حالة منطقة دادس يحظى موضوع الهجرة الدولية بأهمية بالغة داخل الحقل السوسيولوجي بما له من أبعاد مرتبطة بالإنسان ككائن اجتماعي تؤثر هذه الهجرة على جوانبه النفسية والاجتماعية والاقتصادية..إنها من جهة خيار أمام الأفراد والجماعات للهروب من الفقر والصراع والعنف والانتقال إلى مجتمعات أخرى لها من المقومات ما يكفي لتحسين ظروفهم الاقتصادية والمادية والرقي بمستوى العيش وتحقيق الحراك الاجتماعي، كما هو الشأن بالنسبة "للفلاح البولوني" المهاجر إلى شيكاغو أو "المولوكان" الروس في كاليفورنيا أو "الدادسيين" في ألكمار. الواقع أن هذا ليس الوجه الوحيد للهجرة، فهناك مشاكل وتحديات تختبئ وراء الستار الاقتصادي، تتمثل بالأساس في الأبعاد الاجتماعية والثقافية للمهاجرين، خصوصا داخل المجتمعات التي تعرف تعددية ثقافية وصراع الإثنيات. هنا يطرح المجتمع سؤال "من ذلك الفاعل الاجتماعي؟" عندما يرى سمات ثقافية "غريبة" عنه وليست من صميمه. ويطرح الفرد على نفسه سؤال "من أنا داخل هذا المجتمع الجديد؟" عندما يرى كل شيء مختلف عن مرجعياته الثقافية الأصلية، لينتقل في ما بعد هذا السؤال من جيل إلى آخر من المهاجرين ويجيب عنه كل جيل وفق الخصائص الاجتماعية والثقافية التي نشأ داخلها. إن الإنسان المهاجر يعيش بين أحضان ثقافتين ليستا فقط مختلفتين بل متناقضتين إلى أبعد الحدود. وإذا كان أفراد الجيل الأول ينظرون إلى ثقافة البلد المستقبل على أنها غريبة عنهم فذلك راجع بالضرورة إلى أن هجرتهم مبنية على أساس مادي، فالعامل الاقتصادي والسعي نحو تحقيق حياة مادية أفضل هو ما دفعهم إلى النزوح، و"لو توفر لهم ذلك في دادس لما هاجروا إلى أوربا"، كما يقول بعض المهاجرين. أضف إلى ذلك أن ما يميز حياة المهاجر في مكان الوصول أنه محكوم بعوامل سوسيو-نفسية، بالقلق والإحباط والضغط الذي تنتجه الهجرة، ويعبر عنها بوكاردوس Bogardus بقوله: "إنه متوتر-أي المهاجر- بفعل الإحباطات والرغبات غير الملباة، والتي كانت دافعه الأصلي إلى النزوح (...) إن الوصول إلى مقصد الهجرة هو بالنسبة للمهاجر زمن الاكتئاب، فهو لا يجد ما كان ينتظره، بينما ما لم يكن ينتظر أن يجده في كل مكان وفي كل ركن.. إن أنماط الحياة الجديدة تزعجه وتحرجه.. إن الصراع يتأجج داخل نفسه (...) إن المهاجر يصبح منذ وصوله غريبا، فهو أصبح موضوع سخرية وتهكم بعد أن كان شخصا مهما في قريته الأصلية". (Elmalki,2017) إن بوكاردوس يتحدث هنا عن المهاجر بصيغة المفرد، في حين أننا نتحدث عن أفراد هاجروا إلى أوربا على شكل مجموعات تنحدر من مجال واحد ولها ثقافة واحدة ومشتركة؛ وبالتالي سينشأ لدى هؤلاء المهاجرين نوع من التضامن في ما بينهم من أجل التغلب على التحديات الجديدة إن على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي؛ وما يميزهم هو ارتباطهم أشد الارتباط بثقافتهم الأصلية ورفضهم قيم المجتمع الجديد. ويرجع ذلك حسب لاغرانجLagrange إلى كون قضية الهجرة أصبحت في مرحلة معينة "قضية سياسية وإيديولوجية" بعدما كانت قضية "مهنية واقتصادية"، وأضحى "الغريب" هو "المهاجر"، وظهرت معاداة قوية للأجانب والمهاجرين، كما ظهر عزل واستبعاد اجتماعي وثقافي تكرسا في البنى الذهنية والموضوعية مع توالي السنوات. وما نقوله عن الجيل الأول يمكن أن نقوله عن جزء كبير من الجيل الثاني، ونخص بالذكر الأفراد الذين عاشوا مرحلة طفولتهم في البلد الأصلي. لكن عندما نتحدث عن أفراد الجيل الثاني الذين ولدوا في المهجر فالأمر يختلف، هذا الجيل الذي تصبح حظوظ اندماجه أكثر سهولة، فهم يجدون أنفسهم على ملتقى ثقافتين يشعرون أنهم ينتمون إليهما معا، وأصبحنا نتحدث عن إنسان ذي الثقافتين، ويمكن أن يظهر ذلك على مجموعة من الأصعدة سنركز على ثلاثة، وتخص كلا من الاحتكاك مع ثقافة البلد المستضيف والزواج المختلط، ثم سؤال المواطنة وأخيرا مسألة الإقامة بعد سن التقاعد. أ-الزواج المختلط من بين المظاهر التي تدل على تغلب المهاجرين على العوائق العرقية والثقافية نجد انتشار الزواج المختلط le mariage mixte الذي يدل بالأساس عل بدء تقبلهم للثقافة المستقبلة. إذا ما عدنا إلى الزواج المختلط، خصوصا لدى المغاربة المقيمين في الخارج، سنجد أنه محكوم بمجموعة من القيود، قانونية، ثقافية ودينية، فإلى حدود السبعينيات والثمانينيات كان عدد الزيجات المختلطة لا يسمح بالدراسة والسؤال السوسيولوجيين، بمعنى آخر، فقط وانطلاقا من التسعينيات وبوتيرة متسارعة أصبحنا نشهد مسلسلا لزواج مختلط خارجي، فرض نفسه على المستوى القانوني الدولي، وذلك نتيجة للهجرة وما فرضته من احتكاك وتثاقف بين المهاجرين وسكان البلدان المضيفة. هذا الأمر لا يجب أن يمر علينا بطريقة عادية، فهو يحيل ضرورة على نوع من الاندماج وقبول الآخر على الرغم من اختلافه على المستوى الثقافي والديني على وجه التحديد. إن الزواج المختلط يظهر كمكان مميز تلتقي فيه الثقافات والحوار والمزج.. إنه يصنع منظومة جديدة من الأفكار والقيم التي تضرب عرض الحائط التراكمات الثقافية الأصلية للمهاجر. ب-سؤال المواطنة يشكل سؤال المواطنة قلقا اجتماعيا وسياسيا لدى جميع أطراف الهجرة، سواء البلد الأصلي أو المضيف، وكذلك بالنسبة للمهاجر ذاته. ويختلف سؤال المواطنة هذا من بلد إلى آخر، ويرتبط بالسياسة الداخلية التي تتبناها كل دولة على حدة أمام التعددية الثقافية؛ فإذا ما نظرنا إلى الفترة منذ 1945 ككل يمكننا تمييز ثلاث مجموعات من الدول؛ أولها "دول الهجرة التقليدية" التي شجعت على جمع شمل الأسر والإقامة الدائمة وتعاملت مع المهاجرين الشرعيين بأنهم مواطنو المستقبل (كالسويد مثلا)، أما المجموعة الثانية فتضم كلا من فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة، التي أعطت الجنسية للمهاجرين القادمين من مستعمراتهم السابقة واعتبرتهم من المواطنين فور دخولهم وسمحت لهم بالهجرة الدائمة وجمع شمل أسرهم. أما المجموعة الثالثة فتضم الدول التي احتفظت بنموذج "العامل الزائر"(Castler,1993) وعلى رأسها ألمانيا والنمسا وسويسرا. ما يجمع بين هذه المجموعات أنها تعتبر المهاجرين كمواطنين لدى البلد المضيف، بغض النظر عن مكانتهم ودرجة مواطنتهم؛ لكن هل يتبنى المهاجر التصور نفسه أم أن له نظرة أخرى؟. يحمل سؤال المواطنة لدى الدادسيين بعدا سياسيا واقتصاديا أكثر منه ثقافي، إذ يرى الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين للبلد المضيف أن هذا الموقف راجع إلى كون هذا البلد يقدم لهم الشغل والتعليم والصحة ويلجون إلى مؤسساته وإداراته، ويستفيدون من الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية وغير ذلك من الحقوق. وهذا التمثل لا ينفصل بتاتا عن الهدف الرئيس من الهجرة، وهو اقتصادي بالدرجة الأولى. ويمكن أن نضع استنتاجا هنا هو أنه إذا كانت هذه الدول (خصوصا فرنسا) قامت بتهجير الأفراد الدادسيين بدافع اقتصادي ومهني يتجلى في الحصول على اليد العاملة الرخيصة، فإن هؤلاء الأفراد (دائما نتحدث عن الجيل الأول والثاني) يرون أنفسهم مواطنين لهذه الدول فقط عندما يتعلق الأمر بالجانب الاقتصادي والمادي، وعندما يتعلق الأمر بما هو ثقافي فهم يصنفون أنفسهم ضمن مجتمعهم الأصلي. إن هناك علاقة "براغماتية" بين المهاجرين وبلدان الهجرة قائمة على أساس تبادل المنفعة. ج-الإقامة بعد سن التقاعد نلاحظ جليا أن المهاجرين الدادسيين يعودون إلى الوطن بعد سنوات طوال من الهجرة، فأفراد الجيل الأول كما نستنتج خلال جميع أطوار هذا البحث مرتبطون بهوية مجتمعهم الأصلي، وبالتالي فقرار العودة والاستقرار في الوطن قرار صادر عن عوامل ثقافية بالأساس. لكن ماذا عن الجيل الثاني؟ هل يتبنى الطرح نفسه أم أن له نظرة مغايرة؟ هل يستطيع الإقامة بشكل نهائي في المهجر أم أن الأمر صعب؟ وما هي العوامل التي قد تجعل المهاجر يقرر الاستقرار في المهجر نهائيا؟. نلاحظ أن قرار العودة إلى الوطن بعد التقاعد ينتشر لدى كل أفراد الجيل الأول، ونلخص أسباب ذلك في ما يلي: التنشئة الاجتماعية: هؤلاء الأفراد عاشوا مرحلة الطفولة وجزءا من شبابهم في مجتمعهم الأصلي، لذا فثقافة هذا المجتمع تجري في دمهم ويصعب أن يتخلوا عنها. العامل وراء الهجرة: كان الهدف الرئيسي من الهجرة اقتصاديا بامتياز، ولم يكن مبنيا على أي أساس آخر، ومنه فالمهجر ليس إلا مكانا للعمل، أما الانتماء فيبقى دائما إلى المجتمع الأصلي. ظروف العمل: بالنظر إلى الظروف الصعبة التي عاشها هذا الجيل منذ اتخاذ قرار الهجرة إلى غاية الاستقرار والإقامة بالمهجر، فإن هؤلاء المهاجرين تولد لديهم أو لنقل تضاعف شعورهم بالانتماء إلى الوطن الأصلي. أما بالنسبة للجيل الثاني فسنجد تضاربا في الآراء واختلافا في التمثلات: الفئة الأولى: يدخل ضمنها الأفراد الذين ولدوا في البلد الأصلي وهاجروا بعد ذلك، ونجد أنهم يميلون إلى تمثلات آبائهم حول المهجر؛ وهذا راجع إلى كونهم تلقوا تنشئتهم الأولية في المجتمع الأصلي وعاشوا ظروفا صعبة بدورهم برفقة آبائهم، خصوصا أن هذه الفترة عرفت مجموعة من المشاكل المرتبطة بعملية جمع شمل عائلات المهاجرين الأوائل، والتي رافقتها صعوبات كبيرة من الناحية المادية والقانونية والسكن والغربة وغيرها من العوامل التي جعلتنهم يرتبطون بوطنهم الأم أكثر من المهجر. الفئة الثانية: تتضمن الأفراد الذين ولدوا في المهجر، والذين تختلف خصائصهم الاجتماعية والثقافية، ومنه ستختلف بالضرورة تمثلاتهم حول المهجر؛ ورغم ذلك لم يحسموا بعد مسألة الإقامة بعد سن التقاعد. ويمكن أن نلخص العوامل -على سبيل المثال لا الحصر- التي بني حولها هذا التمثل في ما يلي: التعليم: تلقى أفراد الجيل الثاني المزدادين في المهجر تعليمهم في المهجر، وانفتحوا أكثر من آبائهم وإخوانهم على ثقافة البلدان المستضيفة، وبالتالي فنظرتهم ستختلف ليس بشكل مطلق بل في بعض التفاصيل المتعلقة بتمثلهم للمجتمع المضيف. العلاقات الاجتماعية: هؤلاء الأفراد نسجوا علاقات اجتماعية مع مواطني البلدان المضيفة، ومن ثم الاحتكاك أكثر بثقافتهم، ما أثر في تمثلهم لهذه الثقافة. العمل: نوع العمل تغير بالمقارنة مع الجيل الأول، فقد تحقق نوع من الحراك الاجتماعي جراء الولوج إلى مناصب شغل وإلى مراتب اجتماعية تختلف عن الظروف القاسية التي عاشها الآباء في المناجم والمعامل ودور الصفيح. نخلص إلى أن مسألة الإقامة والعودة إلى الوطن تختلف درجة أهميتها والتخطيط لها من جيل إلى آخر؛ فالجيل الأول يتبنى فكرة العودة إلى الوطن والاستقرار فيه نظرا للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي عاشها، أما أفراد الجيل الثاني فلهم خصوصياتهم التي تجعلهم مترددين في الموقف دون التصريح –في أغلب الأحيان- بالقرار النهائي. وهنا نضع فرضية مفادها أن الجيل الثالث أو الرابع (بحسب درجة تحقق الاندماج) سوف لن يطرح له هذا المشكل لاعتبارات أهما اندماجه أكثر من الأجيال السابقة في المجتمع المضيف. إن الهوية إذن من الموضوعات الكبرى التي تحظى بالدراسة على مستوى العلوم الاجتماعية. وقد عملنا على النبش في هذا الموضوع لدى المهاجرين المغاربة لنستنتج في النهاية أن هذه الهوية تظهر ملامحها وسماتها داخل الحياة اليومية للجالية المغربية المقيمة بالخارج، خصوصا لدى الجيل الأول. ونسجل كذلك تفاوتا بين الأجيال في ما يخص تشبثها بالهوية الأصلية وكذلك تمثلاتها لثقافات المجتمعات المستضيفة؛ وذلك راجع إلى التنشئة الاجتماعية والسياقات الاجتماعية التي تجري فيها هذه التنشئة. *باحث في علم الاجتماع