يُعتبر البعد الاقتصادي من أهم الأبعاد المكونة للوجود البشري، وفساد الاقتصاد أخطر مهدِّدٍ لاستقرار المجتمعات، سيما حين تُبارِكُ الدولة صفقة زواج السلطة والمال، وتُوقِّع معها شهادة استباحة الفساد الشامل لكل مفاصل ومؤسسات الدولة، وتحويلها إلى "سوق سوداء" كُتِب عليها "كل شيْء للبيع".. وتفشي وباء "مجتمع الاستهلاك" الذي يتحول إلى صحراء من اللامعنى وهيمنة الرداءة والانحطاط والقلق والبؤس والتيه.. ثم التساؤل عن معنى الوجود والتمرد على المَعيش البئيس. إن قراءة انتفاضة ربيع الشعوب المقهورة من المحيط إلى الخليج، يسْتلزمُ الاستعانة بعُدَّةٍ مفاهيميةٍ اقتصادية، كمفهوم الفقر، الفساد الاقتصاي، اقتصاد الريع، العجز الاقتصادي، المديونية، الإفلاس، البطالة، الاستغلال، المستهلِكُ المُستهلَك، الإنسان المقهور.. يُمكِن تشبيه النزيف الاقتصادي الحاد، الذي تتدفق أزماته من المحيط إلى الخليج، بإعصار مدمِّرٍ.. تجلياته واضحة في الكثير من دول الخليج التي توقفت فيها مشاريع عقارية واستثمارات عملاقة، مع تسريح منتظم للعمالة، والشعور بفقدان الأمن الاقتصادي، جرَّاء "هدر الثروات" وتراكم الفساد المالي للحكام والنافذين و سفاهة الإنفاق، والخضوع للابتزاز "الغربي" بخلفياته الإمبريالية التي لا يهمها سوى استنزاف البقرة الحلوب ولو أدى استمرار الاستنزاف إلى موت البقرة. الأوضاع الاقتصادية تزدادُ تردّيا، وما حدث في الأردن مؤخرا من موجات غضب واحتجاجات شعبية هو رد فعل على الوضع الاقتصادي المأزوم الذي تعيشه معظم البلدان العربية، كما أن الانتفاضة ضد قانون ضريبة الدخل لم تكن سوى القطرة التي أفاضت كأس الاختناق الاقتصادي، والتي تُردِّدُ صداها الشعوب المقهورة "كفى نهْبا وتفقيرا". في المغرب غير خفي الجانب الاقتصادي الضخم في احتجاجات حراك الريف وجرادة وغيرها من الاحتجاجات المنتظمة أمام البرلمان للمطالبة بالحق في العيش الكريم، ومحاربة الفساد وسرقة ثروات البلاد، ورفض زواج المال والسلطة، وتغوُّل لوبيات الاحتكار.. وظاهرة الفساد لا تستثني أية دولة عربية، مع تباين طفيف في حدة أزماتها، وأخطرها أزمة الكرامة إذْ مازالت الأنظمة الحاكمة تنظر إلى الشعوب كقطعان من البهائم يجب معاملتها بمنطق التهديد والترويض.. وهو منطق السادة المُتجبِّرين مع العبيد. احتكار واعتقال واستعباد الأوطان ظاهرة تاريخية، حيث تتشابك علائق السلطة المستبدة (فرعون) باحتكار المال الأخضر (قارون) وتخطيط العقل السياسي الفاسد (هامان).. لتُنْتِج الظاهرة الفرعونية، التي تدعي الحرص على مصلحة الشعوب المستعبدة، ومصلحتها في تخليها عن كرامتها، وكلما كانت الشعوب رافضة للعبودية، ومؤمنة بالمقاومة إلا واشتدت الآلة الفرعونية التنكيلية بها، لإحباطها كي تستسلم، على غرار الاستهداف الصهيوني للشعب الفلسطيني بسلاح أمريكي وتمويل من بعض الأشقاء العرب، وفرض شروط قاسية على الشعب الفلسطيني مُقابل الحصول على مساعدات اقتصادية هزيلة. نتائج الفساد الاقتصادي متنوعة، كالبطالة، الجريمة، الإدمان، الانتحار، الضياع وفقدان البوصلة..وتشكل أزمة السكن، مظهرا واضحا للفساد في العالم العربي حيث مازال الكثير من المواطنين يعيشون مشردين بلا مأوى يحميهم من القرِّ والحرّ، ويحفظ لهم كرامتهم الإنسانية، أو لاجئين داخل أوطانهم في شبه مساكن، عدا تكدس الغالبية العظمى في "زنازن سكنية" تُدْعى بالسكن الاقتصادي، يستنزِفُ ثمنها كدح "المواطنين المستعبدين" لسنوات عجاف طوال، لتُضخّ أرباحها الضخمة في حسابات "السادة" لوبيات العقار.. من المسؤول عن العبودية الاقتصادية؟ وما أهدافها؟ في كتابه "اعترافات قاتل اقتصادي Les confessions d'un assassin financier" يعترف "الخبير الاقتصادي" الأمريكي جون بيركنز Jhon Perkins بتجنيد أمريكا لخيرة ثعالب الخبراء الاقتصاديين، العاملين في كبريات الشركات الاستشارية الأمريكية بهدف إعداد دراسات مشاريعية "تمويهية" لفائدة الدول النامية بدعوى إنشاء البُنى التحتية والمنشآت الفنية من طرق وقناطر ومطارات وموانئ وسدود ومنتجات طاقية ومدن صناعية ومشاريع البناء والإعمار التنموية. تختفي الأهداف الحقيقية لوظيفة "القاتل الاقتصادي" في مسكوكات لغوية جذابة وتضليلية على غرار "التنمية" "تأهيل الموارد البشرية" "المشاريع الربحية" "القرى النموذجية" "الاستثمارات التشاركية" مع ضرورة إقناع قادة ومسؤولي الدول المستهدفة بحتمية الحصول على القروض من المنظمات المالية لتطوير بلدانهم، إما عن طريق الإغراء بالحصول على نصيب مهم من القروض وامتيازات فاخرة، أو تهديد هؤلاء القادة بالتصفية الجسدية والاحتجاجات الشعبية والانقلابات العسكرية. يسرد بيركنز في "اعترافاته" عدة أمثلة واقعية لمعاقبة الرافضين للقروض الضخمة، كتفجير طائرة رئيس الإكوادور جيمي رولدوس الذي رفض استنزاف أمريكا لنفط بلاده بأثمنة بخسة، ورفض السقوط في فخ المديونية، نفس المصير سيلقاه رئيس دولة بَّانما Panama عمر توريخوس بعدما فشل بيركنز في إرشائه للقبول بقروض مجازر مشاريع التنمية المزيفة، وأيضا الرئيس العراقي صدام حسين وكل من سولت له نفسه المساس بمصالح الكوربورقراطية la corporatocratieالتي تعنى حكم وسيطرة الشركات الكبرى حتى على الرؤساء الأمريكيين باغتيال جون كنيدي Jhon Kennedy وتشويه سمعة الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton (فضيحة مونيكا لوينسكي Monica Lewinsky) وذلك باستغلال نقط الضعف البشرية كالجنس والرغبة في السلطة والمال، حيث تقوم بنات آوى (المخابرات الأمريكية) بصناعة الفضائح عبر التجسس والتصنت على المكالمات والتفنن في استخدام العنف الرمزي La violence symbolique المعزّز بالتكنولوجيا الذكية، والذي يعطي نتائج أفضل من العنف المادي والعسكري والبوليسي. تحصل الدولة على القروض الثقيلة بشروط مُسبقة، للقيام بإصلاحات جاهزة، وبتعبير دقيق لتنفيذ إملاءات مفروضة، حصة الأرباح الكبيرة تعود للشركات الاستشارية، مع منح امتيازات لمسؤولين فاسدين يُشرفون عليها ينضاف إلى الفساد المالي الفساد الإداري البيروقراطي، مما يفضي إلى فشل النموذج التنموي، مع نفاذ القروض، والسقوط في دوامة القروض لمعالجة الاختلالات والأعطاب التنموية. تدخل الدولة في مرحلة الإفلاس، وتشرع في خصخصة قطاعاتها الحيوية، وتخصيص معظم مداخيلها لتغطية الديون، وتقليص بل تقزيم ميزانية الخدمات الاجتماعية كالإنفاق على الصحة والتعليم وارتفاع معدل الفقر والبطالة وما يرافقهما من أمراض اجتماعية كالعنف والجريمة والاتجار في المخدرات والبغاء.. سيما في صفوف الشباب الذي يتحول في هذه الظروف إلى قنبلة موقوتة. ديون المغرب تفوق 600 مليار درهم، والخطير أن بالوعة الديون تُغرٍقُ غالبية المواطنين بمن فيهم الموظفين والعاملين والحرفيين والتجار والعاطلين، حيث تتوزع قروضهم بين قروض المقاولات والمشاريع والسكن والاستهلاك، والقروض الصغرى، علما أن حصة الأسد من قروض المغاربة تتجه صوب الاستهلاك، الحصول على سيارة والملابس الأنيقة والتجهيزات المنزلية والأجهزة التكنولوجية كالهواتف واللوحات الذكية وغيرها من المظاهر الاستهلاكية. هكذا تشتدُّ حبال الديون على عنق الدولة والمواطنين على حدّ سواء، كما الأمس القريب حين استخدمت فرنسا وإسبانيا الديون لاستعمار المغرب، وفرض الحماية الفرنسية le protectorat françaisبمعنى أن المغرب تحول إلى "محمية" أي حديقة خلفية للمستعمر الفرنسي، واضطهاد الشعب المغربي وممارسة أقصى وأقسى أنواع العنف المادي والرمزي والنفسي لإخضاع المغاربة وتدمير قدرتهم على المقاومة، ودفعهم للاستسلام والعبودية. فشلت فرنسا والقوى الاستعمارية آنذاك في تطويع المغاربة، لأن الشعب المغربي حينها كان يرفض إرادة الخضوع والعبودية، بل كان متشبعا بإرادة الشهامة والحرية، وقابليته الوحيدة هي القابلية للكرامة، لذلك لم تنجح خُطَطُ القمع واستراتيجيات صناعة الخوف والإذعان، رغم التنكيل بالمقاومين وسياسة الاختطاف والاعتقال والاغتيال. اليوم وكما كشفت الصحفية والمؤرخة البريطانية فرانسيس سوندرز Frances Saunders في كتابها Qui mène la danse ? La CIA et la Guerre froide culturelle، أن من يدفع ثمن الموسيقى يختار اللحن، كناية سياسة أمريكا (رمز الغرب الاستعماري) في تكريس نموذجها الثقافي عالميا بتأسيس معاهد ومراكز للدراسات والبحث العلمي، والتكلف بطبع كتب ودوريات ومجلات المفكرين الموالين لها، والإنفاق على الجمعيات الثقافية والمنظمات الحقوقية، وتوظيف كبار المثقفين والفنانين والفلاسفة والسوسيولوجيين اللامعين والإغداق عليهم، كالفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي ريمون أرون Raymond Aron لترويج مفهوم محدد للحرية كما تراها أمريكا مختصرة في قيم الاستهلاك، لذا نفهم هجوم ريمون أرون على الفيلسوف الفرنسي سارتر Jean-Paul Sartre، الذي كان يعتبر الحرية موقف إنساني تجاه قضية إنسانية، (تجدر الإشارة أن سارتر انساق بدوره أمام الإغراء المادي الإسرائيلي). إن العبودية الحديثة أخطر من عبودية الأزمنة السحيقة، هي عبودية بلا أغلال فولاذية ولا سلاسل حديدية، إذ أن أغلالها وسلاسلها أكثر قسوة وإيلاما، تُّنتِج عن فساد الدولة وسرقة المال العام وجعل الأفراد عبيدا لحاجيات لا تنتهي وقروض لا تنتهي، لقد أدرك الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche العلاقة بين الدين la dette والعبودية والقسوة والألم وترويض المدين وإذلاله واحتقاره، فكلمة الدائن le créancier تحمل العديد من الدلالات القدحية المهينة، كالعاجز والمحروم le banni والمُبْعَد l'exclu. والأدهى والأمر أن المواطن يتحول بإرادته إلى بضاعة استهلاكية وشخصية تسويقية، بتعبير عالم النفس الاجتماعي إريك فروم Erich Fromm فيقوم الشخص بإظهار أجمل ما لديه من قدرات وكفاءات ومهارات، يقدم نفسه كسلعة في سوق بشرية لا ترحم، لذلك فجرائم الفساد ومجازر المديونية هي الطريق المنحدر السريع نحو إنتاج كل مظاهر العبودية الحديثة. إن الحرية التي تروم أمريكا زرعها في العالم هي حرية العبد في اختيار عبوديته، وهذا ما جعل السوسيولوجي الفرنسي بودريار Jean Baudriallrd يقول إن أمريكا صحراء من المعنى، مادامت الحرية التي تبشر بها مجرد موجات تحركها "الكوربورقراطية" باعتبارها الشركات العابرة للقارات، وتنظر للشعوب كمنادل ورقية، "مُنْتج للاستهلاك" produit jetable .. مع تكرار أكبر خدعة في التاريخ "مصلحة الأفراد".. حيث يصبح وهم تحقيق المصلحة الفردية مقصلة للكرامة والحرية، والقبول بالخضوع والعبودية. ختاما أينما تواجد الأشرار في العالم لا يكوِّنون مجتمعا بل مؤامرة، ولا يشكلون حِزْبا بل عصابة بتعبير المفكر والسياسي والشاعر الفرنسي لابويسي Étienne de La Boétie الذي عاش في القرن السادس عشر، يقول في كتابه "مقالة في العبودية المختارة" : "إننا لا نولد أحرارا فقط، وإنما نولد أيضا بغريزة الدفاع عن الحرية ورفض العبودية".