الماء كمادة للحياة كان عبر التاريخ البشري مرادفا في وجوده للخصب والنماء والعيش والاستقرار والأمن.. فأينما وجد الماء وجدت إلى جواره سلالات بشرية؛ سواء على مشارف الجبال والسهول أو محاذية للأودية والأنهار. وقد أكدت علوم الآثار والحفريات Archaeology & Paleontology للإنسان، في الأزمنة الغابرة، أن هناك حضارات بائدة ازدهرت بالقرب من ضفاف الينابيع والأنهار والأودية، منها حضارة النيل نسبة إلى عصر الفراعنة، وحضارات الهلال الخصيب نسبة إلى نهري دجلة والفرات، والصين القديمة وحضارة وادي السند. فرنسا الاستعمارية والمياه المغربية كل الرحالة الجغرافيين القدماء ذكروا، في تقييداتهم، عنصر المياه الذي اشتهرت بها مناطق مغربية عديدة. وذهب بعض الجيولوجيين إلى أن بلادا شاسعة بالمغرب كانت مغمورة بالمياه قبل أن تجف، وذلك لقرون قبل الميلاد. وتحتفظ بعض الوثائق التاريخية بأن فرنسا، قبل إقدامها على احتلال جهات واسعة من المغرب، كلفت خبيرها شارل دوفوكو Charles de Foucaulde سنة 1883 بإعداد خارطة بالموارد المائية التي يمتلكها المغرب، بغية استثمارها في مجالات الاستيطان والاقتصاد المتنقل؛ وقد أثمر مجهوده، في الترحال والتنقيب، ووقوفه على أطوال ومقاسات الأنهار والعيون، في كتابه "التعرف على المغرب" Reconnaissance au Maroc. ومن ثم جاز لنا القول إن مدنا وقرى عديدة قامت على ضفاف أو محاذية لأنهار وأودية وينابيع ظلت عبر أزمنة وأحقاب تاريخية حاملة لأسمائها، ولو أن جلها نضب أو لم يعد دائم الجريان بفعل التقلبات المناخية التي أصابت المغرب. عيون المغرب المائية لا يمكن إحصاء أسماء العيون المائية بالمغرب، لتعددها وانتشارها، سواء داخل أحياء المدن العتيقة كفاس ومكناس ومراكشوتطوان أو طنجىة..أو في قراه ومداشره، حتى إن أحياء كثيرة حملت اسم العيون (جمعا) لشهرتها بتنوع ينابيعها وآبارها وعيونها؛ منها على سبيل المثال "حومة العيون"، "وسبع عيون" بفاس وضواحيها..وتكاد الأحياء العتيقة (الحومات) لهذه الأخيرة تستأثر بأسماء العيون، حتى إن الوافد لا يكاد يخطو من زقاق إلى آخر حتى يكون على مقربة من نبع مائي أو أكثر، ما يشير بوضوح إلى أن المنطقة كانت قبلة للمياه الجارية والجوفية والمراعي الخصبة قبل وقوع اختيارها تجمعا عمرانيا من قبل الأدارسة. على أن هناك أسماء ينابيع وعيون، إما بقصد الاستشفاء والتبرك، كعين الله وعين الشفاء وعين العاطي وعين الوالي..أو نسبة إلى ولي صالح، كعين أباينو (أمازيغية) عين والدي القريبة من مدينة اكلميم، وعين (حامة) مولاي يعقوب، وعين على الشريف وعين السلطان، وعين (حامة) سيدي حرازم، أو أسماء أولياء مثل عين للاحية (أولماس)، وعين للاينو بطنجة، وعين للاتاكركوست بأمزميز ضواحي مراكش. أما العيون التي توظف للسقي وإرواء الحيوانات فنجد من بينها: عين أسردون، عين عودة وعين حرودة، وعين السبع، وعين الذئاب، وعين فزوان، وعيون وادي بوكماز، وعين شالة، وعيون تيمولاي، وعين أكلو، وعين نمي إمقورن، وعيون أم الربيع جوار قرية عين لوح، وعين بومال ن دادس.. وعين تطاوين (تطوان) لكثرة عيونها وينابيعها، وعين أغبالو، وعين أدرو، والعين الكبيرة، والعين الزرقاء، وعين الشق ، وعين الشقف بفاس.. التوظيف العلاجي للعيون المائية وأطباؤنا تكاد تختص كل عين مائية، لدى الأهالي والسكان المجاورين، بميزة في معظمها استشفائية وتبركية.. ترسخ هذا الاعتقاد عبر شهادات وروايات شفاهية لأشخاص شربوا مياهها فتماثلوا للشفاء أو توهموا تعافيهم، فكان الواحد منهم يجتاز المسافات الطويلة ليحط رحاله بعين مائية، ليمكث بالقرب منها أياما. ومن الناس من يقدم القرابين لهذه العين أو تلك توسلا "لأهل العين". وما زالت هذه العادة دارجة حتى الآن في العديد من المناطق المغربية. من هذه العيون عين سيدي حرازم وحامة مولاي يعقوب وعين الله بسهل سايس، وعين فتيل ، وعين ربيعة. ولا نكاد نعثر على جرد علمي رسمي ولو موجز لأهمية هذه العيون وخصائصها العلاجية، وكل ما يتوفر عنها، بهذا الخصوص، لا يعدو أن يكون شائعات وأقوالا دارجة، كأحد أوجه الثقافة الشعبية المحلية..فكثير من المرضى تعاطوا لشرب مياهها دون نظام معين، فتفاقمت أحوالهم بدلا من أن تخف.. ! على أن هناك مياها معدنية معلبة بأسماء عيون عديدة، لكنها لا تحمل، إلى جانب مكونات عناصرها، أي وصفات علاجية، وحتى الآن مازالت غير متبناة من قبل المنظومة الصحية المغربية في العلاج الطبي. كما أن أطباءنا بجميع تخصصاتهم لا تحمل وصفاتهم الطبية استعمال المياه المعدنية، أو مجرد التنصيص على عين مائية أو أخرى بقصد إمضاء فترة نقاهة بها، عكس ما هو جار به العمل لدى معظم الأطباء الأخصائيين في الأمراض النفسية والعقلية والباطنية، في الدول الغربية، إذ يصفون لمرضاهم قضاء بعض الوقت في أماكن مناخية مائية معينة، قصد الاستشفاء أو قضاء فترة نقاهة. * كاتب باحث