا يمتلك أدوات قراءة مضمرات الخطاب، مستسلما لسحرانية الصورة، ما يصنع قداسة النجم الذي يحصل على متابعات ومشاهدات مليونية، فيصير منزها عن الخطأ/ الخطل. ولقد بلغت مشاهدات الأغنية المغربية في الثلاث سنوات الأخيرة معدلات قياسية على اليوتيوب وباقي وسائط التواصل الاجتماعي والفيديو العالمية، بحيث إن أعمال بعض المغنين الشباب المغمورين صارت تتفوق على أعمال فنية لأسماء عربية جماهيرية راسخة من قبيل راغب علامة، إليسا، شيرين، وتامر حسني وحتى كاظم الساهر، والذين لا تتجاوز مشاهدة أعمالهم الجديدة بضعة آلاف أو ملايين؛ بالقياس إلى ملايين المشاهدات وفي ظرف زمني قصير بالنسبة إلى المغنين المغاربة. ولا أدل على ذلك من أغنية (المعلم) لسعد المجرد التي تمكنت من اجتياز حاجز الستمائة مليون مشاهدة، وهو رقم لم تبلغه أغنية عربية على الإطلاق. وإذن، كيف نستطيع أن نفسر هذه الجماهيرية التي تكتسح مساحات كبيرة من التلقي الجماليّ. ونقصد بالتلقي الجماليّ التماهي الكلي مع الأغنية، دون التأمل في موضوعاتها والقيم المترسبة خلف الصور الأخاذة/ المنمطة، والألحان المخدرة التي تصيب بالعمى الثقافي، والذي عبره يحدث تنميط خطير للوعي تجاه العلاقات الإنسانية، خاصة منه النظرة إلى المرأة. ولعله من المنصف أن نحسب للأغنية المغربية الشبابية الجديدة، وأولها سعد المجرد، تمكنها من تقويض تمثل مشرقي يقول بصعوبة اللهجة المغربية ويعتبرها في الأغلب غير عربية. وبالرغم أن جماهيرية الأغنية الشبابية المغربية قامت على استثمار مجهود لعدد من كتاب الكلمات الشباب الجدد، الذين حاولوا استسعاف لغة ثالثة قابلة للتداول في المحيط العربي. وهي لغة تلعب على المشترك، فكلمات ( إنت معلم/ واحنا منك نتعلم/ نسكت ونتا موجود ما نرضى نتكلم)، ليست دارجة مغربية كلية، بقدر ما قد يجد فيها كل متحدث من مختلف الأقطار العربية بعضا من لهجته المحلية. وحتى كلمات أغنية JABRA FAN (المعجب الأكبر) التي اختار لها، وللاختيار دلالته، الفنان العالمي شاه روخان المغني المغربي عبدالفتاح الكريني لأداء النسخة العربية من الأغنية، فإنها كانت كلمات مركبة من اللهجة المغربية والمصرية، ومنها الكلمات الآتية (هبلتني آه يا ويلي جننتي فيا - المشاكل اللي صاروا أنا نشيل الحيرة - حتى جيراني قالولي وليت إنسان مختل عقلياً)، فكلمة نشيل، أي أُبعد أو أُزيل، هي كلمة مصرية، أما العبارة الأخيرة فنسَقُها أقرب إلى التركيب والمعجم العربيين منها إلى الدارجة المغربية التي يقوم بناؤها التركيبي على الوقف في مستهل الكلام وآخره، وهي ميزة في اللسان الأمازيغي، وعبارة (مختل عقليا) نفسها عبارة عربية فصيحة. وتظهر معالم اللغة الثالثة بل المتماهية مع اللهجات المشرقية في أغنية حاتم عمور (أنا الأول)، التي تبدو العبارات المصرية مترسخة في كلماتها، وكذا في كلمات أغنية (مال الزين) للشابين رجاء وعمر بلمير. إن تداخل بنيات تركيبية ومعجمية من لهجات عربية، مصرية وخليجية على الخصوص، في الأغنية المغربية الشبابية عامل محوري في الجماهيرية التي يحظى بها المغنون المغاربة الآن، بحيث إن تفردهم الجماهيري صار واقعا لا يرتفع، وأن صدور عمل جديد لفنان مثل سعد المجرد، بغض النظر عن قيمته الثقافية والفنية، صار حدثا فنيا تحشد له وسائل الإعلام مختلف المعلومات القبيلة والبعدية الحافة به. غير أن الملاحظ أن كلمات هذه الأغاني صار مؤخرا ينحو في اتجاه المحلية باستدراج من نجاحها الجماهيري. فعبارات من قبيل (مشيتي فيها، وطاح على راسو، وماشي رجولة، وكيليمني، وبلاش، ولا علاقة..) هي عبارات مغربية محلية على الآخر ولها دلالات مرتبطة بسياق ذي خصوصية مرتبط بأحاديث الشباب بعضهم بعضا. فحولة شاملة إن الاستهلاك الجماليّ والتماهي مع الأنغام السريعة، قد تجعل المشاهد يغفل عن تنميط صورة المرأة في هذه الأغاني والعلاقات الإنسانية بشكل عام، بحيث تبدو مفرغة من تنوعها وعمقها، ويتم حصرها في صور مسكوكة لا تخلو من تبخيس. فأغاني سعد مجرد، في أغلبها، تستغرق كل ممكنات تنميط صورة المرأة في الكائن المتجبر الذي يحاول السيطرة على الرجل مستغلا سذاجته وطيبته كما في أغنية ( إنتي)، أو اللّعُوب التي تغوي الذكر معتبرة إياه فريسة سهلة ( أنا ماشي ساهل)، أو النادمة التي لا تسع أخطاؤها السماءَ، تلك التي تنتهي معتذرة للرجل من أجل أن ترتاح (غلطانة)، وكما مجمل الأغاني التي أداها المجرد، أما الأغنية الوحيدة التي خصصت للذكر/ الرجل، وهي أغنية (المعلم)، فكانت مفعمة بالطاقة والروح الوثابة والمتجددة، والمسجورة بالأمل المُحيي. باستثناء أغنيته الأخيرة Casablanca، التي كتبت كلماتها الغزلية الرقيقة تجاه المرأة مغنية فرنسية، أي أنها تصدر عن نسق ثقافي مختلف عن ذلك الناظم لباقي أغاني المجرد بالدارجة المغربية. ولعل نجاح هذا النموذج هو ما جعل بعض المغنين الشباب يلجؤون إلى نوع من المعارضات الفنية، إن شئنا استعمال الاصطلاح الشعري المعروف. وهكذا يطالعنا اليوتيوب بأغاني مثل أغنيتي (ولد مو) لسعيدة شرف وأمنية. غير أنها معارضة في الغالب تقع في الإسفاف، إن لم نقل إنها تحمل إساءات بالغة للمرأة نفسها، فالأم تصور في الأغنيتين، كما لو أنهما السبب الحاسم في ضعف شخصية الزوج/ الحبيب، مما يعني تبرئة الذكر/ الرجل بالضرورة. وهكذا فإن المنطق الذكوري يتحكم في الفنانة/ المرأة نفسها. إذ تستعيد منطق النسخ الذكوري نفسه الذي يجعله في مرتبة المقدس، بينما تُرمى المرأة بكل الدنس الممكن. ومن هنا نفهم سر إعجاب الكثيرات بأغاني سعد وغيره من المغنين الشباب الجدد، ما دمن واقعات تحت سطوة الذكورة الساكنة في لاوعيهن، والتي تترجم إلى سلوكات تمارس فيها النساء، المعجبات والفنانات، الإقصاءَ على بنات جنسها، وتتماهى مع خطاب الذكورة كليةً. لذلك فإن خبر إدانة المجرد بالاغتصاب، حتى وإنا صار نهائيا من قبل القضاء، فإن المستهلك الجماليّ سيظل أسير فحولة طاغية تمنعه من أي تفكير ناقد، و(تُجرده) من السؤال، وتجعل منه درعا في جيش إليكتروني يرد، بإيمان لا يرتفع إليه الشك، على المؤامرات التي تحاول أن تسقط شابا ناجحا. لكن الحقيقة التي يخفيها العمى الثقافي أن سلوك الاغتصاب المقرون بالعنف والرغبة العارمة في الإخضاع، ليس إلا ترجمة لما يعتقده، ويظهر من صور انتقاصية للمرأة في كل أغانيه، التي تخفيها وسامته وموسيقاه وصوته وحب الجمهور له. *ناقد ثقافي