بداية يملي علي واجب الاعتراف تقديم الشكر والامتنان للقائمين على موقع جريدة هسبريس الإلكترونية المغربية الذين أتاحوا طيلة شهر رمضان لنشر حلقات هذا الموضوع؛ كما أشكر الإعلامي المقتدر السيد محمد الراجي على تيسير النشر لأول مرة في هذا المنبر الإعلامي الجاد وعلى تشجيعه لي في الاستمرار على إتمام هذه الحلقات؛ كما أحيّي متتبعي هذه الحلقات؛ من قارئات وقراء جريدة هسبريس طيلة هذا الشهر، وخاصة منهم المسمى "المجيب" الذي كانت كل تعاليقه وتساؤلاته تتعلق بصميم المواضيع المعالجة، بل كل تساؤلاته وتعاليقه هي بمثابة أرضية لبحوث ودراسات أكثر تعمقا مما كنت أعرضه؛ وكم تمنيت أن أتفاعل معه كلما تدخل بتساؤل أو بسؤال أو بتعليق؛ لكنني ممن يعتبرون أن "السؤال أهم من الجواب"؛ فشكرا له على ما قضيناه معه من متعة تعميق الرؤية. لقد توخينا من معالجة هذا الموضوع: "الأساطير المؤسسة لاكتشاف الموارد المائية واستغلالها"، فقط، مقاربته مقاربة تصنيفية لنماذج من "عيون الماء" التي تمكنا من القيام بالتحري الميداني لها؛ أو اطلعنا عليها من خلال أبحاث ودراسات أو انطلاقا من مقالات صحفية؛ رغم يقيننا بأن مثل هذا الموضوع يستدعي مقاربته مقاربات متعددة الاختصاصات؛ وذلك من أجل تفكيك العلاقة بين المتخيل والرمزي من جهة، وبين الواقع من جهة أخرى. كما أننا اعتمدنا متونا متداولة شفويا، أو تم ورودها في وسائل إعلامية متنوعة بشكل عرضي في أغلب الأحيان؛ لا تدعمها إلا بعض التمثلات التي تقترحها بعض الدراسات الوصفية لمستكشفين أجانب توجهها خلفيات أيديولوجية نابعة من مرجعيات تبحث في ما يمكن أن يعضد مقابلة المجتمعات البدائية بالمجتمعات المتحضرة. ومن بينها دراسات تناولت بعض جوانب المتخيل للمجتمعات التي توصف ب "مجتمعات بدون كتابة"، معتمدة مناهج البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية؛ لكن عيبها أنها هيمنت عليها خلفيات أيديولوجية قائمة على نظريات مقابلة المجتمعات البدائية بالمجتمعات المتحضرة. ولذلك، أعتبر المعالجة الحالية لهذا الموضوع مشروعا لتعميق البحث فيه أكثر من محاولة استخلاص نتائج مّا حوله. وذلك بالمزاوجة بين تعميق البحث النظري الذي تستدعيه مقاربتة مقاربة علمية موضوعية، والقيام ببحث ميداني أوسع وأشمل للعناصر التي تقتضيه تلك المعالجة النظرية، بالإضافة إلى اختيار المنهجية الأكثر ملاءمة؛ وذلك لأن اهتمامنا بموضوع : "الأساطير المؤسسة لاكتشاف الموارد المائية واستغلالها (العيون نماذجا)، من وجهة نظر أنتروبولوجية، هو البحث عن كيفية تأطير المتخيل والرمزي للواقع المعيش في مجتمعات تعيش مرحلة الانتقال من نمط الترحال(Nomadisme) والرعي(Pastoralisme) كنشاط أساسي؛ إلى نمط الاستقرار الذي يزاوج بين أشغال الزراعة (Agriculture)والانتجاع (Transhumance)؛ والوقوف على كيفية نشأة تجمعات سكنية وسكانية حول هذه العيون كنواة لآنشطة اقتصادية واجتماعية، بل أحيانا، وسياسية في شكل أحلاف تتقاسم الدفاع عن مصالحها والحفاظ على أمنها واستقرارها. هذا إضافة إلى ضرورة اعتماد واستحضار المفهوم الحديث ل "مفهوم الأسطورة". فقد أصبح، اليوم، مفهوم الأسطورة مخالفا لما كان عليه في العصور القديمة وفي الثقافات الشعبية وفي التمثلات العقائدية. ولا حاجة لاستحضار أبحاث كل من ميرسيا إلياد (Mircea ELIADE) الفيلسوف ومؤرخ الأديان والمهتم بالميتولوجيا (من أشهر أعماله في هذا المجال:ELIADE, Mircea (2001) Le mythe de l'eternel retour, Folio Essais. ) وكلود ليفي-ستراوس (Clude LEVI-STRAUSS) الإتنولوجي والأنتروبولوجي الذي يعتبر البحث حول الأساطير من بين أبرز اهماماته (من أشهر أعماله في هذا المجال: LEVI-Strauss, Claude ; Mythologiques : I, Le cru et le cuit (1964) ; II, Du miel aux cendres (1967) ; III-, L'Origine des manières de table (1968) ; IV, L'Homme nu (1971). وكذا موريس كَودوليي (Maurice GODELIER) الأنتروبولوجي الذي يعطي الأولوية للمتخيل على الرمزي في علاقتهما بالواقع على عكس كلود ليفي- ستراوس الذي يعطي الأولية للرمزي لفهم الواقع. وحينما نستحضر كون جل المدن المغربية الإمبراطورية (مراكش، فاس ومكناس) والعتيقة (مراكش، فاس ومكناس؛ تارودانت، طنجة، تيزنيت، فضالة وغيرها)، بل وحتى بعض العواصم العالمية (أتينا، روما، باريس وغيرها) قد ارتبطت نشأتها بأساطيرنُسجت حولها؛ فإن البحث على دلالات تلك الأساطير يقتضي اعتماد مفهوم الأسطورة بالمعنى الحديث، ويستدعي مقاربة متعددة التخصصات (التاريخية، والجغرافية، واللسانية، والأركيولوجية، والسوسيولوجية، والأنتروبولوجية، والطوبونيمية، وغيرها من مقاربات العلوم الإنسانية الحديثة)، مع الحذر من التعامل معها ك"شيء" مُعْطَى من وجهة نظر مقاربة أحادية، لا ك"موضوع" للبحث والتقصي المتعدد التخصصات. فلو اكتفينا، فقط، بعينة عيون الماء المعتمدة في هذه الحلقات، سنلاحظ أن ما أطلقنا عليها العيون المقدسة يتم اكتشافها من طرف ملاك (جبريل) أو نبي (النبي موسى والنبي إسماعيل) أو إله (الإله آمون)؛ كما أن عيون الماء التي تم توظيفها علاجيا أو اقتصاديا نُعتت بأسماء مقدسة، مثل: "عين الله"، "عين العاطي" أو بأسماء أولياء مثل: "مولاي يعقوب"، سيدي علي الشريف"، سيدي حرازم"، "عين سيدي البرنوصي"، أو بأسماء السرطين مثل "عين السلطان" (والمقصود به السلطان المولى إسماعيل العلوي)، أو بأسماء وليات مثل: "عين للا حية" (أولماس)، "عين للا ينو (طنجة)، "عين للا تاكركوست" (أمزميز، ناحية مراكش). أما التي توظف لإرواء الحيوانات أو للسقي أو للترفيه فبعضها يُنعت بأسماء حيوانات أو بأسماء أماكن مثل: "عين أسردون"، "عين عودة"، "عين السبع"، "عين الذئاب"، "عين فزوان"، "عيون وادي بوكمّاز"، "عين شالة"، "عيون تيمولاي"، "عين أباينو"، "عين أكلو"، "عين إلمكرت"، "عين ئمي ن إفري"، "عين بومال ن دادس". هذا دون ذكر عيون تيطّاوين (تطوان) التي تدل على كثرة العيون فيها والتي لا زال الإقبال على مياهها إلى اليوم ومن بينها: "عين أغبالو"، "عين أدرو"، "عين جنب الدار"، "عين كبيرة"، "العين الزرقاء" (الإسم الذي تنعت به عيون كثيرة في مناطق أخرى في المغرب وخارج المغرب)؛ ولا يسع المقام لذكر عيون طنجة والحسيمة الكثيرة والتي لا زال الإقبال على مياهها، خاصة في شهر رمضان، وبصفة أخص مياه طنجة التي تضاف إليها أوراق موسى التي يصطلح عليها محليا ب "الراندا"، والتي يتم جلبها من غابة الرميلات لأجل إضفاء نكهة النبتة على الماء والتي يعتقد أن لها خصائص صحية وعلاجية أيضا لعدة أمراض؛ وذلك بالرغم من التحفظ تجاه وسائل تعبئتها في عين المكان أو عن طريق بيعها للسكان؛ إذ قد تفتقر إلى شروط ومعايير الجودة. فيما يتعلق بالدوافع إلى معالجة هذا الموضوع؛ من الناحية الطوبونيمية؛ هو ملاحظة أن عددا كبيرا من أسماء الأماكن بالمغرب وكذا عددا كبيرا من أسماء أحياء بكثير من المدن المغربية ارتبطت تاريخيا بوجود عيون ومجاري مياه، لم يعد لها وجود اليوم ولم يتبقى منها إلا الإسم وتحولت إلى طوبونيمات تم تجفيفها من المياه التي يوما ما متدفقة بمياه عذبة صالحة للإنسان والدواب (الشرب) والنبات (السقي) ومنها ما هو صالح لمآرب أخرى (سياحية وعلاجية واقتصادية). فقد ورد في الجزء 18 من معلمة المغرب 23 إسما لعيون أصبحت تدل على أسماء أماكن أكثر منها على أسماء عيون ماء؛ هذا دون استحضار الأسماء الأخرى للعيون بالأمازيغية، مثل "تيطّ" و"تيطّاوين" و"تالا" (تاليوين) و"تاهلا" أو تاهالا" و"أغبال" أو "أغبالو" أو "أغبالة" أو "ئغبولا"؛ "أمّلن". "عيون"، كانت يوما مّا متدفقة فإذا بها تصبح دالة فقط على طوبونيمات (أعلام جغرافية، أسماء أماكن، أسماء أحياء داخل قرى أو مدن). من أمثلة ذلك "عين سيدي البرنوصي"، "عين السبع"، "عين الذئاب"، "عين البرجة"، "عين حرودة"، "عين لارميطاج"، "عين الشق"، "تيطّ ملّيل" وغيرها؛ فقد كانت حاجة فرنسا، في فترة الاستعمار، في حاجة ماسة إلى بناء ميناء الدارالبيضاء لتصدير ما تنهبه من خيرات المغرب، فجعل المخططين المستعمرين يتجاهلون المعطى البيئي والمائي وتم بناء المدينة على أنقاض عيون تم ردمها وتجفيفها، لدرجة أن الدارالبيضاء كانت تعج بحوالي 200 عين مائية مطمورة؛ عيون كانت لا تتغذى فقط من المياه المطرية بل وأيضا من جريان وادي بوسكورة الذي يبدو، اليوم، أن تخطيطا جديدا سيحول مياهها مباشرة إلى البحر. إن هذا التراث البيئي، وإن أصبح معظمه، خاصة داخل المدن، قد أصبح، طوبونيميا وواقيعا من البيئات المنقرضة أة في طريق الانقراض، في أمس الحاجة إلى تثمينه وإعادة تأهيله بأشكال أخرى تفيد الثقافة والهوية والسياحة وتنعش ذاكرة الأجيال المستقبلية. أما بالنسبة لما تمت معالجته حاليا، فيمكن حصره فيما يلي: تجدر الإشارة إلى أن المصادر التي وردت فيها أساطير اكتشاف عيون كل من "بوكَمّاز" و"إلمكَرت" و"دادس" هي أصلا بالفرنسية، وقد قمنا بترجمتها إلى العربية، وسيكون من الأمثل العودة إلى تلك النصوص في مصادرها بالفرنسية في حالة وجود غموض في النصوص المترجمة إلى العربية، ونعتذر لمؤلفيها في حالة وجود ذلك الغموض. من وجهة نظر قانونية، مجموع هذه الأساطير تمثل ما نسميه في شمال إفريقيا "إزرفان" أي العرف أو القانون العرفي؛ إذ لها أهمية حاسمة في مجال قانون الماء المحلي، لأنها تبرر حقوق الماء المحلية تجاه الجماعة وتجاه الخارج(RIAUX, Jeanne (2006),p. 181). انطلاقا من مختلف روايات الأسطورة، نستنتج أن مكتشف العين ي/تختلف باختلاف المجالات والثقافات والأزمنة والوضعيات الاجتماعية السابقة لمكتشف(ة) العين. وهكذا نجد الكبش (عيون سيوة)؛ الملاك أو الطفل (زمزم)؛ النبي (موسى و12 عشر عينا)؛ الملاك (عين العذراء)؛ الكلب (تيزنيت وبومال ن دادس)؛ الكلبة (إلمكَرت)؛ مجموعة كلاب (دادس)؛ أسردون (بني ملال)؛ عفريت ذو سبعة رؤوس (ئمي ن ئفري بدمنات)؛ ماعزة (بوكَمّاز)؛ راعي غنم (تيمولاي ئزدّار)؛ باختصار شديد: في المشرق تتدخل قوى غيبية؛ في سيوة يتدخل الكبش الذي هو في نفس الوقت رمز للإله آمون الذي أقيم له معبد كان له تأثير كبير، لا فقط في الحضارة المصرية القديمة، بل وايضا في الحضارة اليونانية وحتى الرومانية؛ أما في شمال إفريقيا (المغرب نموذجا) فنجد الحيوان و/أو الراعي (ة). أسطورة اكتشاف العين تحدد مجموعات المستفيدين، كما تحدد علاقات التحالف والصراع بين وداخل كل مجموعة سوسيوهيدروليكية. وفي هذا الصدد تقول "رييو جان": ""هناك موضوعان للتاريخ الميتي (الأسطورة) يهمان تشكل توزيع الماء: الأول يتمثل في أسطورة تأسيس مختلف القرى بما فيها المتواجدة في المجال السوسيوهيدروليكي، المرتبط باكتشاف العيون. هذه الأسطورة ترسم حدود المجموعات التي لها الحق في استغلال مياه العيون وفي التوزيع الأصلي لحقوق الماء. والثاني خاص بعلاقات التحالف والمعارضة الموجودة داخل كل مجموعة سوسيوهيدروليكية" (RIAUX, Jeanne (2006),p. 181). نلاحظ أن رقم 7 يتكرر في الأساطير المؤسسة لاكتشاف العيون ولاستغلال مياهها حين تتم الإشارة إلى الحرب التي قامت بين المتنازعين، حول حقوق الماء، دامت سبع سنوات كما ورد ذلك في رواية من روايات أسطورة بوكَمّاز التي تقول: "حسب الأسطورة، دامت الحرب بين رّباط وإباقالّيون سبع سنوات" (RIAUX, Jeanne (2006),p. 185) وقد جاء أيضا في أسطورة اكتشاف عين تيمولاي ئزدّار: "دخل سكان تيمولاي في حروب مع ايت جرار وانزيفت المجاورة لهم؛ "فقامت حرب زبون بينهم سبع سنين، يعين التيمولائيين المجاطيون والأخصاص ويعين الجراريون الإبراهيميون" (RIAUX, Jeanne (2006),p. 185). ("سبع رجال في للا تاكركوست"،"سبع عيون" (بين فاس ومكناس)؛ "حرب دامت سبع سنوات"؛ ...). اكتشاف العين في جل، إن لم نقل في كل، روايات الأسطورة يعتبر مظهرا من مظاهر الانتقال من وضع الترحال والانتجاع إلى وضع الاستقرار والاهتمام بأشغال الزراعة. فيما يتعلق بتحديد تسميات المستفيدين وحصر حقوق الاستفادة في إطار وحدات اجتماعية معينة، تتباين المواقف بتباين الروايات؛ خاصة وأن أغلب الروايات شفوية تتغير عناصرها بتغير الرواة ومع مرور الزمان، إن لم تكن محددة كتابة ولم يكن لها مرجع مكتوب واحد. لكن، بعد تحديث أساليب الري، أهملت كثير من وسائل الري التقليدي، بما في ذلك بعض العيون التي ساهمت سنوات الجفاف وقلة صيانتها إلى اختفائها. كما ظهرت وظائف أخرى للعيون الاستشفائية والسياحية التي أصبحت نواة لتجمعات عمرانية تستجيب لحاجيات هذه الوظائف ولتجمعات سكانية تعمل على الاستفاذة مما يروج حول هذه العيون الاستشفائية والسياحية من أساطير و"كرامات" و"طقوس" تجلب إليها زبائن يقدمون خدمات أو زوارا متنوعي المقاصد العلاجية أو السياحية. أما فيما يتعلق بالتوظيف العلاجي والسياحي والاقتصادي لمياه العيون، فإننا نلاحظ تمركزه في كل من محيط مدينة فاس (من بينها: "عين سيدي حرازم"، "حامة مولاي يعقوب"، "عين الله"، "عين سايس") وإموزار كندر ("عين سلطان") وإفران (من بينها: "عين إفران" و"عين بنصميم" و"عين فيتيل"، "عين ربيعة") وأولماس (من بينها: "عين سيدي علي الشريف"، "عين أولماس"، "عين للا حية"، مياه معالجة "باهية"، "عين أطلس"، "عين حمو أكنكام"). لكن إذا كان محيط فاس ومنطقة أولماس ومنطقة إموزار كندر إفران الأطلس المتوسط تستأثر بتعبئة المياه المعدنية الطبيعية الغازية وغير الغازية ومياه المائدة، فإن مناطق أخرى بدأت، بدورها، تقوم بالتوظيف لاقتصادي لمياه العيون (خاصة في إقليمأكادير مسوقة علامات "أمان سوس" و"مازين"). أما التوظيف العلاجي والسياحي فيتواجد في كل مناطق المغرب، بالرغم من الافتقار إلى البنيات التحتية لتشجيع السياحيتين العلاحية والترفيهية والافتقار إلى مراقبة تلك المياه لضمان جودتها وفائدتها سواء بالنسبة للتوظيف العلاجي أو الاستجمامي. كما أن هناك حاجة إلى تثمين هذا التراث البيئي المائي، في مختلف أبعاده، نظرا لما يشكل وسيشكل من أهمية قصوى في المستقبل المنظور وبالنسبة لأجيالنا المستقبلية؛ مع ضرورة التفكير في كيفيات استثمار بعده التاريخي للحفاظ على الذاكرة التي علينا أن نمررها لأجيالنا المستقبلية. *باحث في الأنثروبولوجيا