بون شاسع بين « يا دموعي يا أغلى ما عندي* سيري رخيصة ما كاين باس* حتى نذوب حتى يتقادي جهدي « للراحل محمد الحياني وبين « مشيت فيها *الغلطة درتيها ... يالاه دابا عقت ...» والبقية تأتي. تدرجت الأغنية المغربية نزولا من الأشعار إلى الكلمات إلى لغة « رأس الدرب» التي يتحرج المرء من تداولها داخل البيت. وفي غياب أية رقابة على المصنفات الفنية، ولا مجال هنا للاحتجاج بحرية التعبير والإبداع، أصاب الساحة الغنائية داء «عهر» اللغة وعنفها لتعيش آذاننا وحواسنا وجلساتنا العائلية أسوأ لحظاتها في ظل حالة الانفلات التي صارت عنوانا للأغنية الشبابية والشعبية على حد سواء. بدأت حكاية السقوط الجمالي والإبداعي السريع في مقابل النجاح الجماهيري والمالي المتصاعد مع عنف لغة أغنية « نت باغية واحد « التي تعتبر تمظهرا لتحول جذري في القيم المجتمعية قوامه الفردانية والاعتداد بالذات وتضخم قيم الذكورة المتيبسة الحواس بما لا يدع أي هامش لقيم الحب الجميل كما غنته أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب. فالأغنية حالة من الهجوم اللفظي والعنيف على الحبيبة « ...تلعبي عليه العشرة .. ما يعاودش الهضرة .. ويكون راجل المرا.... « لتصل بلادة الكلمات وسطحيتها إلى حد اعتبار التفوق الذكوري قدرا إلهيا « راه ربي سبحان* خالق كل واحد ف مكانو * علامات الساعة بانو * إلى تحكمت فيا ...». بكل بساطة تتحول علاقة الحب أو الزواج الذي يعتبر في حد ذاته ثقافة وجود مشترك وتعايش وتفاعل إلى علاقة تجاذب للسلطة بيت الذكر والأنثى. إذ شتان بين التفوق القضيبي كما تسوق له الأغنية التي حققت نجاحا جماهيرا مبهرا وبين مفهوم الرجولة النبيل الذي يجعل من الرجل حاضنا للمرأة محتضنا لآمالها ومخاوفها وداعما لتوازنها الوجودي ولفعلها في محيطها الصغير والكبير بعيدا عن أي عقد تملك أو تفوق ذكوري سطحي أو تأويل بليد لمفهوم القوامة. نجاح أغنية « نتي باغية واحد» فتح شهية المغنيين الشباب تباعا. وأدخل كلمات الأغنيات في دوامة من المزايدة تحت شعار « من يجرؤ أكثر «. ارتفع سقف العنف والعهر و»الزنقوية» في الأغاني الشبابية لتصل إلى القاع مع أغنية الصاك والماكياج التي رفست الحديقة الخلفية للمرأة من خلال تسفيه إحدى مساحات خصوصيتها وهي لحظة التزين. اختزلت المرأة المغربية التي تطالب بالمناصفة في «عكر أحمر» وشعر أصفر أقصى طموحها «تبسبيسة» من متحرش يلاحق رقمها الهاتفي لغرض بقي قوسا مفتوحا على كل التمثلات المنحرفة... المؤسف في الأمر هو انخراط فنان من طينة حاتم عمور رسم لنفسه مسارا جميلا من خلال مجموعة من الأغاني الحالمة كأغنية « حسبني طماع» في هذه الموجة المقيتة. فكانت أغنية « مشيت فيها « العنيفة جدا والتي تعالج حالة الخيانة بشكل مقزز عبر توظيف لغة «راس الدرب» بعيدا عن أي عمق عاطفي يمتح من قاموس اللوعة وتهاوي المجال المشترك. حاتم عمور ركب موجة الفردانية المقيتة والاعتداد بالذات إلى درجة النرجسية التي تمنع العاشق من الترجل عن برج كبريائه الكاذب. شتان بين صورة عاشق يستزيد من حب معشوقته في مقطع « حسبني طماع وباغي من حبك زيادة « وبين ذكر «قافز» تعرض للخيانة يخاطب حبيبته « مشيت فيها ..... يالاه دابة عقت .... ناري واش درت ....» السقوط اللغوي استمر مع أغنية « الدمدومة» للمغنية جميلة التي تخاطب طالب ودها « سر فحالك شوف لك شي دمدومة * أنا ما ساكنة فهاد الحومة * دور مزيان تلقي غير هومة* انت غير كيليميني خمسة ستة فحالك ما يخلعوني ...» دخل لفظ الدمدومة والكيليميني ريبيرتوار الأغنية المغربية من بابه الواسع، وتحولت النساء المغربيات إلى مجرد دمدومات باستثناء المغنية التي تقول للرجل « دور مزيان تلقي غير هومة...» وارتقت حالة المواجهة إلى مستوى العنف والتحقير لتخاطبه « نت غير كيليميني * خمسة ستة منك ما يخلعوني « . العنف اختلط باللحن والصوت الجميلين كذلك في أغنية «أواه» لرضوان برحيل الذي يغني سأمه من حبيبته « اللي بغات تطير» « أواه أنا تقادى لي الصبر معاه * أواه يلعن للي ما مشا وخلاه» الخطير في الظاهرة هو كون هذه الأغاني تلقى رواجا ونجاحا وصدى لدى فئة كبيرة من « المستهلكين» المغاربة. فقد بتنا نعيش منطق الاستهلاك والوجبات السريعة في الأغاني كما في علاقات الحب المبتذلة. وإذا كان الإعلام أحد أهم آليات التنشئة الاجتماعية، فالمسؤولية تقع على القائمين عليه من أجل حماية الناشئة المغربية من اللغة العاهرة والعنيفة التي تسوق قيما وصورا منحرفة عن العلاقة بين المرأة والرجل، وعن نبل الإحساس بالحب، وسمو العلاقة بين المرأة والرجل، وطهرانية علاقة المرأة بجسدها وحاجتها المفهومة والمشروعة للإحساس بجمالها وأنوثتها بعيدا عن أي تسويق داعر يقوم على تسليعها واختزال وجودها في اطراء متحرش تتحلب شفتاه على « لعكر لحمر»... الأسر تحاول جاهدة حماية أطفالها من كلام «الزنقة» الحامل لقيم ترفع تدريجيا سقف التمرد على القيم والرموز الجمعية المؤسسة للحمة المجتمع المغربي والضامنة لاستمرار خصوصيته الجميلة، إلا أن الثقافة الزنقوية تقتحم البيوت الآن بفضل حالة التسيب التي باتت تطبع المنتجات الغنائية المغربية بعيدا عن أية رقابة . ولا مجال هنا للمزايدة بحرية الإبداع أو التعبير، ما دام رد الفعل الأول الذي تخلفه اللغة المنحرفة هو التقزز، وما دامت هاته الفئة من الأغاني لا تحمل أية قيمة مضافة على مستوى المواضيع التي تعالجها. على العكس من ذلك، هنالك تكريس لحالة من فقدان الثقة والتراشق والتجاذب بين المرأة والرجل.