أطفال مشردون بملابسَ رثة وملامحَ يكسوها البؤس، يستجدون الصدقات في الشوارع الرئيسية، تارة بمدّ أيديهم إلى العابرين، وتارة أخرى بتقديم "خدمات" كمسْح زجاج السيارات عند إشارات المرور. حُفر عميقة تُثير أعصاب سائقي العربات. باعة متجوّلون يحتلون أرصفة الشوارع والساحات، محوّلينها إلى فضاءات تعمها الفوضى. رائحة "الشيشة" تنبعث من كل مكان، وروائح أزبال آتية من قعر صناديق القمامة. بهذه الجُمَل يمكن تلخيص حاضر مدينة فاس، العاصمة العلمية للمملكة، التي كانت في زمن مضى رمزا للأناقة والنظام والتحضر، قبل أن تصير، اليوم، مدينة غارقة في الأوساخ والفوضى، وفاقدة "هويتها" التي ظلت متميزة بها قرونا من الزمن. طرُق محفّرة أكثرُ ما يثير أعصاب أصحاب العربات في فاس، هي الحُفر العميقة التي "تؤثث" شوارعها وأزقَّتها، بما في ذلك الشوارع الرئيسية، والتي تهدد سلامة العربات، وتشكّل عنصرا مساعدا على ارتكاب حوادث السير، حيث يضطر أصحاب العربات إلى التوقف بشكل مفاجئ. وكما عاينتْ هسبريس، فبعض الحفر التي تتخذ شكل أخاديد، تخترق الشوارع من ضفّة إلى أخرى. وحسب الإفادات التي استقيْناها من عيْن المكان، فإنّ هذه الحُفر ظهرت منذ أشهر طويلة، نتيجة بعض الأشغال، كتمرير قنوات المياه أو نتيجة تهالك البنية التحتية. ويسود غضب كبير وسط سائقي العربات بمدينة فاس، جراء عدم إقدام مصالح المجلس الجماعي على إعادة تعبيد الشوارع التي توجد بها الحفر، ويطالبون مسؤولي المجلس الجماعي بالتسريع بتعبيدها، حماية لسياراتهم وأعصابهم من التوتر المصاحب لهم أثناء القيادة. في المقابل، قال محمد الحارثي، النائب الثالث لعمدة مدينة فاس، إنّ المجلس الجماعي للمدينة "يبذل مجهودا كبيرا من أجل معالجة هذا المشكل"، مضيفا أنّ جميع مقاطعات فاس أطلقت طلبات عروض لإعادة تعبيد النقط التي توجد بها حفر في الشوارع. وعزا نائب عمدة فاس سبب ظهور الحفر في شوارع العاصمة العلمية إلى الأمطار الغزيرة، التي شهدتها المدينة طيلة فصل الشتاء الفائت، مضيفا أن "طلبات العروض تتطلب وقتا، وحَلّ هذا المشكل مسألة وقت فقط، إذ ستتمّ معالجته في غضون شهرين إلى ثلاثة أشهر على أبعد تقدير". أطفال مشردون في فاس ثمّة ظاهرة مُلفتة للانتباه، هي الانتشار الكثيف للأطفال المشردين في الشوارع الرئيسية، سواء في الليل أو النهار، منهم من يستجدي المارة، ومنهم من يقدّم "خدمة" مسح زجاج السيارات، طمعا في نيل بعض الدراهم، لكنّهم غالبا ما يواجَهون بالرفض من طرف أصحاب العربات لعدم ثقتهم بهم. في الليل يجتمع الأطفال المشردون على شكل جماعات في عدد من النقط بمدينة فاس، كما هو الحال قرب مطعم "ماكدونالدز"، الذي يعرف حركة دؤوبة حتى ساعات متأخرة من الليل. فتارة يجلسون وهم يرمقون العابرين بأعين تائهة، وتارة يمارسون الشغب والفوضى إلى أن يفرغ الشارع، فيأوون إلى الأماكن المهجورة لقضاء الليل، قبل أن تبزغ أشعة يوم جديد. لا يجد أطفال مدينة فاس متنفسا يقضون فيه عطلتهم الصيفية، التي تتسم بارتفاع الحرارة، نظرا إلى افتقار المدينة إلى فضاءات للترفيه، لذلك يلجأ عدد منهم إلى الاستجمام وسط مياه النافورات، فيما يفرّ مَن لدى أسرته الإمكانيات المادية من لهيب العاصمة العلمية إلى المدن المجاورة كإفران. الوضعية التي يوجد عليها "العرض الترفيهي"، الذي يقدمه المجلس الجماعي لمدينة فاس لأطفال المدينة، تعكسها ساحة مخصصة للأطفال، بها أرجوحتان وآلتان للتزحلق مثبتة على أرضية مُتربة، تحفها حشائش وأزبال، ويستنشق الأطفال الذين يلعبون فيها روائح الأزبال المنبعثة من صناديق القمامة المصفوفة جوارَ الساحة. كاميراتُ مراقبة معطّلة وأنت تتجوّل في مدينة فاس يُلفت انتباهك وجود كاميرات مراقبة في أهمّ النقط التي تعرف حركة دؤوبة، تم تثبيتها منذ سنة 2013، في إطار اتفاقية بين المجلس الجماعي وولاية الأمن، من أجل محاصرة الجريمة. كاميرات جد متطورة بقدرة التقاط في قُطر يمتد ل500 متر، لكنّ أغلبها أضحى، اليوم، أشبه بعيون أصابها الرَّمد، لا تلتقط شيئا. حسب الإفادات التي توصلت بها هسبريس، فإنَّ أغلب كاميرات المراقبة، التي زُوّدت بها شوارع مدينة فاس، لم تعد تراقب شيئا، بعد أن تعطلت، دون أن يتمّ إصلاحها، لأنّ المجلس الجماعي لم يفرج عن ميزانية الصيانة للشركة الموكول إليها القيام بهذه المهمة. مصدر من المجلس الجماعي لمدينة فاس، فضل عدم ذكر اسمه، قال جوابا عن سؤال حول عدم قيام المجلس بتوفير ميزانية صيانة كاميرات المراقبة، "نحن لا نعرف هل هذه الكاميرات فعلا معطّلة أم لا، لأنّ ولاية الأمن هي التي تقوم بتحليل معطياتها وليس المجلس الجماعي". وأشار المصدر ذاته إلى أنّ المجلس الجماعي لمدينة فاس مستعد للبحث عن حلّ لإصلاح كاميرات المراقبة إذا كانت معطلة، مضيفا "نحن منفتحون على الجميع، ومستعدون لعمل كل ما فيه صالح مدينة فاس". وكشف أنّ المجلس الجماعي للعاصمة العلمية فرض على جميع المنعشين العقاريين تزويد الإقامات السكنية بكاميرات للمراقبة. معامل مغلقة لا يُخفي أهل فاس أن مدينتهم تعيش ركودا غير مسبوق. واقع تكفي جولة في المدينة للوقوف على حقيقته، إذ لا يُسمع صوتُ جرافات منهمكة في إنجاز أوراش، غير بعض التجزئات السكنية التي تُشيَّد هنا وهناك، حتى إن الفاسيين يقولون إنَّ ما يحرك عجلة التنمية في مدينتهم هو الرواج التجاري الذي يخلقه السياح الوافدون على المدينة، والذي يضمحلّ بدوره رويدا رويدا. في مدينة فاس ثمّة عدد من المعامل أغلقت أبوابَها منذ سنوات، وكانت قبل إغلاقها توفر الشغل لأبناء وبنات المدينة، لكنها اليوم تحوَّلت إلى أطلال وخِرَب مشوِّهة للمدينة، يتخذها المشردون واللصوص مأوى لهم، ولم يعُد من حل أمام شباب المدينة الراغب في العمل سوى الهجرة إلى مُدن أخرى، أو اقتناء عربة والانضمام إلى جحافل الباعة المتجولين. معمل "كوطيف" واحد من أكبر المعامل التي أغلقت أبوابها بالمدينة. يمتدُّ هذا المعمل على مساحة واسعة، وكان أكبر معمل، ليس في المغرب فحسب، بل في إفريقيا كلها، وكان يوفّر مئات مناصب الشغل، قبل أن يُقفل أبوابه ويتحوَّلَ إلى بناية يثير المرور بجوارها الرعب في نفوس العابرين، لكونها تحولت إلى ملاذ للصوص والمشردين. محمد الحارثي، النائب الثالث لعمدة مدينة فاس، قال في تصريح لهسبريس، إنَّ المجلس الجماعي للمدينة لا يتحمَّل أي مسؤولية في إغلاق المعامل، لأنها في ملْك الخواص، مُبرزا أنّ معمل "كوطيف" أخذ طريقه نحو التصفية، ليُفتح المجال أمام المستثمرين لبناء مشاريعَ استثمارية موفّرة لفرص الشغل محلّه. وحسب الحارثي، فإنَّ جهات سَعتْ إلى تحويل معمل "كوطيف" إلى تجزئة سكنية، لكن المجلس الجماعي حال دون ذلك، حرصا منه على جعْل المنطقة الصناعية التي يوجد بها المعمل خاصة بالاستثمار. روائح "الشيشة" والأزبال قد لا توجد في المغرب مدينة أخرى تضاهي مدينة فاس في عدد المقاهي المتخصصة في تدخين النرجيلة، أو "الشيشة"، كما يُطلق عليها المغاربة، حيث لا يكاد يخلو زقاق من هذا النوع من المقاهي ذات الأبواب الزجاجية المُغلقة على الدوام، حتى لا يَتبيَّن المارّون أمامها ما يجري داخلها، خاصة أن روادها لا يكتفون فقط بتدخين "الشيشة"، بل يقومون بممارسات خادشة للحياء. ويبدو أنّ أرباب مقاهي "الشيشة" قد غلبوا مسؤولي المجلس الجماعي والسلطات المحلية بمدينة فاس، ذلك أن هذه المقاهي، التي تنتشر كالفطر، ما زالت قائمة تمارس نشاطها وتتمدّد، لتشمل حتى الأحياء السكنية وجوارَ المؤسسات التعليمية، لدرجة أنّ مقاطعة واحدة من مقاطعات فاس توجد بها أكثر من 60 مقهى ل"الشيشة"، كما هو الحال بالنسبة إلى مقاطعة أكدال، حسب تصريح سابق لمسؤول بالمقاطعة لهسبريس. في أزقة وحارات فاس تختلط روائح "الشيشة" بمختلف نكهاتها مع روائح الأزبال المنبعثة من صناديقِ القمامة البالية، التي تفيض بالأزبال والنفايات، وتشوّه وجه العاصمة العلمية. حين كنا نلتقط صورا لمشاهد "العفن" الذي تغرق فيه بعض أحياء العاصمة العلمية، قصدنا مواطن، قال دون أن نسأله عن شيء "حشومة هادشي والله إيلا حشومة". وأضاف، معبّرا عن الصورة التي أضحت عليها مدينة فاس لدى أهلها، في الوقت الراهن "فاس مْشات. البادية وما مكرفصاش بحال هاكا".