تواصلا مع مقالنا السابق حول سيرورة وصيرورة الحركة الوطنية الفلسطينية، نُعيد التأكيد أن أهم إنجازات الشعب الفلسطيني تحققت خلال المرحلة الممتدة ما بين تأسيس المشروع الوطني منتصف الستينيات وعام 1988، حيث بدأت المراهنة عمليا على التسوية السياسية، وكل ما تسمى إنجازات سياسية حاليا هي في أغلبها استحضار وإعادة تدوير لإنجازات الشعب وحركته الوطنية خلال المرحلة السابقة. صحيح أن المرحلة الأولى لم تحرر أرضا ولكنها استنهضت الهوية الوطنية وعززت الكرامة الوطنية ووحدة الشعب وحافظت على الثوابت والحقوق التاريخية كاملة، بينما في زمن التسوية السياسية، وخصوصا في إطار تسوية أوسلو، فقد تمت المناورة والتكتيك ليس على الجزئيات والتفاصيل، بل على الثوابت والحقوق التاريخية، بحيث أصبح كل شيء قابلا للتفاوض، وزالت أو التبست الخطوط الحمراء، وكانت الحصيلة أرضا أقل وحقا أقل وكرامة أقل، حتى وإن كانت لدى بعض القيادات نوايا طيبة أو خانتهم حساباتهم. في إطار المراجعة النقدية الداخلية لسلوك القيادة الفلسطينية منذ دخول عملية التسوية السياسية إلى الآن يمكن القول إن حالة من الإرباك وعدم الوضوح والأخطاء الإستراتيجية والخلل في الإدارة سادت هذه المرحلة. ويمكن ذكر أهم هذه الأخطاء، سواء كانت مقصودة وتندرج في إطار مراهنات ثبت فشلها، أو كانت غير مقصودة: 1- القبول بدخول عملية التسوية في مدريدوأوسلو على أساس قراري مجلس الأمن 224 و338 فقط، وتجاهل بقية قرارات الشرعية الدولية، كقرار التقسيم 181 وقرار حق العودة 194، وعديد القرارات التي تتحدث عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقه في مقاومة الاحتلال الخ. وهذا يتعارض مع إعلان قيام الدولة في الجزائر سنة 1988، الذي قَبِل الدخول في عملية التسوية على أساس كل قرارات الشرعية الدولية. وعلى هذا الأساس فإن اتفاقية أوسلو ليست تطبيقا لإعلان الاستقلال في الجزائر، ولا تتفق مع المشروع الوطني، بل هي مجرد مشروع تسوية تنكرت له إسرائيل وكانت سببا في فشله؛ وبالتالي لا تُلزم الاتفاقية وتوابعها الشعب الفلسطيني ولا تُمثل مرجعية وطنية ملزمة له. 2- القبول بأن تكون المفاوضات تحت رعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية وروسيا الاتحادية فقط دون إشراف دولي أو محاولة تشريع الاتفاقية بقرار دولي من مجلس الأمن، الأمر الذي أسقط عن اتفاقية أوسلو صفة الاتفاقية الدولية. 3- تأجيل قضايا الوضع النهائي، وهي قضايا إستراتيجية، ما جعل المفاوضات تشكل غطاء للاستيطان والتهويد في الضفة والقدس. 4- التباس صيغة الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، إذ اعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود دون ذكر لحدودها. وكان يفترض أن يكون الاعتراف بإسرائيل في حدود ما قبل حرب يونيو 1967 مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية على حدود 1967. وكان من الأفضل أن يكون الاعتراف المتبادل كأحد مخرجات المفاوضات وبعد قيام دولة فلسطين. وكانت نتيجة هذا الخطأ أن القيادة الفلسطينية اليوم في مأزق، حيث استمرار اعترافها بإسرائيل يعني قبولها بقانون القومية اليهودي. 5- القبول بالمفاوضات واستمرارها دون اشتراط وقف الاستيطان، ما جعل عملية المفاوضات ووجود السلطة الفلسطينية يشكلان غطاء للاستيطان أو قبولا ضمني به. 6- استمرار الفريق المفاوض نفسه تقريبا واقتصاره على حركة فتح. 7- تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني عنوان الوطنية الفلسطينية في دورة غزة 1996. 8- عدم تحيين وتجسيد فكرة الدولة مباشرة بعد نهاية المرحلة الانتقالية مايو 1999. وحتى الآن ما زالت القيادة مترددة حتى بعد أن تراجعت واشنطن عن حل الدولتين ومرجعية أوسلو، وبعد أن انتهكت إسرائيل كل الاتفاقات والتفاهمات السابقة. 9- المراهنة شبه الكلية على الخارج، سواء تعلق الأمر بالشرعية الدولية أو الأممالمتحدة، للحصول على دولة فلسطينية مستقلة. هذه المراهنة استمرت من مراهنة على الأممالمتحدة إلى مراهنة على محكمة الجنايات الدولية، مع غياب إستراتيجية واضحة في التعامل مع الشرعية الدولية. وما جدوى قرارات دولية غير ملزمة ولا يتم تنفيذها؟. 10- التباعد ما بين القيادة والشعب، وخصوصا في مرحلة ما بعد أبو عمار، وعدم ثقة الأولى بالشعب وقدراته ولو من خلال أشكال من المقاومة السلمية. وهذا ما خلق فجوة ما بين القيادة والشعب لم تستطع الرواتب والإغراءات المالية أن تجسرها. 11- تهميش منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها سياسيا وماليا لحساب السلطة الوطنية والفشل في استنهاضها لتستوعب الكل الفلسطيني، إذ أعادت الدورة الثالثة والعشرين استنساخ النهج نفسه والأشخاص أنفسهم تقريبا. 12- التصدع حتى داخل منظمة التحرير وتعاظم الخلافات بين مكوناتها، وكانت آخر فصول هذه الخلافات امتناع الجبهتين الشعبية والديمقراطية عن المشاركة في اجتماع المجلس المركزي المنعقد في رام الله يوم الأربعاء 15 غشت الجاري. 13-إضعاف حركة فتح سواء كحركة تحرر وطني أو كحزب سلطة ودولة، وجعل سقفها السياسي نفس السقف السياسي للسلطة. 14- تمركز الرئاسات بيد واحدة – رئاسة الدولة ورئاسة منظمة التحرير ورئاسة السلطة ورئاسة حركة فتح. 15- قوة تأثير نخبة سياسية اقتصادية من خارج المدرسة الوطنية على عملية اتخاذ القرار، وخصوصا في بطانة الرئيس. 16- استمرار التنسيق الأمني بنفس الوتيرة والضوابط التي كانت في بداية التسوية رغم تنصل إسرائيل من عملية التسوية. 17-إهمال فلسطينيي الخارج. 18-عدم إنجاز تقدم في ملف الانقسام و المصالحة الوطنية. 19- إصدار قرارات ذات وتيرة عالية وحمولة وطنية قوية تعبر عن مطالب شعبية، ولكن دون آلية تنفيذ، وربما دون إرادة تنفيذ، ما يفقد المؤسسات القيادية، وخصوصا المجلسان الوطني والمركزي المصداقية، ويجعل هذه القرارات أقرب إلى البروباغندا والتلاعب بالمشاعر الوطنية للشعب. 20-الارتجالية والتفرد في اتخاذ القرارات أو الإجراءات الأخيرة حول غزة في ما يتعلق بالتخفيض من رواتب الموظفين وغيرها من الإجراءات المتخذة من السلطة تجاه غزة، وعدم دراسة تداعياتها بعقلانية انطلاقا من المسؤولية الوطنية، أدت إلى نتائج سلبية، وكانت بالنسبة للوضع الإنساني ك"القشة التي قصمت ظهر البعير"، أو "القطرة التي أفاضت الكأس"؛ وبدلا من أن تؤدي إلى تسريع إنهاء الانقسام عززت الانقسام، بل ووظفتها واشنطن وإسرائيل وأطراف أخرى لتحويل مسار حوارات المصالحة الوطنية، وكانت الأساس لكل الحوارات اللاحقة لبحث الأوضاع الإنسانية في القطاع، وهو ما أدى إلى الحوارات التي تجري الآن في القاهرة، والتي تتجاوز بكثير المشاكل الإنسانية في القطاع. وأخيرا فإن اقتصار المراجعة والنقد على الحركة الوطنية والمشروع الوطني وقيادته يندرج في سياق النقد الذاتي، وهذا لا يُسقط المسؤولية عن إسرائيل، المسؤولة عن كل مصائب الشعب الفلسطيني، ولا يُسقط المسؤولية عن التقصير العربي والإسلامي، أو مسؤولية حركة حماس عن الانقسام وتداعياته، بل ودورها في إضعاف المشروع الوطني والتشكيك به. هذه الأخطاء أثرت سلبا على الخيارات والإستراتيجيات العامة، لأن نظاما سياسيا ضعيفا داخليا لن ينجح في الانتصار على أعدائه خارجيا. في السياسات الدولية وعلى طاولة المفاوضات لا ينظر المفاوضون إلى عيون بعضهم بعضا، ولا يستمعون إلى كلمات بعضهم بعضا فقط، بل ينظر كل منهم إلى ما وراء ظهر الآخر، إلى جبهته الداخلية، وما يملك من قوة ومدى شرعيته وتمثيله ومصداقيته عند شعبه.