الوطن، أرض وشعب وتاريخ... تاريخ شعب برجاله ونسائه الذين يصنعون زيادة على قوت يومهم، الأمجاد والذكريات... قيل الكثير عن الشعب وعن دوره في التاريخ... يتم تمجيد الشعب أحيانا واحتقاره أحيانا أخرى... وفي أحسن الأحوال يقال أن الشعب ليس مثالي... ولكن الكل يتحدث عن الشعب... والكل يتساءل : ما موقف الشعب من تلك القضية ؟ ماذا سيكون رد فعل الشعب حول تلك الأزمة ؟ هل سينتفض الشعب ؟ إنها أسئلة تطرح يوميا وتفتح حولها نقاشات وحوارات ودراسات لعلَّ وعسى يدرك الواحد ما يمكن أن يفعله الشعب... لكن دائما تكون المفاجآت، حيث يتحرك الشعب وينتفض حين لا ينتظر منه ذلك أحد ويركن إلى السكون حين نظن أنه لا محالة سيثور ويتحرك... لقد تم عبر التاريخ خلق هياكل ومؤسسات وإطارات تمثل الشعب وتتحدث باسمه... النظام السياسي، الدولة، البرلمان، الحكومة، الأحزاب والنقابات، وفي عصرنا القريب المجتمع المدني والسلطة الرابعة، الصحافة... كما تم الاهتداء للنظام التمثيلي الأقل ضررا بالنسبة لتمثيل الشعب: الديمقراطية وصناديق الاقتراع... رغم كل هذا يبقى الشعب دائما وأبدا ذاك المجهول... نعم، لأن لا أحد يستطيع التكهن بما يفكر فيه الشعب ولا فيما سيقدم على فعله... وحتى لا نبقى في التعميم أود أن أطرح عليكم بعض الأسئلة وأطلب منكم التفكير قليلا والإجابة عنها إن راقتكم الفكرة... فيما يفكر الشعب المغربي اليوم ؟ هل هو راض عن الحكومة الحالية ؟ هل يعتبرها صالحة لتمثيله وحل مشاكله ؟ ما موقفه من صراع شباط وبن كيران ؟ هل يريد إصلاحا جذريا شاملا ؟ هل يريد الإصلاح في ظل الاستقرار ؟ هل يخاف من الفتنة كما هي في بلدان أخرى ويحمد الله على ما هو عليه ؟ يمكن طرح أسئلة عديدة وأنا أتخيلكم تطرحونها... الأسئلة ملتصقة بذات الإنسان، يطرح القضايا التي تؤرقه وتهمه، كما أفعل أنا الآن... النَبِيه فينا والأقرب إلى فهم ذهنية وروح الشعب هو القادر على طرح الأسئلة التي تهم نسبة عالية من الشعب... أتخيل بعضكم يقول أن الجواب سهل لأن الشعب اليوم يفكر في رمضان المبارك والعطلة الصيفية والدخول المدرسي، ثلاث محطات في ثلاثة أشهر كلها مصاريف وتكاليف وإرهاق ؟ وما يدريكم، لعله – أي الشعب – يفكر في أشياء أخرى ؟ أتخيل البعض الآخر يقول أن الشعب ليس كيانا موحدا... هناك الفئات الغنية والفئات الفقيرة وأسئلة تلك وهاته تختلف بالضرورة... ستقولون أن هناك شعب المدن وشعب القرى وأن كل منهما له مشاكله وهمومه... ستقولون أن هناك أجيال الكهول وأجيال الشباب وأن مطالب وطموحات كل منهما على نقيض، فالشباب كله أمل في التغيير والتجديد والكهول عادة ما يكونون محافظين... هناك أيضا ضمن الشعب النساء والرجال... والنساء يمثلن المستقبل والدينامكية والتطور والتغيير والشجاعة والصبر والاهتمام بالرجال والدفع بهم إلى الأمام... ألا يقال منذ زمان أن وراء كل رجل عظيم امرأة وأن النساء مستقبل الرجال... رغم كل ما قيل حول مكونات الشعب، يبقى الشعب هو الشعب والحديث عن الشعب ككتلة واحدة لا ينتهي... إذا في ماذا يفكر الشعب المغربي وماذا سيفعل ؟ سأساهم معكم في محاولة الجواب على هذا السؤال الجوهري وأدعوكم إلى العمل بالمثل وسأكون سعيدا لو تفضل البعض بتصحيح أوراقنا كما يفعل في الامتحانات، ربما سنصل إلى آراء قريبة من اهتمامات الشعب ما دمتُ أنا وأنتم جزء من هذا الشعب، نحمل همومنا وهمومه ونُفَعِّلُ فيه ونَتَفَاعل معه... أجوبتي وأجوبتكم ستكون نتاج موقعنا الاجتماعي، المشاكل التي نتخبط فيها في هذه الساعة، الأفكار والتصورات والتقاليد التي نجرها معنا منذ صغرنا إلى اليوم... تجربتنا في الحياة والدروس التي استخلصناها في السابق ستساعدنا على طرح الأسئلة والأجوبة التي تبدو لنا راهنة وأكثر واقعية، لأنه كما قال فيلسوف كبير، الإنسانية – إذن الإنسان والإنسان خلية من خلايا الشعب – لا تطرح إلا المشاكل التي يمكن أن تجد لها حلولا... وأنا أفكر معكم حول ما يفكر فيه الشعب المغربي، عَلَيَّ أن أصارحكم أن الشعوب فاجأتني في السنين الأخيرة... نعم الشعوب، شعوب العالم التي أصبحت لا تخاف من احتلال الساحات والتظاهر في الشوارع للتعبير عن مشاكلها ومطالبها وهمومها... في تونس ومصر، في إسبانيا واليونان وأيضا في تركيا والبرازيل... دون إغفال المغرب مع حركة 20 فبراير... نعم، الشعب أصبح مادة إخبارية متداولة اليوم في كبريات الصحف والمجلات والقنوات والإنترنيت على الصعيد العالمي والوطني والمحلي... آخر شعب خرج – دون إشعار سابق - هو الشعب البرازيلي الذي انطلقت موجته الاحتجاجية على قرار قد يبدو صغيرا يتعلق بالزيادة في ثمن حافلات النقل وتأجج الصراع حتى كاد أن يصبح عصيانا مدنيا وثورة على حكم ديمقراطي مما أدى بحكام البلاد ومن ضمنهم القائد العمالي والزعيم التاريخي والرئيس السابق "لولا" والرئيسة الحالية للبرازيل "ديلما روسيف" المنتمية لنفس حزب "لولا"، حزب العمال، إلى استقبال لجنة عن الشعب المتظاهر وطرح فكرة الرجوع إلى الشعب لاستفتائه وانتخاب مجلس تأسيسي لإصلاح النظام السياسي لصالح الشعب... هل كان أي أحد يتوقع أن يخرج شعب عاشق لكرة القدم للاحتجاج وبلاده تنافس في عقر دارها على كأس القارات ؟ «رجعوا تلامذة البرازيل للجد ثاني يا عم لولا، لا كرة نفعت ولا...»، كما قال الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم. هل كان أي أحد يتكهن أن يقع ما وقع في البرازيل وبتلك القوة والسرعة... هل كانت تقارير أجهزة الأمريكان توحي بوقوع ما وقع ؟ هل هناك دراسات لأكاديميين وعلماء اجتماع وسياسيين بالبرازيل كانت تُنَبِّه إلى ما سيقع ؟ لا علم لي بذلك... إني أصبحت متيقنا من أن تحولات كبرى تقع بسرعة على هذه الكرة الأرضية التي نعيش فيها كسرعة تطور صبيب الإنترنيت... حتى الحكام تأقلموا جيدا مع الواقع الجديد... لقد فضل حكام البرازيل استفتاء الشعب وانتخاب مجلس تأسيسي على الانهيار التام للنظام الديمقراطي الحاكم... وحتى لا تنتشر العدوى في جنوب أمريكا وما أدراك أن تصل إلى أمريكا الشمالية نفسها وهي التي خرج فيها الشباب للتظاهر أمام "بورصة وال ستريت"... الحكومة العالمية الفعلية حسب الكثيرين... ألم أقل لكم أن الشعب، ذلك المجهول، لا يمكن معرفة ما بداخله ؟ من كان إلى حدود الأمس يجزم أن شعوب الدول العربية ستخرج للشارع وستنتفض وسَتُضَّحي بأرواحها حتى تحقق الشعار الجديد للقرن وهو "ارحل"... ارحل أيها الفساد... ارحل أيها الاستبداد... لا عبودية بعد اليوم... الحرية والكرامة والعدالة والمسؤولية والمحاسبة اليوم وغدا... سيقول قائل أنه منذ ظهور البشرية وانتفاضة الشعب قائمة وأنها المحرك الحقيقي للتاريخ... نعم معه الحق وهذا ما يجب أن يعرفه جيل الشباب من خلال اطلاعهم على كتب التاريخ، تاريخ البشرية وتاريخ شعبهم ووطنهم لأنه من لا ذاكرة له لامستقبل له... وحتى لا نرجع إلى زمن انتفاضة "سبارتاكوس" في روما، يمكن أن نقول أن أكبر الانتفاضات الشعبية كانت في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، انتفاضة شعوب العالم الثالث ضد العبودية والاستعمار وانتفاضة شعوب العالم المتحضر من أجل الحقوق والديمقراطية وأحيانا الاشتراكية كما وقع في روسيا مع الثورة البلشفية لأكتوبر 1917... لقد استمرت هذه الانتفاضات وكانت من أبرزها انتفاضة الطلبة والعمال في فرنسا سنة 1968 وانتفاضة "ربيع براغ" في تشيكوسلوفاكيا وانتفاضة شعب الفيتنام كما كانت انتفاضات هنا وهناك وأيضا في المغرب مع انتفاضة 23 مارس 1965 وانتفاضة الشعب الإيراني سنة 1979 وكذا أكبر معركة تحرر عالمية ضد الميز العنصري قادها القائد التاريخي "نلسون مانديلا" في جنوب إفريقيا... وبالطبع انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين... (ليسمح لي القارئ إن لم أذكر انتفاضات أخرى...) لقد كان للشعب خلال القرنين الماضيين، أحزابا ونقابات ومفكرين يدافعون عنه ويمثلونه في المؤسسات والحكومات والإدارات، إلا أنه مع سقوط جدار برلين وانهيار المعسر الاشتراكي وتسرع "فكوياما" للإعلان عن نهاية التاريخ وغلبة نمط الإنتاج الرأسمالي وشيوع الليبرالية وطغيان المال على الإنتاج، انهارت العديد من التنظيمات التي كانت تتحدث باسم الشعب وتدافع عنه... لقد اندثرت أحزاب شيوعية قوية وضعفت أحزاب اشتراكية وانهارت النقابات... وأصبح الشعب في مواجهة مباشرة مع الرأسمال المالي يفعل به ما يشاء وكيفما شاء دون أية إمكانية للشعب لمراقبته وتقويمه والضغط عليه... أصبحت أمريكا تتحكم في كل شيء وأصبح الرأسمال المالي يتحكم في الرأسمال الإنتاجي وفي الشركات والإدارات والحكومات والدول وفي سياسة أمريكا نفسها... حتى جاءت فضائح وأزمات القطاع المالي البنكي وسقوط "برنار مادوف" وبنك "ليمان براذرز" وأزمة القروض العقارية سنة 2008 وأزمة الديون السيادية سنة 2011... وبدأت الشعوب تنتفض كل واحدة انطلاقا من وضعها، ففي تونس ومصر ضد الفقر والفساد والاستبداد... في اليونان وإسبانيا ضد تحميل المواطنين تبعات الفساد والعبث المالي... وفي المغرب من أجل محاربة الفساد وتوزيع عادل للثروة... وفي تركيا مؤخرا من أجل احترام حقوق الأقلية ونظام سياسي متوازن... وفي البرازيل من أجل إعادة المسار الديمقراطي والاجتماعي إلى طريقه الصحيح... في كل هذه البلدان المتواجدة في قارات مختلفة ونمو اقتصادي غير متكافئ وثقافات وتقاليد وديانات مختلفة، خرج الشعب في الكثير من المرات بغفلة من الجميع وبدون توجيه أو الحاجة إلى التنظيمات السياسية التقليدية وأحيانا ويا للعجب ضد الحكومات التي منحها أصواته حتى تتمكن من تسيير... يبدو أن الشعب تحرر من شيء ما خلال بداية القرن الواحد والعشرون... إن المتتبع لانتفاضات الشعوب وخاصة الربيع العربي من تونس إلى مصر والمغرب واليمن والبحرين وليبيا وسوريا... سيفاجئ كيف انطلقت الشرارة الأولى مع "البوعزيزي" بتونس لتأتي على الأخضر واليابس وتقلب أنظمة في رمشة عين كنا نظن أنها خالدة إلى الآبد... إني من الذين يعتقدون أن الانتفاضات الحالية فاجأت أمريكا والغرب والحكام... هناك شيء ما نفتقده في التحليل لما وقع ويقع وسيقع... لقد أصبح جيل الشباب، قائد ثورات الشعوب الحديثة، يجر معه كل فئات الشعب إلى المعركة وحين يستطيع إقناع الطبقة العاملة والفئات المنتجة والعاملين بالإدارة والمثقفين إلى مطالبه تصبح القضية شبه رابحة... الشباب والإنترنيت والفايسبوك والعولمة قضايا جديرة بالتحليل، إذ كيف يعقل أن يُصْبِحَ ويَمْسِي شاب على الإدلاء برأيه وموقفه في العالم الافتراضي ولا يُسْمح له بذلك في العالم الواقعي... أصبح الشاب بنقرة واحدة يحدد اختياره "أحب" أو "لاأحب" ويمكنه أن يتفاعل مع كل شباب وقضايا العالم في أصغر قرية وأكبر مدينة... هل تغير العالم وتغيرت الشعوب ؟ هل دخلنا مرحلة جديدة في تاريخ البشرية ؟ هل استنفذ النظام السياسي الديمقراطي دوره ؟ هل ما زال هناك دور للتنظيمات السياسية التقليدية ؟ إنها أسئلة أطرحها عليكم للإجابة عنها... البعض منكم سيقول، لم تجب على الأسئلة التي طرحتها في بداية هذا المقال حول ما يفكر فيه الشعب المغربي وحول ما سيفعله إزاء مشاكله وهمومه ومطالبه ؟ وسيقول البعض الآخر أنني خرجت عن الموضوع... لكني سأدافع عن رأيي كون الجواب على سؤال يتعلق بالشعب الذي أنتمي إليه لن يكون شاملا إن لم أضعه في إطاره العام، ما دام الشعب المغربي كأي شعب من شعوب العالم يعيش في عالم أصبح كقرية صغيرة وإذا استطعتُ فهم ما يقع في العالم سيسهل تحليل ما يقع في رقعة وطني ومدينتي... المهم أنه ما زال يتوجَّبُ عَلَيَّ الجواب فيما يفكر فيه الشعب المغربي وما يمكن أن يفعله لصالح الوطن والتاريخ... وأنتم هل أجبتم على الأسئلة وهل مستعدون لتقديمها لنقرأها ونصححها ونقيمها كما أنتم فاعلون مع مقالي هذا، تماما كما يفعل الشباب على الفايسبوك، إن أعجب بشيء ينقر على كلمة "أحب"، أو إن لم تعجبه يكتب بلغته تعليقا ويرسله لكي يصبح التعليق متاحا قراءته من طرف كل أصدقائه في العالم الافتراضي والنقر على "أحب" أو التعليق على التعليق وهكذا دواليك ؟